شهد العالم الأسبوع الماضي حدثين مهمين اضطرت فيهما الحكومات إلى تغيير قرارتها استجابة للأبحاث العلمية التي انتشرت في بعض المجلات الأكاديمية؛ في الحدث الأول قررت حكومة جنوب إفريقيا وقف استخدام لقاح شركة "أسترازينيكا" بعدما صدرت دراسة أكاديمية أجراها الأستاذ الجامعي شابير مادي، وبينت أن اللقاح غير فعال في مواجهة التحوّر الذي حصل على "كوفيد-19" في جنوب إفريقيا، على الرغم من أن حكومة هذا البلد قد اشترت مليون جرعة من هذا اللقاح. والحدث الثاني، هو أن دراسة بحثية صدرت عن مجلة علمية محكّمة هي "لانسيت"، أثبتت أن اللقاح الروسي لفيروس كورونا المسمى "سبوتنيك في" (Sputnik V)، تبين أنه فعّال بنسبة عالية تفوق 91%، حيث أدت هذه الدراسة إلى وقف التردد والتشكيك الذي كانت تبديه كثير من الدول تجاه كل ما يصدر عن روسيا، وأصبحوا أمام دليل علمي تنهار أمامه كل المواقف السياسية. على الرغم من الإعلان عن هذا اللقاح في روسيا منذ حوالي 6 أشهر، فإن هذه الدراسة وحدها وبالتالي قرار العلم وحده هو الذي أدى إلى انهيار جدران التشكيك، وباتت الدول "تصطف بالدور لطلب اللقاح الروسي"، بحسب تقرير لمجلة "فورتشن" الأميركية.
من أجرى هاتين الدراستين هم باحثون علميون أكاديميون يعتمدون على التجربة العلمية الواقعية، وفق منهج علمي متعارف عليه عالمياً ويعرفه الباحثون في كل الجامعات والمراكز البحثية العالمية، وعندما يتكلم العلم يصمت المحللون وأصحاب الأجندات السياسية الذين يعتمدون على خبراتهم المتراكمة أو نظريات المؤامرة.
وعلى الرغم من أن رؤساء الحكومات في العالم ما زالوا مغرمين بأصحاب "الخبرة السياسية" لاستلام الحقائب الوزارية أو مؤسسات الدولة، ويندر أن تجد حكومة يطغى على قادتها التكنوقراط أو الخبراء العلميين، فإن وجود هؤلاء الباحثين على مقربة من الحكومة لمراجعة قراراتها وتصويبها، أمر لا خلاف عليه، برغم الاختلاف ربما على قدرة الباحث العلمي والأكاديمي على دخول المعترك السياسي وألاعيبه بشكل مباشر. ولو تراجعون التاريخ فستجدون أن التصويبات التي جاءت للقرارات الحكومية التي سادت لفترات طويلة من الزمن لم تأت إلاّ عبر الباحثين العلميين الذين أوقفوا عبر الأبحاث العلمية المحكّمة القرارات الارتجالية التي كان يتبناها رجال السياسية والاقتصاد دون أساس علمي. واليوم يعزو العالم بأسره -على سبيل المثال- تصحيح سياساته الضريبية إلى باحث اسمه آرثر لافر، وكان مدرساً في "جامعة شيكاغو" عندما التقى صدفة في أحد المطاعم مع اثنين من السياسيين في أميركا عام 1974، وكانا يمتدحان الضريبة المرتفعة التي تفرضها الحكومة، فأثبت لهما أن ما يقولانه كان خاطئاً، وأن القليل من الضريبة خطأ والكثير منها خطأ أيضاً، وشرح لهما ما بات يعرف اليوم بمنحنى لافر والذي غيّر سياسات الضريبة في أميركا أولاً، وذلك عندما تبنى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان هذا المنحنى، وجعل لافر عضواً في اللجنة الاقتصادية، ثم أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تعيينه مستشاراً اقتصادياً، حيث أسهمت أفكاره في تخفيف الآثار الاقتصادية لأزمة كورونا.
العلماء في كرسي السائق
ما من شك في أن أحد الجوانب الإيجابية لفيروس كورونا والتي أيقظت العالم من تحيزاته ومنطقة الراحة التي ألِفها، هي أن الباحثين والعلماء تقدموا بشكل واضح إلى كرسي السائق بعد أن كانوا غالباً في الكرسي الخلفي. وباتت الحكومات والشركات تدرك أن عليها الاعتماد أكثر فأكثر في قراراتها على ما يسمى بالقرارات المدفوعة بالبحث العلمي أو القرارات التي تعتمد على البيانات، فعلى صعيد الشركات تزايدت مخصصاتها للبحث والتطوير (R&D)، وباتت الشركات التي تعلمت درس الأزمة تستحدث أقساماً مخصصة للأبحاث بشكل متزايد، كما انتشرت وتزايدت اختبارات الشركات وهي التي يطلق عليه اختبارات (أ/ب) لتجربة قراراتها ومنتجاتها بشكل عملي على العملاء والمستخدمين، إذ تعتبر هذه الاختبارات نماذج لأبحاث علمية مصغّرة. وقد تفاجؤون بعدد الاختبارات المبنية على البيانات والتي تجريها الشركات العالمية الكبرى، فشركة "أمازون" تحدّث شيفراتها بناء على التجارب كل ثانية واحدة، بينما تقوم شركة "جوجل" بنحو 500 مليون اختبار في اليوم الواحد.
لكن ماذا عن الحكومات؟ لا تساعد أنظمة الحكومات البيروقراطية على المرونة وسرعة الحركة، والاستعداد لدفع المصاريف على التجارب الجانبية للتحقق من قراراتها أو إصدار القرارات الصائبة. ولبيان أهمية دور علماء الاقتصاد والسلوك وعلماء النفس في تصويب قرارات الحكومة عبر التجارب العملية والعلمية، فقد حافظت جميع الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ عام 2010 وحتى الآن على "وحدة الرؤى السلوكية" (BIT)، التي أسسها رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون، والتي احتوت على مجموعة من الباحثين والعلماء المتخصصين في اختبار القرارات والقوانين الحكومية، كما ساعدت الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين على تسهيل تطبيقها من قبل الناس. يقول ديفيد هيلبرت، رئيس هذه الوحدة في افتتاحيته لكتاب أصدره هذا الفريق، وترجم للعربية بعنوان "ابدأ صغيراً": إن تأسيس هذه الوحدة جاء لتجنب "الضغوط البيروقراطية البالية، وإيجاد طريقة ذكية لتشجيع الناس ودعمهم على اتخاذ خيارات أفضل لأنفسهم". ولم يكن كاميرون هو الوحيد الذي ألصق مكتبه بمكتب مجموعة من العلماء لاختبار القرارات وفقاً للعلم، بل تبعه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما حينما دعا زميل دراسته الأستاذ الجامعي كاس سنستين عام 2015 للمساعدة في تأسيس "وحدة الرؤى السلوكية" (SBST)، ثم تبعته أستراليا في عام 2016، وهكذا إلى أن وصلت إلى الدول العربية، فقد ظهرت وحدات مشابهة في السعودية والإمارات وقطر وعمان تحت مسميات مختلفة، فقد اعتمدت دولة الإمارات "مختبر التشريعات ومختبر السلوكيات"، وهما وحدتان تعملان على اعتماد العلم والاختبار لاتخاذ أفضل القرارات الاستباقية للمستقبل. كما أنشأت الكويت مؤخراً مختبراً لقياس تأثير التشريعات الحكومية قبل صدورها عبر وحدة تسمى "كابال".
لا نعلم بالطبع عن التطبيق العملي لعمل هذه الوحدات العربية، ما لم تبدأ بإصدار تقارير عن عملها والأبحاث التي تجريها، كما يحدث في وحدات الرؤى السلوكية العالمية، والتي تصدر تقارير مباشرة وتنشر تجاربها العلمية في تقارير تصدر سنوياً عبر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
الجامعات العربية والحلقة المكسورة
ولكن ماذا عن دور الجامعات العربية؟ هل تقدم أبحاثاً تستحق أن تكون مشاريع علمية موثوقة تعتمد عليها الحكومات في اتخاذ قرارات جيدة أو تعديل تشريعاتها القائمة؟ الجواب عن هذا السؤال، هو "نعم، ولكن". نعم هناك القليل من الأبحاث الجيدة والتي تستحق الاهتمام من واضعي السياسات العامة، وليس ذلك مفاجئاً فنحن نعلم جميعاً أن حضور الجامعات العربية في تصنيف أفضل الجامعات العالمية والذي تصدره "كيو إس" هو تصنيف مخجل بكل معنى الكلمة، فلا نكاد نجد مثلاً، في تصنيف العام 2021 أي جامعة عربية بين أفضل 100 جامعة عالمية، ونجد جامعتين فقط في المئة الثانية من أفضل الجامعات العالمية. وبالمجمل كانت فقط 42 جامعة عربية بين تصنيف أفضل 1,000 جامعة عالمية، والتي يتم تقييمها من حيث السمعة الأكاديمية واستشهادات البحث العلمي وغيرها من العوامل.
ومن خلال عملي في "هارفارد بزنس ريفيو"، لطالما كنت على تواصل مع الجامعات العربية في محاولة للحصول على الأبحاث العلمية لنشرها بشكل مبسط لممارسي المهنة، ووضعها أمام أصحاب القرار في الشركات والحكومات للاستفادة منها، فاكتشفت ندرة الأبحاث ذات التصنيف العالي وفقاً لـ "تقييمات سكوبس" وغيرها من المعايير العلمية الأكاديمية، ومع قلتها فإن رغبة واهتمام الباحثين بمشاركتها ونشرها باللغة العربية للعموم من قادة الحكومات والشركات كانت قليلة جداً، فما هو السبب؟ توضح منظمة "اليونيسكو" التابعة للأمم المتحدة في دراسة نشرتها بالتعاون مع "المركز الوطني اللبناني للأبحاث العلمية" عن الأبحاث في الجامعات العربية، وأطلقت عليها "الحلقة المكسورة بين الجامعات العربية والأبحاث والمجتمع"، أن غرق المدرسين والباحثين العرب في واجبات التعليم والتدريس لا يدع لهم مجالاً للبحث، وقد عبّر أحد الأساتذة في "جامعة حلب" السورية، أنه عمل مدرساً في اليابان لمدة 12 عاماً، حيث أنجز ونشر خلالها 12 بحثاً عملياً، بمعدل بحث في كل عام، ثم عاد إلى سورية، وخلال 12 عاماً في الجامعة السورية لم يكن لديه الوقت بسبب ضغط واجبات التدريس والواجبات الإدارية لإنجاز حتى بحث واحد.
كيف تستفيد الشركات من الأبحاث؟
إضافة إلى ذلك، يواجه الباحثون العرب مشكلة تواجه الباحثين في كل العالم -وهو مفهوم خاطئ متوارث في أنظمة الجامعات وباحثيها- وهي أنهم يهتمون فقط بمشاركة أبحاثهم مع المجتمع العلمي والأوساط الأكاديمية ليحصلوا على الاستشهادات من أبحاثهم في أبحاث أخرى، والوصول إلى الترقية الأكاديمية، هذا كل ما يهم. لم يعتد الباحثون الأكاديميون في هذا النظام المغلق على الاهتمام بالوصول إلى المجتمع ككل بما فيه الشركات أو واضعو السياسات للاستفادة من أبحاثهم. وكانوا وما زالوا يعتقدون أن من يهتم بأبحاثهم يمكنه أن يجدها في الدوريات الأكاديمية، ويحاول فك طلاسم البحث العلمي المكتوب بصيغة أكاديمية معقدة وعسيرة على الفهم أو الوصول إلى استنتاجات وتطبيقات عملية بالنسبة للعموم. وأكرر أن هذا المفهوم السائد، هو خطأ متوارث باتت تدركه المؤسسات الأكاديمية عالمياً، وظهرت دعوات في السنوات الأخيرة لربط الجامعات بالمجتمع وتغيير هذه العقلية بعد تغيير أنظمة الجامعات، لتسمح بمنح الترقية للباحثين لمجرد نشر مقتطفات من أبحاثهم في الصحف اليومية والمؤتمرات العامة، أو عندما يجري تطبيقها من قبل المؤسسات ذات الصلة ببحثه. يمكنكم قراءة المزيد عن هذا التوجه في هذا المقال من "هارفارد بزنس ريفيو" (حان الوقت لجعل أبحاث كليات إدارة الأعمال أكثر صلة بالشركات).
نحتاج في منطقتنا العربية إلى إيمان من المجتمع الأكاديمي وقادة الحكومات والشركات لأهمية إصلاح تلك الحلقة المكسورة، وتحقيق ذلك التعاون. ومع أننا لا ننكر بعض المحاولات الخجولة من بعض الجامعات والكليات العربية في إحداث أقسام بحثية بدأت فعلياً تنتج حلولاً للشركات والحكومات، إلّا أنها ما زالت بحاجة إلى تغيير أنظمتها الداخلية بما يتوافق مع هذا التغيّر المطلوب لجعل الجامعات ذات صلة حقيقية بالمجتمع وإخراجها من عزلتها التاريخية، وذلك لتحقيق الهدف المتمثل في استجابة الحكومات للأبحاث العلمية.
ودعونا نتذكر أن الباحثين العرب كانوا دوماً أصحاب فضل في إصلاح سياسات الدول والتأثير على قراراتها السياسية وفقاً للعلم، وبالمناسبة، فإن آثر لافر صاحب منحنى لافر الذي ذكرناه آنفاً والذي غيّر تعامل الدول -بما فيها الدول العربية- مع فكرة الضريبة منذ ثمانينات القرن الماضي، يعترف هو نفسه في مقال كتبه أنه ليس صاحب الفضل في هذه الفكرة بل يُرجع الفكرة إلى العالم العربي ابن خلدون.