إفساح المجال للحزن بعد عام من الخسائر

6 دقائق
الشعور بالحزن بعد عام 2020
الرسم التوضيحي: مايكل بيدنارسكي

ملخص: في عام 2020 الذي شهد انتشاراً للجائحة، يملأ الحزن كل الأماكن، لكن ليس لدينا مكان نعبر فيه عن حزننا سوى الإنترنت. خسرنا أرواحاً عزيزة، وخسر الكثيرون وظائفهم، كما فقدنا التقارب اليومي في علاقاتنا، ولهذا يجب علينا التعبير عن الحزن بعد عام 2020. إذ يمكن لهذه الخسائر مجتمعة أن تعرضنا للخطر، وهي تستدعي العمل على إدارتها. يجب علينا أولاً أن نفهم الطرق الناجحة التي تساعدنا في التعامل مع أحزاننا الشخصية، والأسباب التي تجعل العمل الافتراضي عاجزاً عن تحقيق الأثر ذاته. ثم يتعين على المدراء القيام بثلاثة أشياء كي يمنحوا موظفيهم مساحة للحزن، وهي كما يلي: ابدأ بالاعتراف بأن الأمور لا تزال غير طبيعية؛ ثم قدم الحقيقة، خذ أسئلة الموظفين وقدم أجوبة صادقة عليها، أو اعترف بعدم امتلاك هذه الأجوبة؛ وأخيراً، قدم أهدافاً ملموسة ومبادئ توجيهية للعمل. تساعد هذه الإجراءات في تقديم قاعدة صلبة يقف عليها الموظفون في الواقع وتوجيههم نحو الحاضر، وليس نحو الماضي الذي خسروه أو المستقبل المجهول.

 

على مدى قرابة 20 عاماً، بعد أن أصيب والدي بنوبة قلبية كنت أخاف أن أفقده وأنا بعيد عنه، من دون أن أعينه أو أودعه. وهذا ما حدث. إذ توفي فجأة في صباح أحد الأيام في شهر سبتمبر/أيلول، فسافرت عائداً إلى منزل طفولتي بعد ظهر ذلك اليوم. لم يكن قد غادر المنزل بعد، وجدت جثمانه ممدداً، نائماً نومته الأبدية بعد أن استُنفدت منه الحياة. حامت حولي بعض الوجوه المألوفة وأنا أدخل إليه وأحضنه، محاولاً الحصول على أكثر ما سأفتقده منه، حضنه الدافئ السخي، لكني كنت متأخراً جداً.

غرقت في روتين العزاء طوال الأسبوع التالي. كانت أيامه جنونية، تخبطت فيها ما بين الطقوس والزيارات والإجراءات التي يجب اتخاذها، وساعات من الاستماع إلى كثير من عبارات التعزية والمواساة العاطفية ومشاركة الحزن، لأفضي بعد ذلك إلى ليال يخيّم عليها سكون شديد. وعندما توقفت الضوضاء وهدأت الأمور، جلست إلى مكتب والدي وفتحت جهاز الكمبيوتر المحمول، وانغمست في العمل. وجدت الراحة في العمل ثم في العودة إلى المكتب بعد فترة وجيزة. إذ انشغلت مرة واحدة بمهماتي ومواعيد التسليم النهائية وزملائي، فخرجت من حالة الحزن وشعرت بحضور والدي. العمل هو المكان الذي كنت أراه فيه حياً، وهو المكان الذي كنت أجده فيه دائماً.

أعود كثيراً إلى هذه الذكريات في هذه الفترة المليئة بالخسائر المتمثلة بفقدان الأحبة وفقدان العمل وفقدان القرب وفقدان طريقة الحياة. في عام 2020، ملأ الحزن كل الأماكن، وعلى الرغم من أن هذا الحزن كان محور العديد من المؤلفات والنقاشات، إلا أن الشعور به عند نهاية السنة كان أشد. أخبرني أحدهم أنه بكى عندما سمع أغنية العيد، ولم يفاجئني ذلك. فأغنية "كل ما أريده في العيد هو أنت" تحمل معنى مختلفاً تماماً عندما تكون قد خسرت شخصاً عزيزاً.

أجل، في عام 2020، ملأ الحزن كل الأماكن، لكن ليس لدينا مكان نعبر فيه عن حزننا سوى الإنترنت. ومع انتقال الحياة الاجتماعية وحياة العمل إلى العالم الافتراضي، خسر الكثير منا إمكانية المشاركة في التقاليد المعتادة والتجمعات والطقوس الروتينية التي كانت تساهم في مواساة المحزونين. يمكن لهذه الخسائر مجتمعة أن تعرضنا للخطر، وهي تستدعي العمل على إدارتها. لكن بأسلوب مختلف عن أسلوب الإدارة الذي اعتدنا عليه طويلاً.

حزن معقد

الحزن هو التجربة الشخصية التي نخوضها مع الخسارة. والحداد هو العملية التي تعلمنا، بمساعدة الآخرين، أن نواجه خسارتنا ونعيش فوضى الحزن، ثم أن نعود إلى الحياة ببطء. السنة الماضية، وبعد أن قرأت الكتاب المؤثر " الحزن فعال" (Grief Works قابلت مؤلفته أخصائية العلاج النفسي البريطانية، جوليا صموئيل، لمناقشة مقالة ألفتُها بالتشارك مع الأستاذة في "جامعة أكسفورد"، سالي ميتليس، حول الحداد في المكتب. وضحت لي جوليا صموئيل "كم يمكن أن تكون تجربة الفقدان جسدية في الحقيقة". فالحزن، أو الحداد، هو أمر نفعله بأجسادنا ومع الآخرين، وهو يتطلب القدرة على التحمل ويحتاج إلى مساحة.

كما أكدت لي أنه بالنسبة إلى الكثير من الأشخاص، العمل ومكان العمل هما من المساحات التي تساعد على الحداد، وهذا ما ينطبق عليّ تماماً. فالعمل قادر على منحنا الشعور بالاستقرار والقدرة على توقع الأمور المستقبلية، والمكتب يمنحنا شعوراً بالراحة والاسترخاء، والروتين قادر على تهدئتنا. وفي بعض الأحيان تكون قيمة الزملاء الذين يبدون اهتماماً مساوية لقيمة العائلة، إلا أنهم أقل تطلباً. فمن الممكن أن تحضن زميلاً فُجع بعزيز، أو أن تجتمع مع أفراد الفريق عند فقدان واحد منكم، أو أن تعمل بصمت بجوار الآخرين وتنسى حزنك قليلاً.

إذن، ما الذي سيحدث الآن بعد أن حاصرنا الحزن ونحن نعمل ونعيش عن بعد على مدى أشهر طويلة؟ “قالت لي جوليا صموئيل مؤخراً: "سيبقى كثير من الحزن مجمداً، لأن كثيراً من الناس لا يحصلون على ما يكفي من الدعم، ولا يمارسون ما يكفي من طقوس الحزن". وهذه هي الظروف التي يمكن أن تأخذ فيها التجربة الطبيعية والصحية للحزن انعطافاً مضنياً يُعرف باسم "الحزن المعقد". يشير هذا التعبير إلى استمرار الألم الحاد والفتور والتشوش فترة طويلة بعد الفقدان. وقد بدأ الموظفون يبلغون عن شعورهم بالإرهاق والقلق وفقدان الحس في مكان العمل. غالباً ما تفسر هذه الظواهر على أنها أعراض الاحتراق الوظيفي بعد الموجة القوية من الإنتاجية المذعورة التي شهدناها في أزمة استمرت 9 أشهر. لكن في سنة غصّت بكثير من الخسارات والبعد، قد تكون هذه الظواهر تعبيراً عن موجة جماعية من الحزن المعقد.

حتى من يفضلون العمل الافتراضي يعانون من صعوبة في الحزن افتراضياً، على ما أعتقد. مثلاً، علمت مؤخراً أن بيانات منصة "لينكد إن" كشفت عن تغيير في العادات. ففي عام 2020، كانت أعداد الأشخاص الذين ناقشوا حدادهم مع شبكات معارفهم أكبر كثيراً، لكن قد لا تكون هذه التفاعلات في الفضاء الافتراضي مؤثرة بنفس القدر كالتفاعلات الفعلية على أرض الواقع، وفقاً لأخصائي العلاج النفسي الأميركي بيل كورنيل، المختص في طبيعة العلاقات والخسائر المجسدة، والذي يؤيد استخدام تعبير العمل عن بعد بدلاً من العمل الافتراضي، كي نذكر أنفسنا بأن العمل بهذه الطريقة ينطوي أيضاً على فقدان القرب المادي.

يقول كورنيل إننا ما أن نعترف بحالة البعد التي نعيشها، سنتمكن من محاولة فهم تأثيرها. إذ من الممكن أن يكون الإرهاق الذي نشعر به بعد الاجتماع عبر اتصال الفيديو مثلاً نابعاً من حقيقة أن كل اجتماع نجريه على منصة "زووم" يذكرنا ببراعة أننا نفقد زملاءنا بعدة طرق على الرغم من أنهم لا يزالون على قيد الحياة. وكذلك، ذكرتني جوليا صموئيل بأن فقدان الألفة والأشياء المعتادة في حياة المكتب لا ينهي علاقاتنا مع العمل والزملاء. لكن إفساح المجال للشعور بالخسارة ضروري من أجل التوصل إلى طرق جديدة لحشد الحضور والصبر والدعم.

كيف نفسح المجال للشعور بالخسارة؟

لا يمكن استرجاع ما فُقد، لكن يمكن إعادة بناء المساحات اللازمة في العمل من أجل الحداد على هذه الخسارة. والمدراء هم الأفضل للقيام بذلك. فهم قادرون على تثبيت الآخرين لمساعدتهم في تجاوز حزنهم على خسارتهم، سواء فقدوا شخصاً عزيزاً أو عملاً أو القرب من الآخرين، وبذلك فهم يساعدونهم على الحفاظ على صحتهم وولائهم وإنتاجيتهم.

وبهذه الطريقة ستتمكن من التعامل مع الخسارة والحزن.

أولاً، اعترف بأن الآخرين يشعرون بالقلق والضعف والتشوش، وأنك تشعر بكل ذلك أيضاً

لا تتظاهر بأن الأمور تسير بصورة طبيعية، تحدث عن تجربتك، وشجع الآخرين على التحدث عن تجاربهم واجعل ذلك سلوكاً طبيعياً. فمجرد التحدث عن أكثر ما تفتقده من أيام العمل القديمة في المكتب وما تعانيه لتعلم طريقة التعامل مع هذه الخسارة قد يساهم في منحك شعوراً بالراحة.

ثانياً، وبعد التعاطف مباشرة، قدم الحقيقة. ها هي البيانات، وهذا ما نتعامل معه الآن

اسمح للآخرين بطرح الأسئلة، فالاستماع إليهم سيخفف من قلقهم، حتى وإن لم تملك أجوبة عن أسئلتهم. إذا كان من الصعب وضع توقعات على المدى الطويل، فمن الأفضل ألا تضع أي توقع إطلاقاً. والتحدث عن إيرادات الشركة الشهرية مثلاً وخططك للتعامل مع التراجع الشديد فيها سيكون أكثر صدقاً وأكبر فائدة من إلقاء كلمة حماسية عن مدى تفاؤلك بالأشهر الثلاثة المقبلة.

ثالثًا، احرص على تبسيط العمل. اجعله قابلاً للإدارة بدرجة أكبر

عندما نشعر بالقلق ونحن نعمل عن بعد، من المفيد التركيز على أهداف واضحة وملموسة من أجل معرفة ما هو متوقع وما هو كاف. يتمتع هذا الوضوح بأهمية أكبر مع عودة الموظفين إلى مكاتبهم من دون العودة إلى الوضع الطبيعي القديم. مثلاً، من الضروري معرفة المكان والوقت الذي يتوقع أن يعود الموظفون فيه إلى العمل وطول المدة التي سيستمر عملهم فيها. يسيطر الحزن على مخيلتنا ويملؤها بتوقعات كارثية، وتماماً كما يجد الحزين الراحة في التركيز على تنفسه أو على وجبة أو تمرين رياضي عادي، يمكن أن يجدها في العمل القابل للإدارة. وكذلك، يمحو الحزن إحساسنا بالسيطرة، والعمل يمكننا من استعادته. تقول جوليا صموئيل ناصحة: "من المفيد بدرجة كبيرة أن تقوم بعمل أنت قادر على إكماله في الوقت الذي تشعر فيه بالعجز".

تساعد هذه الإجراءات في تقديم قاعدة صلبة يقف عليها زملاؤك في الواقع وتوجيههم نحو الحاضر، وأفضل ما يمكن أن يقدمه العمل هو تذكيرنا بأننا لا نزال هنا. غالباً ما ننصح المدراء والقادة بأن يظهروا الثقة لموظفيهم ويثيروا مخيلاتهم ويركزوا على المستقبل. لكن، يقول كورنيل محذراً: "التوجيه نحو المستقبل أمر جيد، لكنه صعب عندما تكون مع أشخاص لا يملكون أي فكرة عما سيكون في الأسبوع المقبل، فما بالك بما سيكون في المستقبل".

لا أقصد من كل ذلك أن علينا التعايش مع الواقع الجديد الذي لا يمكن تحديده بصورة واضحة، فذلك سيكون بمثابة القول لمن فقد عزيزاً إنه "سيتجاوز الأمر"، لا أحد يمكنه تجاوز الأمر على الإطلاق، بيد أن البقاء في الوقت الحاضر والتركيز على حقيقة الغموض والبعد اللذين نعيشهما يمكننا من الاستمرار والحفاظ على اتصالنا بالواقع مع تعلم طريقة للتعايش مع الحزن، وربما النمو ببطء من خلاله أيضاً.

وكي يفسح المدراء مجالاً للشعور بالحزن على الخسارة، يجب عليهم أن يتحدوا شعور الخسارة بأنفسهم، الخسارة المتمثلة بفقدان المبادئ والوصفات التي لطالما كانت توجههم. سيساعدنا المدراء في استعادة موطئ قدم ثابت على أرض الواقع، واستعادة بعض الأمل ولو ببطء عن طريق ترك التفكير بالمستقبل والالتفات نحو الحاضر، وترك الخيال المشتعل والالتفات نحو رباطة الجأش، وترك الثقة والالتفات نحو الاهتمام، وقد كتبت من قبل أن التخلي عن الوصفات القديمة سيساعدنا على إضفاء الطابع الإنساني على الإدارة. وبالمثل، من الممكن أن تفضي هذه الأشهر التي فقد فيها بعضنا البعض إلى إضفاء الطابع الإنساني على العمل. وإذا تمكن هذا البعد من تذكيرنا بأننا نحتاج إلى مساحة لمشاركة أحزاننا وتهدئتها، فربما يتمكن في نهاية المطاف من جمعنا مجدداً. عسى أن تكون هذه نهاية تفيض أملاً لسنة غصّت بالخسائر، ولا يكون هناك تعبير عن الحزن بعد عام 2020.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي