لماذا يمكن أن يكون العجز التجاري في الولايات المتحدة علامة على اقتصاد صحي؟

4 دقائق

في إشارة منه إلى حجم العجز في المبادلات التجارية من السلع في أميركا، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في مارس/آذار 2018، عندما أعلن خطته الجديدة بشأن التعريفات الجمركية "إننا نخسر 800 مليار دولار سنوياً في التجارة، كل عام".  وقد أعرب ترامب مراراً وتكراراً عن أساه للعجز التجاري الأميركي، فقال في تدوينة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر إنه نتيجة لذلك، "فإنه يتم منح وظائفنا وثرواتنا لبلدان أخرى".

إن المناوشات التجارية التي اندلعت نتيجة لذلك تنطوي على احتمالية أن تصبح حرباً تجارية شاملة من النوع الذي أشعله قانون تعريفة هولي سموت لعام 1930، والذي يُنسب إليه على نطاق واسع أنه السبب وراء حدوث الكساد الكبير أو وراء تعميقه.

ولكن ما هو العجز التجاري، وما الذي يسببه؟ وهل هو أمر سيئ؟

على مدى عقود، عانت الولايات المتحدة من عجز في المبادلات التجارية من السلع، – وبعبارة أخرى، تستورد من السلع أكثر مما تصدر – الرواية السائدة هي أن "العجز التجاري" الأميركي مطرد التزايد عبارة عن دالة في شيئين اثنين: (1) توافر العمالة الرخيصة في الخارج. (2) عادات الاستهلاك مطلقة العنان لدى الأميركيين. ونتيجة لذلك، حسب الرواية السائدة، فإن الولايات المتحدة اضطرت إلى استيراد كميات متزايدة من رأس المال من الاستثمارات بواسطة الحكومات الأجنبية والشركات والأفراد "لتمويل العجز التجاري"، وبالتالي أصبحت دولة مدينة.

اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: تعريف الميزان التجاري

على الرغم من أن هذه رواية مقنعة، إلا أنه لا يوجد في واقع الأمر أية دليل يدعم الاستنتاج بأن العجز في السلع المتداولة يؤدي إلى استيراد رأس المال الصافي. صحيح أن هناك أدلة كثيرة على أن هذين الأمرين يحدثان معاً، ولكن هذا يؤكد ببساطة طريقة قياس الاقتصاد الكلي، إذ أنه وفقاً لهذه الطريقة يجب إن يكون مجموع ثلاثة عناصر من ميزان مدفوعات الدولة صفراً: ميزان الدولة في تجارة السلع، وميزانها في تجارة الخدمات، وميزانها بين رأس المال الداخل/الخارج. لذلك، إذا كان الإتجار في السلع والخدمات يعاني من عجز جماعي، فيجب عندئذ أن تكون التدفقات الرأسمالية إيجابية بمقدار مساوٍ لهذا العجز.  لكن هذه العبارة لا تؤكد أن العجز التجاري يتسبب في تدفق رأس المال. وبالمثل يمكن أن يكون صحيحاً أيضاً وبالقدر نفسه أن التدفق يسبب العجز التجاري.

إذن، ما الذي يسبب العجز التجاري؟ ليست هناك إمكانية للجزم يقيناً بالسبب في ذلك.  بيد أنه من المفيد أن نتذكر أن المرة الأخيرة التي كان لدى أميركا فيها فائض تجاري سلعي كبير وثابت (مقارنة بالاقتصاد في ذلك الوقت) حدثت عندما كانت تصدر كميات هائلة من رأس المال إلى أوروبا لتمويل مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية.

لنجري هذه التجربة الفكرية البسيطة: تخيل أن بلدك هي أكثر بلدان العالم جذباً لاستثمار رأس المال فيها، فهي تمتلك أكبر وأغنى سوق في العالم، كما أن عملتها هي العملة الأكثر استخداماً والأكثر تداولاً في العالم، كما أنها غاية الدقة والحرص بشأن حماية حقوق المستثمرين. وتخيل أيضاً أن اقتصادها المتقدم يقود العالم في التحول إلى اقتصاد قائم على الخدمات، ونتيجة لذلك، فإنها تتمتع بأكبر فائض تجاري في الخدمات في العالم، بعامل يتجاوز ضعف أكبر فائض يليه في العالم.

وبحسب نظرية الاقتصاد الكلي القياسية، فإن هذا البلد الخيالي سيكون لديه أكبر عجز في العالم في السلع المتداولة. ولن يكون له أي علاقة على الإطلاق بعدم قدرته على المنافسة أو بإسراف شعبه. ولا يمكن أن يكون أفضل مكان للاستثمار فيه، ولا أفضل مصدّر للخدمات دون أن يكون لديه عجز ضخم في المبادلات التجارية من السلع. (والسبب في ذلك – للتذكرة – أن مجموع العوامل الثلاثة يجب أن يكون صفراً). حسناً، هذا البلد الغامض هو، بالطبع، الولايات المتحدة الأميركية - والعجز التجاري الأميركي، وفقاً لهذا الطرح الافتراضي، إنما هو نتيجة منطقية لنجاح أميركا وتفوقها المعرفي الفائق مقارنة ببلدان أخرى. على هذا الأساس، ينبغي أن يكون العجز التجاري مصدر فخر وتباهي لا مصدر شجب واستنكار.

في السرد الذي قدمناه أعلاه (التدفقات تؤدي إلى العجز التجاري)، فإن الدافع وراء ارتفاع العجز التجاري الأميركي لا يكمن في العمالة منخفضة التكلفة في الخارج أو التبذير والإسراف الأميركي. إنما يكمن في قرار رئيس الولايات المتحدة الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1971 بشأن إخراج الولايات المتحدة من معيار الذهب وإنهاء فترة اتفاقية بريتون وودز، والتي تلت الحرب الخاصة بتثبيت أسعار الصرف مقابل الدولار. لقد أطلق هذا القرار ما تكشّف بعد ذلك أنه فترة تقارب نصف القرن من العجز المتصاعد في تداول السلع مع الدول الأخرى. إن ما لم يكن ليخطر ببال الرئيس نيكسون على الإطلاق هو أنه عندما أطلق نهاية فترة بريتون وودز، جعل الحكمة في الاختيار أمراً أكثر أهمية بالنسبة للمستثمرين العالميين حال اتخاذ قرارهم بشأن المكان الذين يستثمرون فيه رؤوس أموالهم على الصعيد الدولي.

قبل 15 أغسطس/ آب 1971، لم يكن الأمر بهذا القدر من الأهمية لأن عملتك تم تثبيتها في مقابل العملة الأميركية، ووعدت الولايات المتحدة أن تمنحك أوقية من الذهب إذا استخدمت عملتك لشراء 35 دولاراً. وهكذا، يمكنك الاستثمار في فرنسا، دون أن يساورك أي قلق أو خوف من أن تصبح استثماراتك بالفرنك الفرنسي أقل قيمة منها بالدولار الأميركي مقارنة بالوقت الذي بدأت فيها استثماراتك. بعد عام 1971، كان من المفيد حقاً استثمار رأس المال في السوق الأكثر قوة وانفتاحاً على مستوى العالم، وقد زاد إدراك مستثمري العالم أن هذه السوق هي الولايات المتحدة - وليست اليابان والتي تتسم بتضاؤل عدد سكانها، أو الصين مع فسادها المتفشي، أو أوروبا وما تعانيه من تيبس وتشنج اقتصادي (Economic Sclerosis).

منذ عام 2000، راحت الولايات المتحدة تستقبل – في المتوسط – تدفقات رأس مالية صافية تتجاوز نصف تريليون سنوياً. ولوضع المزيد من الضغط على الميزان التجاري للسلع، أصبح الميزان التجاري للخدمات الأمريكية، الذي كان لا يكاد يذكر حتى نهاية 1985، في حدود ربع تريليون دولار سنوياً.

لا أريد أن يسيء أحد فهمي: فأنا مؤيد بنسبة 100% لتبني الممارسات التجارية غير العادلة. على سبيل المثال، من المثير للسخرية حقاً أن تضع اليابان هذه المجموعة المذهلة كلها من الحواجز أمام واردات السيارات الأميركية لدرجة جعلت شركتي جنرال موتورز وفورد الأميركيتين تتخليان عن محاولة بيع السيارات في اليابان، بينما تستورد تويوتا وهوندا ونيسان ملايين السيارات سنوياً إلى السوق الأميركية المفتوحة.

ومع ذلك، إذا استمر الاقتصاد الأميركي في النمو بمعدل 3% : 4% في السنة مع اقتراب نسبة البطالة الهيكلية من الصفر، فليس ثمة شيء يحققه الرئيس ترامب في سعيه لجعل التجارة أكثر عدالة بالنسبة لمصدري السلع الأميركية سيؤدي إلى تقليل العجز الأميركي في السلع المتداولة، وهو هدفه المعلن. في عام 2017، ساهم النمو الاقتصادي القوي في الولايات المتحدة في زيادة فائض تدفقات رأس المال - ومن غير المفاجئ أن العجز في المبادلات التجارية من السلع زاد هو الآخر.

إذا كان الرئيس دونالد ترامب يريد فعلاً خفض العجز في المبادلات التجارية من السلع، فسيتعين عليه أن يستعين بدرس من رئاسة جيمي كارتر ومن رئاسة جورج بوش. ففي حقبة ما بعد 1971، كان كارتر وبوش الرئيسان الأكثر نجاحاً في خفض العجز في المبادلات التجارية من السلع. فقد حقق كلاهما هذا الإنجاز من خلال إرثهما لاقتصاد أمريكي يحرز تقدماً يتراوح من كونه معقولاً إلى جيد جداً، وتركهما له وهو أكثر سوءاً من حيث الأداء، ما جعله أقل جاذبية لصافي تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية. وأظن أن هذا هو نوع التضحية الاقتصادية التي يرغب الرئيس ترامب رغبة قوية في تجنبها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي