بعد بحثها الطويل والشاق عن فرصة عمل، شعرت سارة بسعادة غامرة لتلقيها عرضاً من إحدى كبرى وكالات التسويق. فقبلت بشغف، وتحمست لآفاق المستقبل الذي ينتظرها لتطوير مسيرتها المهنية من خلال العمل مع كبار العملاء. بذلت سارة قصارى جهدها للتأكد من أنها تركت وظيفتها السابقة بطريقة إيجابية، ومن ثم بدأت التحضير لأداء مهمات وظيفتها الجديدة. لطالما اشتهرت بقدرتها على تحقيق إنجازات رائعة طوال حياتها المهنية، وقد عكفت على دراسة عملاء الوكالة لمدة 3 أسابيع والتعرُّف على الأهداف الاستراتيجية وصقل مهاراتها في الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مهارة يتطلبها دورها الجديد.
أدركت سارة بنهاية أسبوعها الأول في الوظيفة أن خططها المدروسة جيداً لن تسير على النحو الذي كانت تتوقعه. لقد أتت من خلفية تسويقية عملت خلالها لدى شركات تطبّق أسلوب التسلسل الهرمي التقليدي وتتبع الأساليب المعتادة في سير إجراءات العمل. من ناحية أخرى، كانت سياسات العمل في شركة سارة الجديدة أشبه بسياسات الشركات الناشئة. فكانت بيئة سريعة الحركة تطبّق أسلوب المصفوفة الإدارية التي تتبع أقل عدد ممكن من الإجراءات وتحرص على تقاسم المسؤوليات، دون هيمنة شخصية محددة على مجريات العمل.
وقد اعترفت سارة خلال جلسة التدريب التالية بأنها تعاني صعوبات جمّة، فقالت متذمرة: "أشعر بأنني أبالغ في إرضاء الآخرين. فتجدني أقبل كل شيء، دون أن أحاول حتى طرح أفكاري الشخصية أو البوح بمشاعري. وأشعر بالتوتر في كل محادثة أخوضها مع زملائي خشية أن أجرح إحساس أحدهم". كان الخوف يدفع سارة إلى العمل بأكثر من طاقتها. "أشعر بكثرة المشاغل بصورة لا تُطاق في هذه الوظيفة، لذلك أعمل حتى وقت متأخر من النهار وأسهر طوال الليل في محاولة لتعويض ما فاتني. أخشى أنني سأصاب بالاحتراق الوظيفي قبل مرور التسعين يوماً الأولى".
قد تشعر بالتعاطف مع قصة سارة إذا كنت واحداً من ملايين العاملين الذين التحقوا بوظيفة جديدة مؤخراً بحثاً عن تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية بصورة أفضل. إذ يميل الكثير من الموظفين الطموحين إلى بذل قصارى جهدهم في أيامهم الأولى في محاولة منهم لإثبات أنفسهم. وإذا كنت قد فعلت ذلك من قبل، فربما تكون قد تطوعت لأداء مهمات إضافية لتُظهِر لزملائك أنك تحب تقديم يد العون، أو ربما تكون قد رددت على رسائل البريد الإلكتروني خلال بضع ساعات من استلامها حتى تكتسب سمعة بأنك سريع الاستجابة، أو ربما تكون قد بذلت جهداً فوق طاقتك لتثبت لرؤسائك أن تعيينك في الشركة كان قراراً صائباً.
لا يؤدي الفشل في وضع حدود صحية خلال وقت مبكر إلى إصابتك بالإرهاق فحسب، لكنه يوقعك أيضاً في مزلق المغالاة بالتوقعات التي تفرض عليك الارتقاء إليها باستمرار، وهو ما قد يسفر عن تدمير معنوياتك بطرق لا يمكن تحمّلها. وسنتناول فيما يلي كيفية وضع حدود صحية في الأيام الأولى من الوظيفة الجديدة بحيث تستطيع تحقيق التوازن بين احتياجاتك الخاصة وترك انطباع جيد لدى رؤسائك وزملائك في العمل.
حدّد دوافعك
فكر في الدوافع الكامنة وراء رغبتك في إثبات نفسك. ربما كانت دوافعك إيجابية، مثل الشغف بالوظيفة أو الرغبة في إظهار أنك تعمل بجد وأنك تراعي ضميرك في العمل. ولكن ربما كنت مدفوعاً أيضاً بمخاوف معينة تدفعك إلى انتهاج سلوكيات تتسبب في التدمير الذاتي. وتبدأ المعتقدات المغلوطة عادةً بعبارات، مثل:
- ينبغي لي أن…
- يجب عليّ أن…
- لا بد أن…
وقد توصّلنا من خلال الجلسات التدريبية إلى أن الاعتقاد المغلوط الذي دفع سارة إلى سلوكها المدمِّر كان يتمثّل في العبارة التالية "لا بد أن أكون ليّنة الجانب حتى يحبني الآخرون". على الرغم من أن هذا الاعتقاد كان ينبع من اللاوعي، فقد أثّر بشدة في سلوكها، إذ جعلها تتراجع عن طرح أفكارها الابتكارية، وهي السمة ذاتها التي تم تعيينها من أجلها. فكّر في القواعد الضمنية التي تحكم أداءك. فحينما تُسمِّي مخاوفك، ستتخلّص من سيطرتها عليك وتتيح لنفسك فرصة إعادة صياغة الاعتقادات حول جدارتك الذاتية وعملك.
فكّر في المزايا
ترددت سارة في البداية عندما أخبرتها بأنها بحاجة إلى وضع حدود صحية أقوى في وظيفتها الجديدة. وهذا سلوك شائع بين الموظفين الذين يفترضون أن قول "لا" أو وضع حدود سيجعلهم يبدون ضعفاء أو صعبي المراس أو عنيدين. ويعد ضبط النفس في واقع الأمر إحدى مهارات الذكاء العاطفي المرتبطة بتنظيم وقتك وطاقتك، وهي مهارة قيادية أساسية تمثل ما يصل إلى 90% من النجاح المهني. ويثبت وضع الحدود أنك تتمتع بالوعي الذاتي وأنك تمتلك مهارات قوية في إدارة الوقت وترتيب الأولويات والتواصل.
ووضع حدود صحيةعند الالتحاق بوظيفة جديدة لا يعني أنك تُظهر امتلاكك لقدرات قيادية مهمة فحسب، لكنه يسمح لك أيضاً بتعريف الآخرين بكيفية معاملتك. بعبارة أخرى، إن سلوكك يوضّح للآخرين ما هو مقبول أو غير مقبول. وفي حالة سارة، فقد أدركتْ أن ميولها لإرضاء الآخرين أوضحت لهم أنها كانت ليّنة الجانب. ألهمتها هذه البصيرة رغبة جامحة في بدء التحدث بطريقة دبلوماسية كلما اعتقدت أن هناك استراتيجية أو بديلاً أفضل.
عبّر عن تفضيلاتك الشخصية وشاركها
فكّر في الحدود المادية والعقلية والعاطفية التي تحتاج إليها لتكون في أفضل حالاتك. قد يشمل ذلك تحديد:
- مواعيد بدء العمل والانتهاء منه.
- مواعيد الرد على رسائل البريد الإلكتروني وغيرها من وسائل التواصل.
- المواعيد المحظورة من أجل التركيز في العمل أو المواعيد "الممنوع فيها حضور أي اجتماعات".
- مواعيد فترات الراحة في أثناء النهار ومُددها الزمنية.
- متطلبات الموارد أو الاحتياجات التدريبية اللازمة لأداء عملك.
- نوعية العمل الذي تستمتع بأدائه كثيراً وما يمكنك التطوع بفعله.
كن سباقاً وبادر بتعريف مديرك وفريقك بحدودك. وعلى الرغم من أن سارة كانت لا تزال في مرحلة "إعداد الموظفين الجدد"، فقد خصَّصت وقتاً لعقد جلسة بعنوان "كيف نعمل معاً؟" مع كل من الأطراف المعنية. وقد حدّدت في هذا الاجتماع أسلوب عملها وتفضيلاتها وأثارت موضوع التوقعات. وقد منحها ذلك الثقة بالنفس وترك انطباعاً إيجابياً لدى كافة الأطراف المعنية الذين قدّروا تواصل سارة معهم بشفافية.
وزّع طاقتك واستخدمها على نحو استراتيجي
لا شك في أن الأسابيع والأشهر القليلة الأولى في العمل تسهم في بناء سمعتك إما إيجاباً أو سلباً. ومن المهم أن تبذل جهوداً مضاعفة، لكن من المهم أيضاً أن تبذل هذه الجهود بشكل انتقائي واستراتيجي. فاحرص على تكريس جهودك للجوانب الأكثر تأثيراً. حدّد أهداف مديرك وتوقعاته، ثم اعمل على مواءمة جهودك مع هذه الأولويات القصوى حتى تتمكن من تحقيق أكبر قيمة ممكنة.
وركز أيضاً على حشد مجموعة من المؤيدين الذين يقفون في ظهرك ويدافعون عنك. استغل "فترة السماح" الممنوحة لك بصفتك عضواً جديداً في فريق العمل لطرح أكبر عدد ممكن من الأسئلة. لن يجعلك هذا تبدو "غبياً" أو غير مطلّع على بواطن الأمور، بل سيعمل على بناء العلاقات لأنه سيُشعِر الآخرين بأنهم موضع تقدير واحترام.
ابتكر عادات جديدة والتزم بها
تتيح لك الوظيفة الجديدة بداية جديدة وفرصة ثمينة لإعادة ترتيب حياتك. يُعرف هذا في علم النفس بـ"أثر البداية الجديدة"؛ أي: الميل إلى اتخاذ إجراء نحو تحقيق هدف محدّد بعد انقضاء مرحلة أو مناسبة أو حقبة فاصلة في حياة المرء. استغل هذه الفترة الزمنية لصالحك وتخلّص من العادات السيئة. فلم تكن سارة تأخذ استراحة غداء مناسبة في وظيفتها السابقة. وقد قطعت على نفسها عهداً بإجراء تغيير جذري، وبعد بضعة أشهر فقط من عملها في وكالة التسويق، صارت الآن تعد وجبات الطعام مسبقاً وأصبحت تصر على حظر أي مواعيد خلال الفترة المخصصة لتناول غدائها، وباتت تأكل بعيداً عن مكتبها أيضاً.
يعد تحميل نفسك المسؤولية عن حماية حدودك أمراً أساسياً. ويمكنك تحقيق هذه الغاية من خلال تخصيص وقت محدّد كل أسبوع لتقييم تقدمك بنفسك، أو ربما أنشأت سجلاً خاصاً لتتبع إنجازاتك في هذا الصدد. وقد يؤدي العثور على صديق تلتقيه بشكل دوري لمتابعة تقدمك إلى زيادة فرص نجاحك بنسبة تصل إلى 95%.
قد يكون الالتحاق بوظيفة جديدة أمراً مزعجاً ومنعشاً في الوقت ذاته. لكن عند وضع حدود صحية قوية منذ البداية، فستهيئ نفسك للنجاح الدائم على المدى البعيد.