عادة ما يشعر روّاد الأعمال بالحماس عند تأسيس شركاتهم الناشئة لدرجة أنهم قد يفعلون أي شيء تقريباً لبلوغ أعلى درجات النجاح خشية أن تنتاب فرقهم والمستثمرين معهم مشاعر الخذلان. وتُعجّ مدونات المؤسّسين وتقارير تقييم نجاح الشركات الناشئة بقصص التضحية؛ فمن روّاد الأعمال من جافاه النوم، ومنهم من تخلّى عن صداقاته وعلاقاته الأسرية، في حين ألغى آخرون ممارسة الرياضة واتباع نظم التغذية الجيدة، وكل ذلك في سبيل تطوير شركاتهم الناشئة.
إلا أن نهج التركيز على تطوير الشركة قد يُفضي إلى شعور القلق في الشركات الناشئة، ما يؤدي إلى تدهور الصحة البدنية والعقلية لروّاد الأعمال، ووجدت دراسة أجرتها "كلية الطب في جامعة كاليفورنيا وسان فرانسيسكو" (UCSF) أن روّاد الأعمال قد يكونون عرضة بالفعل للإصابة بمشكلات في الصحة العقلية أكثر من عامة الناس، وفي تجربتنا الشخصية، وجدنا أن مشاعر القلق وانعدام الثقة في النفس والاكتئاب والوحدة شائعة بين روّاد الأعمال.
هل التنازل عن صحتك العقلية والجسدية لصالح شركتك الناشئة ضروري لتحقيق النجاح؟ هل يمكن تعليم روّاد الأعمال كيفية التعامل مع ضغوط ريادة الأعمال بشكل أكثر فاعلية لئّلا تتراكم هذه الضغوط وتُسفر عن شعورهم الدائم بالقلق؟
اتخذنا في برنامج المسرّع التعليمي"دلتا في" (Delta v) في كلية سلون للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "MIT" العام الماضي خطوة للأمام بالإجابة عن هذا السؤال، حيث انطوى هدف هذا البرنامج الاستكشافي غير المسبوق حول الوعي الذاتي على مساعدة 84 مؤسساً لشركات ناشئة مع أعضاء فرقهم في تحديد أولويات رفاههم الشخصي في أثناء تطوير شركاتهم ومن ثم تقييم النتائج.
وفي نهاية البرنامج، أدرك 93% من أعضاء المجموعة أن ممارسة الوعي الذاتي قد تساعد روّاد الأعمال في تأسيس شركات أكثر نجاحاً. وأفاد أحد المشاركين قائلاً: "منح الوعي الذاتي فريقنا لغة مشتركة ومحايدة لتعزيز علاقاتنا وثقافتنا".
التدريب على الوعي الذاتي يعزّز عملية صناعة القرار
كنا نعلم أثناء تطوير البرنامج أن التوصية باتباع استراتيجيات رعاية ذاتية معينة لن يكون كافياً لتغيير النظرة المتأصلة التي تفيد بأن مشاعر التوتر والتضحية ضرورية لريادة الأعمال، أو لإقناع رواد الأعمال على قضاء بضع دقائق من وقتهم المحدود للغاية على أي شيء آخر غير شركاتهم الناشئة، مثل اتباع روتين قبل النوم، أو تناول طعام صحي، أو أخذ فترات راحة.
اقرأ أيضاً: أسئلة القراء: كيف أتأقلم مع متغيرات العمل المستمرة التي تشعرني بالقلق؟
بدلاً من ذلك، شرعنا في تصميم برنامج اختبار لمساعدة المشاركين في برنامج المسرّع التعليمي على زيادة الوعي الذاتي. وافترضنا أنه إذا فهم روّاد الأعمال المزيد عن آليات النفس التي تحكُم أفكارهم ومشاعرهم واستجاباتهم الجسدية والعاطفية التلقائية، يمكنهم حينئذ اتخاذ قرارات شخصية أفضل في مواجهة الضغوط اليومية لريادة الأعمال. وتعلّم المشاركون اتباع إطار عمل بسيط لتعزيز الوعي الذاتي:
- الإدراك: بمعنى التنبّه إلى أفكارك ومشاعرك وأحاسيسك الجسدية في اللحظة الحالية.
- التوصيف: وهو ما يعني وصف المشاعر والأفكار والأحاسيس التي تدركها كل مرة، على سبيل المثال، "أشعر بالانزعاج من المؤسس المشارك".
- إشباع الفضول: أي التفكير في الأنماط التي تلاحظها بمرور الوقت دون إطلاق أحكام. على سبيل المثال، "أشعر بالانزعاج من المؤسس المشارك كثيراً. ما السبب الذي يكمن وراء شعوري الدائم بالانزعاج؟ هل يعود السبب إلى توقعاتي حوله؟"
- تحديد الخيارات الشخصية الفاعلة: وهو ما يعني اتخاذ خيارات مستنيرة بعد ممارسة التأمل الذاتي، على سبيل المثال، "سأتحدث مع موجّه حول هذه المشكلة، وسأعقد جلسة مع المؤسس المشارك للحديث عن مشاعري بدلاً من إطالة التفكير في المشاعر التي تنتابني".
إن إطار عملنا هو شكل مطوّر من اليقظة الذهنية، وقد وصفه جون كابات زن بأنه "التركيز على الوقت الحاضر عن قصد ودون إطلاق الأحكام". ولتطبيق هذا الإطار، تعلّم المشاركون ممارسة اليقظة الذهنية، والتي ثبت أنها تقلّل من مشاعر التوتر والقلق وتساعد في تنظيم العواطف، إلى جانب العديد من الفوائد الأخرى. كما تعلّموا أيضاً ممارسات يقظة ذهنية بسيطة يمكنهم دمجها في حياتهم الشخصية. بالإضافة إلى ذلك، قمنا بعقد جلسات لمجموعة صغيرة من الأقران ناقشنا فيها الخيارات الرئيسة التي يواجهها روّاد الأعمال.
اقرأ أيضاً: فقدان الشغف في العمل
ويمكن للمشاركين حضور هذه الجلسات للتنفيس عن مشاعرهم والحصول على آراء تقييمية ووجهات نظر في جوّ من السريّة. كانت اجتماعات المجموعة الصغيرة إلزامية، في حين كانت بقية الجلسات اختيارية.
اتخاذ روّاد الأعمال خيارات صائبة
أجرينا استقصاء قبل بدء البرنامج وبعده بهدف تقييم أثر هذه المنهجية على روّاد الأعمال، مع استجابة 60 مشاركاً منهم. وكانت النتائج بالغة الأهمية:
فبحلول نهاية البرنامج، طوّر 88% من المشاركين ممارساتهم الخاصة من التأمل أو اليقظة الذهنية ودأبوا على تطبيقها بشكل أسبوعي ومنتظم. وأفادت نسبة 65% من المشاركين أنهم لم يمارسوا التأمل أبداً قبل البرنامج، في حين أفاد 21% منهم أنهم اعتادوا ممارسة التأمل أو اليقظة الذهنية بشكل منتظم.
لم نطلب من المشاركين تطبيق ممارساتهم الخاصة، بل عرضنا عليهم فوائد هذه الممارسات التي تدعمها البحوث وأظهرنا لهم كيفية دمجها في يومهم الحافل بالفعل. واتخذوا قراراً بأنفسهم أن هذه الممارسات تستحق وقتهم بالفعل بدلاً من اعتبارها مهاماً إضافية على قوائم مهامهم.
وفي حين اختار بعض المشاركين ممارسة التأمل بشكل منتظم، لجأ آخرون إلى ممارسة اليقظة الذهنية في أثناء تنقّلهم في مترو الأنفاق كل صباح، وذلك من خلال قضاء خمس دقائق في التركيز على ما كانوا يسمعونه ويرونه ويختبرونه، وكتابة أي أفكار أو مشاعر تنتابهم، ومن ثم التركيز على محيطهم مجدداً.
وجدنا أيضاً أن ممارستهم كانت تؤتي ثمارها وتُحدث تغييراً في سلوكياتهم. وبعد البرنامج، ازداد اعتماد 53% من المشاركين على أدوات أو تقنيات تهدف إلى السيطرة على مشاعر القلق، في حين كانت نسبة 40% منهم أكثر وعياً بمشاعرهم. وكان روّاد الأعمال هؤلاء يتّخذون قرارات فاعلة ولحظية لتغيير ردود أفعالهم المعتادة للمواقف المثيرة للقلق.
وأخيراً، أصبح المشاركون أكثر وعياً بأنفسهم من خلال مشاركة تحدياتهم مع بعضهم البعض. وعبّر ثُلث المشاركين من خلال سؤال مفتوح عن الفوائد التي اكتسبوها من خلال التعلّم والمصارحة وإقامة صداقات وثيقة في أثناء الأوقات التي قضوها مع مجموعات الأقران. وقال أحد رجال الأعمال: "أصبحت أكثر استعداداً لمشاركة التحديات الداخلية مع الآخرين. كما ساعدني الاستماع إلى وجهات نظر الزملاء وقصصهم في المجموعة في أن أكون أكثر حكمة في كيفية التعامل مع القضايا المعقدة بمزيد من الثقة".
ما أهمية ممارسات الوعي الذاتي في النطاق الأوسع لبيئات عمل روّاد الأعمال؟
إن ممارسة الوعي الذاتي ليست حلاً سحرياً، فالبرنامج لم يقلّل من مشاعر القلق التي انتابت روّاد الأعمال تماماً. وفي استقصاء أُجري على أكثر من 1000 شخص بعد البرنامج، وقبل أيام قليلة فقط من يوم عرض الشركات الناشئة أمام المستثمرين، واجه 40% من المشاركين صعوبات أكثر في النوم، في حين لجأ آخرون منهم إلى النوم أكثر من المعتاد. ومن المدهش أنهم اتخذوا قراراً فاعلاً في عدم تجنّب وقت النوم، على النقيض من مجموعات برنامج "دلتا في" السابقة.
لاحظنا أيضاً تغيّراً في ثقافة برنامج "دلتا في"، ففي حين منح أعضاء البرنامج في السنوات السابقة شركاتهم الناشئة الأولوية، أدرك أعضاء هذه المجموعة أهمية شعورهم بالرفاهة ولجؤوا إلى تقديم المساعدة إلى الآخرين وقبولها منهم. كما أدركوا أن الشعور الدائم بالقلق والتوتر ليس ضرورياً لإظهار شغفهم تجاه شركاتهم الناشئة.
هل ستنجح الشركات الناشئة التي حضر مؤسسوها مجموعة "دلتا في" هذه أم أنها ستكون أقل نجاحاً من المجموعات النموذجية السابقة؟ من الصعب معرفة الإجابة عن هذا السؤال اليوم، لكن مع استمرار تقديم هذا البرنامج، سنعتمد على مجموعة بياناتنا ونستمر في التواصل مع المشاركين. إلا أننا نعتقد أن الأدوات الإضافية التي وفرها البرنامج ستساعد روّاد الأعمال في جهودهم الريادية اليوم وعلى المدى الطويل.
يُعدّ الوعي الذاتي عادة يجب ممارستها مراراً وتكراراً بدلاً من اعتبارها مجرد نظرية علمية. لقد منح البرنامج الذي دام 12 أسبوعاً روّاد الأعمال الفرصة لممارسة ما تعلموه وإدراك آثار تلك الممارسات ودمجها في شركاتهم الناشئة. ونحن على ثقة أن تلك الممارسات ستصبح مستدامة وأن روّاد الأعمال سيلجؤون إلى تطبيقها في شركاتهم، للتخلص من القلق السائد في الشركات الناشئة،
ونعتقد أن دمج الوعي الذاتي في بيئات عمل ريادة الأعمال سيسفر عن ثقافات شركات ناشئة أكثر صحة، وذلك من خلال مشاركة هذه الممارسات مع روّاد أعمال آخرين، ولا تقتصر هذه الميزة على المؤسسين فقط، بل ستخلق أثراً مضاعفاً يمتد إلى أعضاء فرقهم وأصحاب المصلحة وزبائنهم حسب تقديرنا، وهو ما يقود إلى تطوير شركات أكثر صحة ونجاحاً، دون مشاعر القلق السائدة في الشركات الناشئة.
اقرأ أيضاً: