شهد قطاع التعليم كغيره من القطاعات الحيوية تغيرات ملموسة منذ قدوم جائحة فيروس كورونا مطلع العام الماضي، ورأينا كيف غير العديد من المؤسسات التعليمية حول العالم نماذج التعليم لديها حرصاً على عدم انقطاع العملية التعليمية، وأحد هذه النماذج التي لجأت إليه المؤسسات بكثرة هو "نموذج التعليم الهجين".
هل نموذج "التعليم الهجين" المطبق حالياً في العديد من مؤسسات التعليم العالي هو "هجين" حقاً؟
أطرح هذا السؤال في بداية المقال لإيضاح إجابته بشكل جلي، وذلك عبر تتبع نتائج دراسة علمية تحليلية من واقع تجربة "كليات التقنية العليا" بدولة الإمارات العربية المتحدة، والتي ارتأينا من خلالها تقديم الصورة النموذجية لتطبيق "التعليم الهجين" كنمط تعليمي جديد فرض نفسه بقوة بعد جائحة فيروس "كوفيد-19".
إن سرعة ظهور نموذج "التعليم الهجين" جاء نتيجة سعي مؤسسات التعليم لمواجهة تحدي انتشار فيروس "كوفيد-19"، فالتحديات كانت دائماً أمراً موجهاً ومؤثراً في خطط مؤسسات التعليم، وعلى مدار السنوات الماضية وضعت مؤسسات التعليم الرؤى والاستراتيجيات من منطلق الوعي بتحديات الثورة الصناعية الرابعة، وخاصة ما نسميه "الزعزعة التكنولوجية" (Technological Disruption) التي حدثت نتيجة التطور الذي عجّل اختفاء وظائف وأسواق وظهور وظائف وأسواق جديدة تتماشى مع هذا التقدم، وهذه الزعزعة ألقت بظلالها على التعليم الذي أصبح يواجه تحدي "إعداد الكفاءات لوظائف لم توجد بعد".
لقد واجهنا خلال عام 2020 تحدياً عالمياً جديداً تمثل في مقاومة جائحة "كوفيد-19" التي لم تهدد الوظائف والأسواق فقط بل هددت حياة الإنسان، ليكشف لنا هذا العام عن أننا لا يجب أن نستعد فقط لوظائف لم توجد بعد بل أيضاً لتحديات لم تخلق بعد. إن هذا الفيروس أضاف زعزعة جديدة لقطاع التعليم. إذ جعل هذا القطاع يواجه ما يمكن أن نسميه "زعزعة مزدوجة" وهو عبارة عن الزعزعة التكنولوجية وزعزعة جائحة "كوفيد-19"، فالزعزعة التكنولوجية جعلت مؤسسات تعليم تتجه نحو التركيز على المهارات للوصول لمخرجات قادرة على التعامل مع المتغيرات الوظيفية بمرونة في حين أن الزعزعة التي أحدثتها الجائحة دفعتنا للتفكير في جانب آخر يتعلق بكيفية ضمان وصول التعليم كخدمة للأفراد تحت أي ظروف وفي ظل أي تحديات.
ومع انتشار جائحة كورونا في العام الأكاديمي 2019/2020، طبقت دولة الإمارات العربية المتحدة حزمة من السياسات والإجراءات لمكافحة هذا الوباء بما يتماشى مع التوجهات والمستجدات العالمية وبما يتناسب مع جاهزية ورؤية الدولة، وتمثل الإجراء الأساسي منذ البداية في التركيز على تحقيق التباعد الاجتماعي والتزام جميع السكان بالمكوث في المنزل، والتحول نحو العمل والتعليم عن بُعد دعماً لاستمرارية الحياة، ولكن مع بداية العام الأكاديمي الجديد 2020/2021 وبدء عودة الحياة في دولة الإمارات توجهت مؤسسات التعليم للجمع ما بين التعليم عن بُعد والتعليم وجهاً لوجه فيما نسميه نموذج "التعليم الهجين".
تطبيق نموذج "التعليم الهجين" خلال جائحة فيروس كورونا
من الملاحظ أن التطبيق الحالي لنموذج "التعليم الهجين" لا يزال محكوماً بجائحة فيروس "كوفيد -19" وينظر إليه كحل بديل للتعليم التقليدي حرصاً على سلامة الطلبة، وترتبط آلية تطبيق "التعليم الهجين" بتطورات انتشار الفيروس بحيث تتأرجح ما بين السماح للطلبة بالدوام الجزئي المنقسم ما بين التعليم عن بعد والتعليم داخل الحرم الجامعي بنسب متفاوتة بناء على معايير الأمن والسلامة وإمكانيات كل مؤسسة في الحفاظ على التباعد الاجتماعي؛ حيث لم تسمح الفرصة إلى الآن بتطبيق "التعليم الهجين" بالمفهوم الصحيح كنمط تعليمي مستقبلي والذي يعني الموازنة ما بين التعليم وجهاً لوجه داخل الحرم الجامعي والتعليم عن بُعد خارج الحرم الجامعي وفق طبيعة وتخصصات كل مؤسسة وأهدافها التعليمية مع التنويه هنا إلى ضرورة فهم أن الدراسة عبر الإنترنت من داخل الحرم الجامعي ليست مرادفاً للتعليم عن بُعد، فالتعليم عن بُعد والمرتبط بالنمط الهجين يعني تلقي الطالب التعليم خارج الحرم الجامعي ومن أي مكان وفي أي وقت بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة التي تمكنه من استكمال تحصيله العلمي المطلوب.
ومن أجل الإجابة عن السؤال الذي ورد في بداية المقال، بادرنا بطرح رؤية تطبيقية لنمط "التعليم الهجين" وذلك لنقدم هذا الفكر الجديد بشكل أوسع من خلال دراسة علمية تحليلية نابعة من تجربة حقيقية في "كليات التقنية العليا" في دولة الإمارات العربية المتحدة، بما يساهم في تقييم إمكانية أن يفرض "التعليم الهجين" نفسه كنمط جديد للتعليم، في سبيل الوصول إلى أفكار عامة تدعم صناع القرار وواضعي سياسات التعليم لتجويد مخرجات العملية التعليمية، وتحقيق التوازن بين عنصري "التعليم الهجين" وهما التعليم عن بُعد عبر الإنترنت والوسائل الرقمية، والتعليم وجهاً لوجه دعماً للجانبين التطبيقي والعملي.
لقد كان التعليم عبر الإنترنت خياراً قابلاً للتطبيق إلى حد ما في البرامج الأكاديمية القائمة على المعرفة النظرية، وكان هذا هو النمط المتبع في عدد محدود من مؤسسات التعليم العالي خلال العقدين السابقين. أما في برامج التعليم التطبيقي والمهني، والتي يتم التركيز فيها على تطوير المهارات العملية وتنمية القدرات الفنية والحرفية، فإنه لا غنى عن الجانب العملي من المخرجات التعليمية في الورش التدريبية والمختبرات داخل الحرم الجامعي أو خارجه، وعليه فإن تحقيق التوازن بين تقديم المعرفة عن طريق الإنترنت والوسائل الرقمية، وتطوير المهارات العملية وتنمية القدرات المهنية والحرفية يتطلب تقييماً عملياً لنتائج تعلم المعارف وتطوير المهارات والكفاءات الفنية.
كيفية تحقيق التوازن بين عنصري "التعليم الهجين"
وللوصول إلى التوازن المطلوب بين عنصري "التعليم الهجين" لتحقيق أفضل المخرجات التعليمية، قامت "كليات التقنية العليا" في دولة الإمارات العربية المتحدة بدراسة عملية شملت تحليلاً مفصلاً لمخرجات التعليم التطبيقي في كافة البرامج التعليمية التي تقدمها للطلبة في مختلف الاختصاصات آخذة في الاعتبار كافة المصادر التعليمية والتكنولوجية المستخدمة في العملية التعليمية بهدف تحقيق كل المخرجات التعليمية المرجوة من معارف وكفاءات فنية، وشملت الدراسة 739 مساقاً دراسياً شارك في تنفيذه 487 من رؤساء الفرق المختصين، وبمعدل استجابة لمتطلبات الدراسة التحليلية وصل إلى 99%.
لقد صنفنا مخرجات المساقات الدراسية وفق إحدى فئات المخرجات التعليمية التالية:
- اكتساب معرفة.
- تطبيق المعرفة.
- تطوير المهارات المهنية (كاستخدام الأدوات، أو الممارسات الفنية والعملية كالتمريض والتدريس).
- تطوير الصفات والمهارات الشخصية.
وفي الرسم البياني الموضح أدناه تم تلخيص نتائج هذا التحليل الشامل والذي يظهر نسب عناصر "التعليم الهجين" واستخدامها لضمان الحصول على كافة المخرجات التعليمية وبأعلى جودة.
ووفقاً للرسم البياني فإن النتائج الرئيسية للدراسة أظهرت التالي:
أولاً: يمكن تقديم ما يزيد على 50% من مخرجات التعليم التطبيقي عن بُعد، وذلك باستخدام تقنيات التعليم الرقمي المتوفرة حالياً.
ثانياً: يجب التنويه هنا إلى أن هذه النسبة من المخرجات لا تقتصر فقط على فئة اكتساب المعرفة النظرية، بل تتعداها لتشمل تطبيق المعرفة وتطوير المهارات والكفاءات الحرفية والفنية التي يمكن تعليمها وتعلمها عن بُعد عبر الوسائل الرقمية المتوفرة حالياً مثل برامج المحاكاة وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ثالثاً: أثبتت النتائج أنه لا يمكن الاستغناء عن التعليم والتعلم وجهاً لوجه في أماكن التدريب العملي داخل الحرم الجامعي أو خارجه للوصول للمخرجات المأمولة على مستوى تطوير المهارات والكفاءات الفنية والحرفية، ويجدر التوضيح هنا إلى وجود تفاوت في النسبة المطلوبة للحضور إلى مراكز التدريب باختلاف الاختصاصات ومدى توفر التقنيات والأدوات الرقمية؛ حيث تصل الحاجة إلى هذا التعلم العملي في مراكز التدريب إلى 30% من مجموع المخرجات في التخصصات المصممة لتطوير مهارات وكفاءات يتطلب تطويرها التدريب المباشر مثل برامج: تكنولوجيا الهندسة والعلوم الصحية وتكنولوجيا المعلومات.
رابعاً: أظهرت النتائج أن ما نسبته 17% من المخرجات التعليمية التطبيقية بشكل عام تتطلب استخدام عنصري "التعليم الهجين" من وسائل رقمية وتدريب عملي مقترن به لتحقيقها، وتزداد نسبة هذا النوع من المخرجات التعليمية في التخصصات التي تتطلب التفاعل الاجتماعي في تطوير المهارات والكفاءات الفنية والحرفية، فنجدها تشكل نسبة 30% في تخصصات إدارة الأعمال وتكنولوجيا الإتصال، وتصل إلى نسبة 40% في تخصصات التربية.
فوائد تطبيق نموذج "التعليم الهجين" في المؤسسات التعليمية
استناداً إلى النتائج التي تم تقديمها فإنه من المتوقع أن تعتمد المؤسسات التعليمية في المستقبل القريب أسلوب "التعليم الهجين" كنمط جديد للتعليم التطبيقي وسيحقق كافة المخرجات التعليمية المرجوة منه في مختلف التخصصات، وذلك للمزايا العديدة التي يقدمها.
ومن أهم هذه المزايا: تعزيز استخدام تقنيات التعليم الرقمي التي تسمح بالتعلم عن بُعد خارج الحرم الجامعي، وهو ما يقلل من ضرورة حضور الطلبة إلى الحرم الجامعي، ما سيفتح آفاقاً جديدة في أدوار مؤسسات التعليم العالي ويخلق لنا العديد من الفرص الإيجابية من بينها:
على المستوى المؤسسي:
إعادة هيكلة المؤسسة التعليمية وفق النموذج الهجين من خلال:
- استقطاب أعضاء هيئة التدريس والخبرات الدولية خاصة في المجالات المتخصصة والدقيقة دون الحاجة لسفرهم خارج أماكن إقامتهم، الأمر الذي سيؤدي إلى تحسين أداء المؤسسات بشكل عام وتحسين نتائج التعلم.
- إعادة هندسة المبنى التعليمي نظراً لخفض الحاجة لاستخدام الفصول الدراسية من خلال إعادة تصميم مرافق ومساحات الحرم الجامعي لتدعيم الجوانب العملية من المخرجات التعليمية.
- إعادة هيكلة الوظائف الإدارية وتوصيفها ضمن خيارات تسمح بالعمل من داخل المؤسسة وخارجها.
- إعادة هندسة الميزانيات واستثمارها بشكل يعزز بناء الكفاءات والمهارات التطبيقية والبحثية وتعزيز البنية التكنولوجية للمؤسسة.
على المستوى الطلابي:
- إتاحة الفرصة لعدد أكبر من الطلبة للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي، حيث أن الطاقة الاستيعابية لهذه المؤسسات لم تعد محددة بمساحة الحرم الجامعي أو الفصول الدراسية.
- إتاحة الفرصة للطلبة في الأماكن النائية للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي وكذلك فرصة الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي الدولية المرموقة دون عناء التنقل وإجراءات الإقامة بعيداً عن الموطن الأصلي.
- التنافسية بين المؤسسات التعليمية ستدعم الخيارات التعليمية للطلبة وبرسوم تنافسية (أقل تكلفة) ما سيعزز فرصهم الدراسية.
- التعلم عن بُعد بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة سيطور دور الطالب مستقبلاً وسيعزز قدرته على تقييم إمكانياته وبناء أهدافه التعليمية والسعي للتطوير الذاتي المستمر ليتمتع بما يمكن أن نسميه (احتراف التعلم).
إن نموذج التعليم "الهجين" يدعم الوصول لمخرجات تتمتع بسمات المستقبل أو ما أطلق عليه "البيرسونا ثلاثية الأبعاد"، والتي تتضمن مجموعة من السمات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها طالب المستقبل ليكون قادراً على استثمار مهاراته وقدراته.
إن نموذج "التعليم الهجين" هو فكر مفتوح على التطورات المستقبلية، ويمكن لكل مؤسسة تطبيقه وفق طبيعتها واحتياجاتها والمخرجات التي تسعى إليها، وسيرفع هذا النموذج مستوى التنافسية بين مؤسسات التعليم لتقدم خدمات وتخصصات أكثر جذباً للطلبة، وذلك من أجل المساهمة في بناء شخصيات المستقبل القادرة على صناعة فرصها وليس انتظارها فقط.