استشراف مستقبل التعليم عن بعد في دول الخليج والمنطقة العربية

6 دقائق
shutterstock.com/Oxy_gen
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هناك إجماع بأن العالم سيتغير بعد جائحة “كوفيد-19” التي جاءت بمثابة اختبار لمدى قدرة الحكومات وجاهزيتها ومرونتها للاستجابة لمثل هذه الأزمات. والتعليم أحد أهم القطاعات الذي شهد تغيّراً كبيراً خلال هذه الجائحة التي سرّعت في الانتقال لنمط التعليم عن بعد أو ما يعرف بالتعليم الافتراضي (online learning) كاستجابة ضرورية لاستمرار العملية التعليمية خلال هذه الأزمة. التغيير لن يقتصر على التعليم عن بعد ولكن سيطال نموذج وشكل العملية التدريسية مستقبلاً. وتشير الإحصاءات إلى ما يقرب من 2.5 مليون طالب في أميركا عام 2019 يتعلمون عن بعد (homeschooling) (ما يعادل 3 – 4% من مجموع طلبة المدارس)، وهذا العدد في ازدياد سنوي من 2 إلى 8%، وذلك بحسب معهد الأبحاث الوطني للتعلم من المنزل. وتشير الأبحاث إلى أن التعليم الافتراضي أكثر فاعلية في الاحتفاظ بالمعلومات مقارنة بالتعليم الصفي، حيث إن نسبة الاحتفاظ بالمعلومات تصل ما بين 25-60% في المتوسط خلال التعليم الافتراضي مقارنة بـ 8-10% في التعليم الصفي. هذه المؤشرات تفرض على الحكومات تسريع التحول إلى نمط التعليم عن بعد. ونشير إلى أن أغلب دول الخليج العربي كانت جاهزة للانتقال لهذا النمط من التعليم. وقد ساهم التحول الرقمي ومبادرات الحكومة الإلكترونية في جاهزية دول الخليج للانتقال إلى التعليم عن بعد (سواء في التعليم المدرسي أو الجامعي) الذي أثبت نجاحه وفاعليته لاستمرار العملية التعليمية في هذه الظروف. هذا الانتقال للتعليم عن بعد يتطلب التعاون والتشارك بين الحكومة متمثلة في وزارات التربية والتعليم والمؤسسات التعليمية ومزودي خدمات الإنترنت والمنصات التعليمية الرقمية لتقديم منظومة متكاملة للتعليم عن بعد يمكنها معالجة التحديات. 

ونتسأل، هل سيكون التعليم عن بعد أحد الخيارات المتوفرة للتعلم في الظروف الطبيعية؟ وكيف سيتغير التعليم بعد هذه الجائحة؟ وكيف ستتغير المناهج التدريسية؟ وما هو دور المعلم والأسرة في التعليم عن بعد؟ وما هو دور التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والواقع المعزز وإنترنت الأشياء في توفير تجربة تعلم شائقة للطالب؟ وكيف ستتمكن الحكومات الخليجية والعربية من التأقلم والتكيف السريع مع هذه التغيرات التي سيشهدها التعليم مستقبلا؟ يحاول مستشرفو مستقبل التعليم الاجابة عن هذه التساؤلات لرسم صورة واضحة لمستقبل التعليم عن بعد، وذلك من أجل ضمان الجاهزية ولتحقيق الريادة في التعليم عن بعد في منطقة الخليج والمنطقة العربية من خلال تطوير استراتيجيات وسياسات التعليم عن بعد والتجهيز للمستقبل الذي تطمح له هذه الحكومات. 

نسبة الاحتفاظ بالمعلومات تصل بين 25-60% في المتوسط في التعليم الافتراضي مقارنة ب 8-10% في التعليم الصفي.

سنركز في هذا المقال على التعليم للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية. وللإجابة عن هذه التساؤلات نود أن نعرف أولا من نُعلم وكيف وما هو الغرض الذي نعلم طلابنا من أجله؟ من الواضح أن ملامح طلبة هذا الجيل الذي يعرف بجيل “زد” (الذين ولدوا في التسعينيات) وجيل “ألفا” (الذين ولدوا بعد عام 2010) هم من الذين ترَبوا ونشأوا على استخدام التقنيات والتواصل الاجتماعي ويفضلون التشارك مع بعض لحل المشكلات وهم مهتمون بالقضايا الاجتماعية والبيئية. لذلك لا بد من أن تتطور طرق ووسائل التعليم ومناهج التعليم عما كانت عليه سابقاً حتى تتناسب مع توقعات وتطلعات هذا الجيل.

بنية رقمية ومنصات تعلم متطورة

تعتبر البنية الرقمية المتطورة ومنصات التعلم عاملاً ممكّناً ورئيساً في التعليم عن بعد. وقد شهد سوق التعليم خلال هذه الأزمة انتعاشاً وتوجهاً متزايداً من الحكومات ومؤسسات التعليم العام والخاص ومن المتوقع أن يستمر هذا الانتعاش إلى ما بعد الأزمة. هذه المنصات تستخدم التقنيات الحديثة لتوفير والوصول للمادة العلمية من خلال التعليم عن بعد، وتسمح بنوع من التفاعل بين الطالب والمعلم والمادة العلمية. وهناك نماذج رائدة في منطقة الخليج تتعلق بتطوير هذه المنصات مثل منصة “مدرسةوهي منصة تعليمية إلكترونية توفر دروساً باللغة العربية مجاناً في كافة مواد العلوم والرياضيات، ومنصة “عين” وهي بوابة التعليم الوطنية في المملكة العربية السعودية، ومنصة “إدراك وهي منصة إلكترونية عربية للتعلم المدرسي والتعلم المستمر. هذه المنصات وغيرها ستشهد تطوراً كبيراً في المستقبل.

الذكاء الاصطناعي يعيد تصور التعليم عن بعد

مفهوم التعليم عن بعد ليس بجديد، إذ مضى عليه عقود من الزمن، ولكن مع التطورات التقنية المتسارعة والمتوجهة لتحسين جودة التعليم عن بعد سنشهد تغيراً كبيراً في هذا المجال من خلال الابتعاد عن تكرار تجربة التعلم السلبية (passive) التي يقودها المعلم كمُلقن للمعلومات إلى تجربة تعلم يقودها الطالب نفسه ويتفاعل فيها مع منظومة تعلم مترابطة قادرة على أن:

  • تمكّن الطالب من خلق روابط وعلاقات مع زملائه.
  • توفر توازن بين التعليم التزامني أو المباشر (في وجود المعلم والطلبة الآخرين) والتعليم اللاتزامني أو الذاتي الذي يقوم به الطالب بنفسه حسب وقته.
  • توفر طرقاً لتقييم الطالب ليس بناء على الاختبارات التي تقيس مدى قدرته على استرجاع الحقائق والمعلومات بل على مقدرته في تطبيق وعرض المفاهيم التي تعلمها.
  • تسمح بتوفير وقت للطالب لقضائه مع العائلة وللعب وممارسة ما يرغب فيه من هوايات. 

منظومة التعلم المترابطة هذه ستحتاج إلى وجود مجتمع تعلم افتراضي (virtual learning community) يستطيع الطالب الوصول إليه للحصول على ما يحتاجه من معلومات ومعارف. وكمثال لمجتمع التعلم الافتراضي نشير إلى منصة “دبي صف واحد” المجتمعية كمصدر جديد وتجربة ملهمة للمجتمع التربوي. وكذلك مجتمع “الأكاديمية الافتراضية الدولية” كأحد الأمثلة المتميزة للتعليم الافتراضي التي تضم في عضويتها مجموعة من المدارس الخاصة على مستوى العالم والتي تبنت مفهوم التعلم اللامحدود، وتحاول إعادة تصور التعلم في المجتمع الدولي المترابط.

لا شك أن التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي وإنترنت الأشياء والتعلم باللعب (gamification) ستلعب دوراً كبيراً في تطوير منصات التعلم وستحدد ملامح التعليم عن بعد في المستقبل، حيث سيصبح بالإمكان تقديم عملية تعلم مخصصة للطالب بحسب قدراته وأدائه فيما يعرف بـ “التعلم التكيفي” (adaptive learning)، وستتحول مناهج التعلم إلى رقمية تفاعلية وستكون أكثر مرونة وستتغير وتتفاعل مع المتغيرات العالمية وستراعي الفروق الفردية بين الطلاب وستتكيف بحسب قدرات واحتياجات الطالب وستوفر تقييماً للطالب حول مستواه التعليمي وستوجهه لتجاوز الصعوبات التي يواجهها في التعلم. 

سنشاهد تطوراً وزيادة في استخدام تقنية الواقع الافتراضي والواقع المعزز خلال تفاعل الطالب مع المادة لتحسين وتعزيز عملية الاستيعاب في التعلم، وستسمح هذه التقنيات بتطوير مختبرات افتراضية تفاعلية لإجراء التجارب العلمية الفيزيائية والكيميائية والنمذجة الرياضية وتحليل وإظهار النتائج في صور جرافيكية مباشرة من جهاز الحاسب ومن دون الحاجة للمختبرات المدرسية. ونشير هنا إلى برنامج المختبرات الافتراضية لوزارة التعليم السعودية الذي يُعد مثالاً يحتذى به في هذا الاتجاه.

إن هذا التوجه للانتقال للتعليم عن بعد يقودنا للتفكير في الغرض الذي نعلم طلابنا من أجله، والذي يتمثل في إكسابهم المهارات الحياتية المطلوبة للمستقبل، والتي تركز على المرونة والقدرة على مواجهة الأزمات (resilience)، وقد صُنفت من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي بمهارات التعلم الاجتماعي والعاطفي (Social-Emotional Learning SEL). وبحسب مؤسسة “كاسيل” (casel) يمكن تعريفها بالعملية التي من خلالها يكتسب الأطفال المعرفة والمهارات اللازمة لفهم وإدارة العواطف وتحديد وتحقيق الأهداف الإيجابية وإظهار التعاطف مع الآخرين وإنشاء العلاقات الإيجابية والحفاظ عليها واتخاذ قرارات مسؤولة. وهذه المهارات تتمثل في الإبداع والتفكير النقدي والقدرة على حل المشكلات والذكاء العاطفي والاجتماعي وعقلية النمو والتعلم مدى الحياة. من الضروري أن نضع خطة لإدماج تعلم هذه المهارات ضمن مناهج التعليم ابتداء من المرحلة المتوسطة ونعمل على تنفيذها ونقيس مدى تحصيلها لدى الطلاب.

التعليم عن بعد: إمكانيات ومميزات

هذه التطورات والإمكانيات والمميزات التي يوفرها التعليم عن بعد من مرونة في أوقات التعلم وإمكانية التعلم من أي مكان، والمزايا الأخرى مثل انخفاض رسوم التعليم عن بعد مقارنة بالرسوم المدرسية وتوفير وقت التنقل من وإلى المدرسة وتوفير كلفة المواصلات وتقليل الانبعاثات الكربونية، ستوفر خياراً لبعض أهالي وأُسر الطلبة للجوء إلى التعليم عن بعد وسيفرض على الحكومات ومؤسسات التعليم العام والخاص توفير هذا الخيار في الظروف الطبيعية لمن يرغب من الطلاب. بدأت بعض حكومات المنطقة، مثل وزارة التربية والتعليم في دولة الإمارات اعتماد وتطبيق التعليم الهجين الذي يجمع بين التعليم الصفي والتعليم عن بعد، وسيبدأ تطبيقه في المدارس الحكومية بنسبة 30% للتعليم عن بعد و70% للتعليم الصفي، بعد سنة من انتهاء الأزمة والعودة إلى الحياة الطبيعية، وقد يحدث هذا في عام 2022. 

إعادة تعريف دور المعلم ودور الأسرة

تشير التوجهات إلى أن دور المعلم سيتغير في المستقبل، من مُلقّن ومقدم للمعلومات إلى مرشد وموجه وميسر لعملية التعلم للطالب. هذا بالإضافة إلى ظهور أدوار جديدة مثل مطور المحتوى الرقمي أو إخصائي التعلم الرقمي وغيرها من الأدوار. وهذا يتطلب تأهيل المعلم بمهارات خاصة ليتمكن من قيادة عملية التعليم عن بعد. ونشير هنا إلى تجربة متميزة من دولة إلامارات تمثلت في مبادرة جامعة “حمدان بن محمد الذكية” لتوفير برنامج تدريب افتراضي مجاني تم من خلاله تأهيل ما يقارب 67,000 معلم.

وسيفرض نمط التعليم عن بعد على أهالي الطلبة دوراً متنامياً “كمعلمين” في مساعدة أطفالهم ومتابعتهم خلال فترة التعلم عن بعد لضمان جودة هذا النمط من التعليم، خاصة في المرحلة الابتدائية من سن 6 – 10 سنوات. وهنا سيتمثل التحدي لبعض الأسر في تخصيص الوقت الكافي لمتابعة تعلم أطفالهم خاصة فيما لو كان الأبوان يعملان في وظائف قد تشغلهم عن التفرغ لمتابعة أطفالهم خلال مرحلة التعلم عن بعد.

التوصيات

على دول الخليج والمنطقة العربية تسريع مبادرات التحول الرقمي وتطوير وتحسين البنية الرقمية لديها، ووضع الاستراتيجيات والسياسات لمستقبل التعليم بصورة عامة والتعليم عن بعد بصورة خاصة والعمل على خلق منظومة مترابطة للتعليم عن بعد، ووضع رؤية وتصور لنموذج مدرسة المستقبل. ونوصي بضرورة تكثيف التعاون بين دول الخليج والمنطقة في الاستفادة المشتركة وتبادل المنفعة من منصات التعليم الرقمية التي تم تطويرها، وخلق مجتمعات تعلم افتراضية على المستوى المحلي والخليجي والعربي، والتركيز على الأبحاث لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي للتعرف على اللغة العربية وتحسين جودة نطق الآلة للغة العربية من النص-للصوت (text-to-speech)، إذ إن معظم استخدامات الذكاء الاصطناعي الآن تركز على اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى.

اقرأ أيضاً: تقبل النقد

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .