ملخص: أتاحت لنا الجائحة وعواقبها على الصعيد الشخصي فرصة العثور على هويات وأدوار ووظائف جديدة لأنفسنا تلائم مواهبنا وطموحاتنا وساعدتنا على تحقيق الأهداف بدرجة أكبر. بالنسبة لمن يرغبون في التميز والتأثير، ربما أصبح الوقت مناسباً لتشكيل مسار جديد. في أثناء دراسة حياة إغناطيوس دي لويولا والعمل على مدى عقدين من الزمان في مساعدة المسؤولين التنفيذيين على التفكير في التغييرات الشخصية والمهنية اكتشف المؤلف أن من تمكن من الانتقال نحو حياة أغنى ذات معنى أكبر نجح في ذلك عن طريق الانتباه إلى 6 مجالات أساسية والتوفيق بينها: القدرة (المواهب التي تستخدمها فعلياً) والتواصل (علاقاتك مع الآخرين) والمصداقية (سمعتك) والتأمل (قدرتك على التوقف والنظر إلى الصورة الأكبر) والتعاطف (مع نفسك والآخرين) والرفاق (الأشخاص الذين يزيدون سعادتك وقوتك).
يتحدث الكثير منا عن "العودة إلى الوضع الطبيعي" إذ نفكر في تباطؤ جائحة "كوفيد-19" أو نهايتها، في حين يغتنم البعض هذه اللحظة بحكمة لإجراء عمليات معايرة لحياتهم وضبط لأهدافهم وابتكار لأنفسهم من جديد.
أتاحت لنا الأزمة العالمية وعواقبها على الصعيد الشخصي فرصة العثور على هويات وأدوار ووظائف جديدة لأنفسنا تلائم مواهبنا وطموحاتنا وساعدتنا على تحقيق الأهداف بدرجة أكبر. بالنسبة لمن يرغبون في التميز والتأثير، ربما أصبح الوقت مناسباً لتشكيل مسار جديد، وأود أن أقدم بعض النصائح حول طريقة القيام بذلك.
عند وضع خريطة للمستقبل يكون إلقاء نظرة على الماضي من الأمور المفيدة في غالب الأحيان، وإحدى القصص المفضلة لديّ عن الانتقال من الصدمة إلى الانتصار هي قصة درستها بإسهاب؛ قصة إغناطيوس دي لويولا مؤسس "جمعية الرهبنة اليسوعية" (Society of Jesus) المعروفة باسم "اليسوعيين" (Jesuits)، إلا أن هذا الإرث لم يكن قد تأسس بعد في عام 1521.
النقاط المحورية
في 20 مايو/أيار من ذاك العام أصابت قذيفة مدفع شاباً يدعى إغناطيوس، وهو يتيم أصبح عسكرياً له نشاط في الحياة الاجتماعية ضمن البلاط الملكي الإسباني. وبعد أن كُسرت إحدى ساقيه وجرحت الأخرى تعافى ليجد أن العظم المكسور لم يلتئم بشكل صحيح، واستدعى تصحيحه إعادة كسره ووضعه على النحو الصحيح في عملية من دون تخدير أدت إلى معاناته من مرض شديد، في الوقت نفسه فقد والد إغناطيوس البديل ومعلمه منصبه المتميز ككبير أمناء الخزانة الملكية.
كان من الممكن أن يخفض إغناطيوس طموحاته وهو متألم ومريض وعاطل عن العمل ومن دون معلم، لكنه رفعها بدلاً من ذلك وتعهد من فراش المرض باستعادة صحته من جديد وإيقاع أثر في العالم.
على مدى الأعوام العديدة التالية عمل أولاً على توضيح غايته، إذ أمضى قرابة العام في البحث عن ذاته في كهف، ألف بعده كتاب "التمارين الروحية" (Spiritual Exercises) الديني الذي أكد فيه على أهمية التأمل الذاتي واختيار طريق الخير الأكبر. بعد أن قرر أن يصبح كاهناً، ولكن من دون أي معرفة باللغة اللاتينية الأولية المطلوبة، عاد إلى المدرسة في سن 33، فدرس قواعد اللغة أولاً مع الصبية الصغار في مدينة برشلونة، ثم بحث عن أفضل تدريب أكاديمي في مدينتي ألكالا وسالامانكا (شلمنقة) ثم في جامعة باريس حيث ركز أيضاً على تجنيد مجموعة مذهلة من أصحاب الإمكانات العالية وتدريبهم لخدمة رسالته. ثم في عام 1540 استخدم رأسمال ضئيل لتأسيس جمعية "اليسوعيين"، وهي جماعة دينية تلتزم بتعهد خاص يقضي بسفر أعضائها إلى من هم بأمس الحاجة إليهم في أي مكان في العالم.
في غضون عقد من الزمان تمكن هو وزملاؤه من إنشاء أكثر من 30 كلية وتشغيلها ما أدى إلى إنشاء أكبر شبكة للتعليم العالي في العالم. أصبح اليسوعيون مقربين من الملوك الأوروبيين وإمبراطور سلالة مينغ الصيني والحاكم العسكري الياباني (شوغن) والإمبراطور المغولي في الهند. واستمر العمل حتى بعد وفاة إغناطيوس في عام 1556، وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، زاد عدد مؤسسات اليسوعيين على 700 مؤسسة منتشرة في 5 قارات، وحتى اليوم لا يزال لها أثر مهم في العالم.
في أثناء عملي مستشاراً في البحث عن المسؤولين التنفيذيين، الذي استمر أكثر من 3 عقود، قدمت كثيراً من الاستشارات لأشخاص يقفون عند نقاط محورية كالتي واجهها إغناطيوس بعد الحادث الذي تعرض له؛ مواقف يضطر فيها الأشخاص العاديون (كما كان إغناطيوس قبل أن يثبت نفسه) إلى اتخاذ قرار حول ما سيفعلونه تالياً. كنت في كل يوم أهتم باستكمال عملي الأساسي، المتمثل في تقديم المشورة للشركات حول جذب أصحاب المواهب وتطوير القدرات القيادية، بمقابلة شخص عاطل عن العمل أو محبط في عمله الحالي أو يتوق إلى البدء بمرحلة جديدة كلياً.
وحظيت بفرصة الخوض في نقاشات عميقة مع أكثر من 4,000 شخص يطمح إلى إعادة تعريف مستقبله، وأخبرني كل واحد منهم عن رحلته. اكتشفت أن من فعلوا مثل ما فعل إغناطيوس؛ استثمروا هذه النقاط المحورية للتقدم نحو حياة أغنى ذات معنى أكبر مملوءة بالنجاح الشخصي المستمر والتفوق والسعادة، فعلوا ذلك عن طريق الانتباه إلى 6 مجالات أساسية والتوفيق بينها، وهي كما يلي:
6 مجالات أساسية
المجالات الثلاثة الأولى هي القدرة والمصداقية والتواصل.
القدرة
وهي لا تشير إلى قدرتك على أداء وظائف أو أدوار محددة فقط، بل تشير إلى كفاءاتك أيضاً. التي يعتمد بعضها على مجالك المحدد أو تفضيلاتك، كالمعارف المختصة في العمليات أو التسويق أو التمويل. بالنسبة لطموحات إغناطيوس وحياته المهنية الجديدة مثلاً أصبح تعلم اللغة اللاتينية وعلوم اللاهوت ضرورة مطلقة، والتزم به مع طلاب يصغرونه بمقدار نصف عمره. هذه هي كفاءات "العتبة"؛ أي المهارات "الصعبة" اللازمة للدخول في المجال والبقاء فيه، مثل معرفة قواعد المحاسبة بالنسبة لأي شخص يسعى للدخول في مهنة تجارية.
ثمة قدرات عامة أخرى ذات قيمة متزايدة بالنسبة لأي دور قيادي، ومنها الوعي الذاتي القوي وضبط العواطف والتحفيز والتعاطف والوعي الاجتماعي والسياسي والقيادة الملهمة والعمل الجماعي ومهارات التأثير في الآخرين وحلّ النزاعات، هذه كفاءات قائمة غالباً على الذكاء العاطفي والاجتماعي ومرتبطة بقدرتنا على إدارة أنفسنا وعلاقاتنا مع الآخرين على النحو الصحيح.
لم يكن لدى إغناطيوس نفسه في أثناء سعيه الحثيث مع رفاقه لدراسة المنهج الأولي المطلوب أي شك في أن مفتاح نجاحهم على المدى الطويل هو إتقان هذه المهارات "الناعمة". في الواقع فإن التمارين (التي لا تزال تُمارس اليوم على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم) هي محاولة "للتغلب على ذات المرء وتنظيم حياته على نحو لا يسمح باتخاذ أي قرار تحت تأثير أي ارتباط مبالغ فيه".
كما أوضح دانيال غولمان، في كتابه الأكثر مبيعاً "الذكاء العاطفي"، الذي نشر في عام 1995، فقد بينت الأبحاث بصورة قاطعة أن هذه القدرات أهمّ من معدل الذكاء، وهي أهم الكفاءات المميزة لكبار القادة حتى الآن.
المصداقية
السمعة الجيدة مهمة أيضاً (أي ما يقوله الآخرون عنك بعد أن تغادر الغرفة أو تخرج من الاجتماع على منصة "زووم")، لكن يجب عليك أولاً أن تحقق سجل إنجازات قوي.
تعلم إغناطيوس ذلك بالطريقة الصعبة عندما سُجن مرتين لأنه قام بتدريس كتاب التمارين من دون أن يملك صفة الكاهن. بعد ذلك قرر أن يواصل الدراسة الرسمية وأن يسعى إلى الوصول إلى أعلى مستويات التميز الأكاديمي مع أتباعه، فانتقل من مدينة سالامانكا إلى جامعة باريس التي كانت حينئذ واحدة من أهمّ مؤسسات التعليم العالي المرموقة التي تجذب أفضل الطلاب وأذكاهم من جميع أنحاء العالم. تعزز تجاربنا التعليمية والمهنية مصداقيتنا ويجب أن نعمل بجد كبير على هذه المجالات.
وكذلك الأمر بالنسبة للتفوق، الذي يقول العالم في مجال الإدارة بيتر دراكر إنه يتحقق لمن يركزون على مكامن قوتهم وشغفهم. في عالمنا الذي تميزه الاتصالات المفرطة، حيث يبعد عنك أصحاب العمل والعملاء والزبائن الجدد مسافة نقرة واحدة أو طلب صداقة، وحيث أصبح الجميع مرتاحاً أكثر في بناء العلاقات مع الآخرين والعمل عن بعد، أصبح من السهل جداً أن تفعل ما تجيده وما تحبه وما سيدفع لك الناس المال لأجله لأنك لست مقيداً بدائرتك الاجتماعية المباشرة أو منطقتك الجغرافية. عملت في بداياتي في الأرجنتين لدى شركة محلية، ثم عملت في أوروبا، ثم مع تطور نظام الاتصالات الحديث عدت إلى موطني وواصلت العمل عن بعد مع شركة دولية للخدمات المهنية وسافرت بصورة متكررة. وأنا اليوم سعيد جداً في عملي المستقل الذي يتم من المنزل غالباً (عدا عن بعض الرحلات المتفرقة) مع عملاء منتشرين في أنحاء العالم على مشاريع تهمني بحق.
الاستقلالية هي أحد أعمدة المصداقية؛ التمسك بالصدق الفكري وإنهاء أي تضارب في المصالح سواء كان حقيقياً أو متصوراً. منذ عدة أعوام مضت، أخبرني أحد أصدقائي الصدوقين أني لن أُعتبر أبداً قائد فكر يتمتع بمصداقية تامة في مجال المواهب ما دمت أعمل كشريك في شركة بحث عن المسؤولين التنفيذيين، فأدركت ضرورة تخفيف مشاركتي في العمل مع الشركة التي أحبها على نحو تدريجي قبل أن أنهي عملي معها تماماً. كان قراراً صعباً، لكنه في النهاية عاد علي بقدر أكبر من الحرية والاستقلالية والمصداقية.
التواصل
يتضمن توليد فرص جديدة ونشر عملك والتعلم من الأفضل.
بالطبع، تمر علينا أوقات نرغب فيها بتوسيع شبكات معارفنا بدرجة كبيرة، عندما نكون عاطلين عن العمل مثلاً أو غير سعداء في عملنا ونبحث عن عمل جديد. نصيحتي هي أن تقوم بما يلي بطريقة منظمة: أنشئ قائمة تضم 100 جهة اتصال استراتيجية (تتضمن أصحاب العمل المحتملين والمصادر) وخطط لعملية التواصل الخارجي التي ستقوم بها. ويوضح هذا المقال طريقة القيام بذلك بمزيد من التفاصيل.
لكن في الأوقات العادية أنصح بنهج موجّه أكثر، بالتركيز على شبكة واحدة أو اثنتين على الأكثر لنشر عملك وتوليد فرص جديدة. في حالتي، عملت على مدى عقود بصورة أساسية عبر مكاتب شركة "إيغون زيندر" التي يصل عددها إلى 69 مكتباً وتنتشر في 42 دولة، ثم انتقلت بالتدريج ولكن بحزم إلى غرس شبكة معارفي في كلية "هارفارد للأعمال" عن طريق مراجعة أهم الأشخاص ضمن جهات الاتصال لدي والحرص على البقاء قريباً منهم.
يجب أن تكون هذه العلاقات أعمق من مجرد رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي؛ في عصرنا هذا يمكننا الاتصال إلكترونياً بصورة فورية مع الجميع تقريباً، ومن السهل أن نضيع وقتنا بتصفح مواقع "فيسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام" وغيرها من الأنشطة على الإنترنت، لكن عدا عن الاستخدام الاستراتيجي لموقع "لينكد إن"، يندر أن تساعدك هذه المنصات على بناء علاقات مهنية دائمة ومفيدة. يقضي أفضل القادة الذين أعرفهم قدراً كبيراً من الوقت في مراسلة أهم معارفهم والتحدث إليهم حيثما كانوا.
كان إغناطيوس بارعاً في ذلك قبل 500 عام تقريباً. على الرغم من أن رسائله المكتوبة يدوياً كانت تستغرق أشهراً للوصول إلى الشخص الموجهة إليه، فقد تمكن المؤرخون من استرداد قرابة 7,000 رسالة من قارتي آسيا وجنوب أميركا.
لاحظ أن هذه المجالات الثلاثة الأولى يعزز بعضها بعضاً بقوة لتنشئ حلقة حميدة قوية؛ فالتواصل يولّد الفرص التي تطور قدراتنا أكثر، لتعزز بدورها مصداقيتنا وتفتح لنا فرصاً جديدة عبر عمليات تواصل أفضل، وهكذا دواليك.
لكن حتى عندما نعمل على مواءمة هذه المجالات الثلاثة وتطويرها، الأمر الذي يجب أن يؤدي إلى نجاح مهني ومالي أكبر، لا يزال من المحتمل أن نواجه صعوبة في العثور على المعنى والشغف في العمل. مرة بعد مرة أدركت أن كثيراً ممن يبدون ناجحين ليسوا سعداء في الحقيقة، لذلك تحيط 3 مجالات أخرى بالمجالات السابقة، وهي التأمل والتعاطف والرفاق.
التأمل
نظراً للوتيرة المحمومة التي نعمل بها اليوم، بات من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن يأخذ كل منا الوقت الكافي للتفكير بعمق في حياته ومساره المهني وعلاقاته والعالم الأوسع. لكن ذلك كان ضرورياً أيضاً في عصر إغناطيوس الذي وصل في 25 مارس/آذار من عام 1522 إلى مدينة مانريسا بالقرب من مدينة برشلونة في رحلة حج إلى الأرض المقدسة، وكان يخطط للبقاء بضعة أيام فقط لكنه بقي هناك 11 شهراً كاملاً مما كان له أثر تحويلي كبير، إذ عمل في دار للمسنين وكان يقضي عدة ساعات يومياً في عزلة يصلي ويتأمل متفكراً في أفضل الممارسات للعثور على بوصلة الإنسان الأخلاقية الداخلية واتباعها، تضمن ذلك مفاهيم كانت تعتبر ثورية آنذاك، مثل عدم تحديد أوقات معينة من اليوم للصلاة والتأمل (كما تفعل معظم الطوائف الدينية الرئيسية) مع ممارسة اليقظة الذهنية في كل ما نفعله أينما كنا.
نحن أيضاً بحاجة إلى التوقف والاستماع إلى أصواتنا الداخلية التي تنبع من أعماقنا وسط هذا العالم المزدحم والصاخب، لكن تختلف الممارسات باختلاف الأشخاص. مثلاً، تعهدتُ ألا يكون النظر إلى هاتفي الذكي أول ما أقوم به صباحاً، الأمر ليس سهلاً، لكنه فعال للغاية في الحدّ من التوتر وتعزيز التركيز، وضبطت ساعتي الذكية لتذكرني بممارسة تمرين التنفس التأملي لبضع دقائق عدة مرات في اليوم، ما يساعدني على استعادة تركيزي، وعلى اعتباري متديناً فأنا أتأمل في آيات الكتاب المقدس التماساً لمزيد من الإلهام. أخيراً أمارس رياضة المشي السريع مرة واحدة على الأقلّ يومياً حفاظاً على نشاطي وتفاؤلي. يمكن لأي نوع من التأمل، سواء كان روحياً أو علمانياً، أن يحسن مزاجك ويرفع طاقتك وأداءك ويعزز جهاز المناعة في جسمك أيضاً.
التعاطف
أثبتت دراسة حديثة، اعتمدت على تحليل أكثر من 3,500 وحدة عمل تضم أكثر من 50,000 موظف، أن ارتفاع معدل السلوكات الوجدانية ينبئ بارتفاع الإنتاجية والكفاءة وتناقص معدلات الدوران الوظيفي.
كان إغناطيوس جندياً كما ذكرنا، وفي طريقه إلى مدينة مانريسا دخل في جدال حاد مع رجل مسلم وفكر في قتله، وعلى الرغم من ذلك سرعان ما وجد نفسه في دار العجزة يعتني بالمرضى بمحبة ويقوي قدرته على التعاطف. يعدّ الاهتمام الصادق بالآخرين واحدة من السمات المميزة الحقيقية للسموّ الشخصي.
لكن فهم نظام التعاطف مع الذات وممارسته يتمتع بنفس القدر من الأهمية، ولم يكن إغناطيوس يجيد ذلك بادئ الأمر بل كان يركز بقلق شديد على أخطائه الصغيرة قبل الاعتراف بها للكاهن ولم يتردد في استخدام السلاسل لمعاقبة نفسه جسدياً بقسوة. لكن مع مرور الوقت أدرك أنه بدلاً من تحري العيوب بدقة يجب عليه والآخرين البحث عن الخير، وبمجرد أن تحمل نظرة إيجابية تجاه نفسك وتعتني بها ستصبح مؤهلاً بدرجة أكبر لمساعدة من حولك.
على الرغم من دراستي لحياة إغناطيوس، فقد قضيت 50 عاماً واستعنت بمساعدة معالج عظيم قبل أن أتمكن من تبني عقلية التعاطف مع الذات أخيراً. إذا لم تحبّ نفسك على النحو الصحيح، فلا تتردد في البحث عن أفضل مساعدة احترافية، سواء كانت عن طريق معالج أو مدرب أو كاهن الاعتراف كما كان الحال مع إغناطيوس.
الرفاق
نقصد بالرفاق الأشخاص المميزين الذين اخترناهم كشركاء مقربين (شخصياً ومهنياً وعاطفياً وأفلاطونياً) في رحلات حياتنا. لن نتمكن من النجاح بمفردنا أبداً، وأفضل القادة الذين عرفتهم يحرصون بشدة على إحاطة أنفسهم بأفضل الأشخاص الذين يساعدونهم ليصبحوا أفضل كل يوم، كما يحيطون أنفسهم بمجموعة من المقربين الذين يساعدونهم على التمسك بصدقهم ويقدمون لهم الدعم عند اللزوم.
برع إغناطيوس في تطويق نفسه برفاق أقوياء وداعمين، مثلاً، أمضى أعواماً طويلة في البحث عن أفضل المجندين دون هوادة، مثل فرانسيس زافييه، الذي أرسله لاحقاً لنشر الديانة المسيحية في الهند والصين واليابان. وبعد البحث عن أصحاب الإمكانات العالية على نحو هادف استثمر بكثافة في تطويرهم، ومن الأمثلة عن ذلك هو خوان بولانكو، الذي أرسله إغناطيوس في سن 13 إلى باريس لدراسة الأدب والفلسفة، وبعد 9 أعوام، بعد أن حصل على تعليم استثنائي ذهب بولانكو إلى روما حيث أصبح سكرتيراً رسولياً، وبعد عامين فقط تم تعيينه كاتب عدل في الكرسي الرسولي وهو في سن 24. في ذلك الوقت أمضى إغناطيوس عاماً كاملاً في تقديم التوجيه والتدريب الشخصيين له، ثم أدخله في برنامج لتعليم أفضل الممارسات والتدريب على التناوب الوظيفي تضمن دراسة علم اللاهوت في مدينة بادوفا وقيادة مدرسة ناشئة في مقاطعة توسكانا بإيطاليا. بعد 5 أعوام أصبح بولانكو سكرتيراً لجمعية "الرهبنة اليسوعية" حيث كان موظفاً مهماً لمدة 25 عاماً وخدم أول 3 قادة عالميين للنظام.
تضمن ملف إغناطيوس التعريفي عن "الرئيس العام للرهبنة" الموضح في دساتير جمعية "الرهبنة اليسوعية" 4 خصائص رئيسية قمت بتكييفها لاستخدامها في إدارة المواهب وأعمال التطوير كما هو موضح في هذا المقال؛ كتب فيه عن "امتلاك فكر ورأي عظيمين في كل من المسائل التخمينية والعملية على حدّ سواء، أستاذ في التمييز والبت"، هذه هي السمات المميزة للإمكانات التي أسميها حبّ الاطلاع والبصيرة. أراد أيضاً أن يرى فيه تفاعلاً قوياً "داخلياً وخارجياً على حدّ سواء، مع الموازنة بين القسوة والحب والتعاطف" وعزيمة ثابتة، أي "المثابرة باستمرار، دون الضياع في التناقضات وحتى أقواها، لدرجة بذل الروح إذا لزم الأمر".
على الرغم من أننا نستثمر عقدين كاملين في تعليمنا الأولي، فالقليل منا يبحثون على نحو مدروس وحازم عن هؤلاء الحكماء الذين يمكنهم جعلنا أشخاصاً جدداً حرفياً بما يقدمونه لنا من إلهام ونصح. كما أوضحت في هذا المقال، ستساعدك 8 ممارسات محددة في هذا المجال، تشمل البحث الاستباقي عن هؤلاء المستشارين المهمين ومساعدتهم بصدق وعدم الخوف من سؤالهم عما يجب فعله، مثل إغناطيوس. ينتهي جزء كبير من رسائل إغناطيوس للأصدقاء والعائلة والزملاء بصيغ مختلفة من سؤاله الدائم "ماذا أفعل؟" نعم، طرح إغناطيوس هذا السؤال على نفسه وقدم النصائح للآخرين، لكنه طلب المشورة من أقرب أصدقائه وزملائه الموثوقين أيضاً.
اغتنام اللحظة
تم إطلاق جمعية "الرهبنة اليسوعية" في عالم يزداد تعقيداً ويتغير بسرعة ويبدو مشابهاً لعالمنا إلى حد ما. مثلما نعمل على إقامة علاقات عالمية جديدة عبر الإنترنت، أحدثت مطبعة "غوتنبرغ" في أيام إغناطيوس ثورة في نشر الأفكار في حين أسست رحلات الاستكشاف روابط دائمة بين أوروبا والقارتين الأميركيتين وآسيا. وكما أصبحت وجهات نظرنا التقليدية حول دور الشركات والحكومات في المجتمع موضع تساؤل اليوم كانت النظم العقائدية الراسخة في زمن إغناطيوس أيضاً تتعرض لهجوم لا سيما من الإصلاحيين البروتستانت الذين انتقدوا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
وسط كلّ هذه الاضطرابات لم يصب إغناطيوس بـ "كوفيد- 19"، بل بقذيفة مدفعية وخسر وظيفته ومعلمه ومسيرته المهنية. ومع ذلك، تمكن هذا الرجل الذي اشتق اسمه من الكلمة اللاتينية (ignis) بمعنى "النار"، من تحويل حالة الغموض إلى فرصة عن طريق إذكاء شعلة حماسه لتحقيق هدفه في أن يصبح نسخة أفضل عن نفسه وترك بصمة واضحة في العالم.
مع استمرار الجائحة، أحثك على اغتنام هذه اللحظة أيضاً للتعمق في سعيك إلى تحقيق الأهداف التي تسعى إليها عن طريق تنمية المجالات الستة باتباع بعض من أشهر نصائح إغناطيوس: "اعمل كما لو أن كل شيء يعتمد عليك، وتحلّ بالثقة كما لو أن كل شيء يعتمد على الله" و"اضحك وازدد قوة" و"انطلق وانجح وأحدث ضجة في العالم".