فكرت طوال هذا الأسبوع في سؤال شغلني منذ أن أعلن الشيخ محمد بن راشد، بصفته رئيساً لمجلس الوزراء في دولة الإمارات، قائمة بأسماء المؤسسات الحكومية الخمس الأفضل أداء وقائمة بأسوأ 5 مؤسسات أداء. قلت في نفسي: "يا إلهي، كم يتطلب الأمر من جرأة وثقة بالنفس، لكي يقول رئيس الحكومة: "وجهنا قبل 3 أشهر بتقييم الخدمات الرقمية للحكومة… وبعد استطلاع رأي 55 ألف متعامل حول رأيهم في خدمات 30 جهة حكومية.. نرفق لكم أفضل خمس جهات وأسوأ خمس جهات في الحكومة.. ونعطي 90 يوماً فرصة لتحسين الخدمات، سنعيد تقييم الجهات الأسوأ بعدها لاتخاذ قرار بشأنها".
من يجرؤ أولاً ليعلن على الملأ أسماء وزارات ومؤسسات وهيئات كبرى تشكل عصب الاقتصاد الإماراتي، ويصنفها بالسيئة في ظل تنافس محموم عالمي وإقليمي على جذب المستثمرين وأصحاب العقول؟ عندما يذكر رئيس الحكومة أن هيئة الضرائب وهيئة الأوراق والسلع ووزارة الطاقة والبنية التحتية، من بين تلك الجهات التي صنفها تقييم المتعاملين "بالأسوأ"، فما هي الرسالة التي ستتوجه إلى المستثمرين؟ وعندما يتضمن التقييم وزارة التربية والتعليم باعتبارها تتصدر تصنيف الأسوأ، فما الرسالة التي سيوجهها ذلك إلى أهالي الطلاب؟
ما هي قاعدة "الأسوأ قبل الأفضل"؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، تعالوا ننظر إلى ما يقوله العلم والبحث العلمي؛ المفكر الإداري الشهير بيتر سينغي يدعو إلى استخدام قاعدة "الأسوأ قبل الأفضل"، حيث يعتقد أن المؤسسات التي تأخذ نموها على محمل الجد يجب أن تشجع موظفيها على التحدث بصراحة عن المشكلات الحالية التي تعترض سبيلهم. والإحجام عن اتباع هذه الخطوة سيجعل النجاح ضرباً من الوهم، فغياب البيانات عن التجارب الفاشلة يعيقنا عن معرفة ما يجب إصلاحه وكيفية إصلاحه، ولا مجال للنمو دون وجود البيانات.
وفي مقال نُشر في "هارفارد بزنس ريفيو"، تقول إيمي إدموندسن أستاذة كرسي نوفارتس لمادة القيادة والإدارة في كلية "هارفارد للأعمال": "إن نشر الأخبار السيئة هو الخطوة الأولى التي تقودك إلى تحقيق النجاح، سواء انطوت هذه الأخبار على الإبلاغ عن معدل الجرائم في مدينة ما، أو عن أخطاء طبية في أحد المستشفيات، أو عن عدد حالات المرضى الجديدة في ظل الوباء. كما أن نشر معلومات دقيقة يتيح للأشخاص صبّ تركيزهم ومهاراتهم على التحديات التي تنطوي على تطوير حلول جديدة للمشكلات البارزة. وبدلاً من الاعتقاد الزائف أن الأمور تسير على نحو جيد، يمكن للقادة والخبراء المتخصصين التركيز على حل هذه المشكلات".
إذاً، نصل إلى الإجابات الأساسية الآن، أن المستثمرين وأهالي الطلاب سيكونون أكثر اطمئناناً عندما يجدون هذا الإفصاح والشفافية في التقييم، وسيكونون أسعد عندما يرون أن هذا التقييم جاء من الناس أنفسهم عبر استطلاع واسع النطاق. وخلافاً لطريقة بعض الأنظمة التي تفضل دفن رأسها في التراب وتستخدم قاعدة "عدم نشر الغسيل المتسخ"، فإن قاعدة المفكر الإداري بيتر سينغي "الأسوأ قبل الأفضل" تقول العكس.
تقييم المؤسسات الحكومية
الآن نعلم أن دولة الإمارات تقوم بهذا التقييم الدوري للمؤسسات الحكومية، ونعلم أن السعودية بدأت أيضاً بوضع أنظمة لتقييم المؤسسات الحكومية ومحاسبتها عبر مركز "أداء". والآن، تخيلوا لو ظهر التقييم ليعلن أن الوزارة والمؤسسات جميعها تؤدي أفضل أداء، وأن من يشتكي من الخدمات أو الروتين هو شخص "مُغرض" هدفه الإساءة إلى المؤسسات الوطنية. ماذا ستكون النتيجة؟ ستكون النتيجة، مثل ما أظهره هذا البحث العلمي الذي نشرناه في "هارفارد بزنس ريفيو" في مقال "دراسة شملت أكبر 40 شركة خليجية عن تأثير الشفافية في قرار المستثمر المحنك"، حيث استطلع الباحثون آراء الكثير من المستثمرين، وتبين لهم أنه كلما زادت الشفافية والإفصاح في بلد، انجذب المستثمرون إليه، وفي المقابل، يخافون ويترددون من الاستثمار في البلدان التي تفتقر إلى مستوى جيد من الإفصاح والشفافية. لا بديل عن الوضوح والشفافية في كشف الأخطاء لإصلاحها، وهي أفضل رسالة لمن أخطأ وللعملاء على حد سواء، لأنها تعني الثقة بأن ثمة نظاماً يراقب الأداء ويحمي المتعامل ويصوب أداء الموظف. هل تعلمون أن إحدى أكبر الشركات المالية في العالم وأنجحها "بريدج ووتر أسوشيتس"، التي يقودها رائد الأعمال والمستثمر العالمي العبقري راي داليو، تعلن سنوياً في حفل رسمي عن أسوأ المدراء لديها؟ يمكنكم الاطلاع هنا على نتائج تطبيق هذا المبدأ في هذه المؤسسة العملاقة والتي قاد إلى نجاحها وارتفاع أسهم نجاحها، ومقابلة مع أحد المدراء الذين حصلوا على لقب أسوأ مدير، وكيف انعكس ذلك على أدائه ونجاحه اللاحق في حوار مع عالم النفس المؤسساتي آدم غرانت.
المباشرة في تقديم الملاحظات
لطالما روّج بعض الخبراء والباحثين لفكرة "تقنية الساندويتش في إبداء التقييمات"، لكن الكثير من الباحثين والعلماء يميلون مؤخراً إلى ترجيح المباشرة في تقديم الملاحظات، وها هو الباحث في علم النفس روجر شفارتز، مستشار القيادة البارز، يكتب مقالاً في "هارفارد بزنس ريفيو" عنوانه "أسلوب الساندويتش يهدم ملاحظاتكم البناءة". كما أصدرت إيمي إدموندسن، الأستاذة في كلية "هارفارد للأعمال" كتاباً مهماً، نُشر عام 2019، بعنوان "المؤسسة الجريئة" (The Fearless Organization)، حيث ذكرت قصصاً مثيرة عن الدروس المستقاة والمنجزات التي تحققت عند طرح المشكلات بوضوح، والكوارث التي حدثت عند كتمان هذه المشكلات. وتقول إيمي: "يتطلب اختيار نهج الشفافية التحلي بالشجاعة، في حين يتطلّب التوصّل إلى الخيار الصحيح لتحقيق الأهداف التي تهم الجميع التحلي بالحكمة. فإذا رغبت الشركات في أن يتحدث موظفوها بصراحة عما يعرفونه ويرونه ويتساءلون عنه، فيجب على كل قائد أن يتّبع نهج الصدق والشفافية مبتعداً عن إخفاء الأخبار السيئة في الأزمات المستمرة".
ولكي نستكشف عقلية قائد مثل محمد بن راشد، وقناعته الراسخة بأن المؤسسات الحكومية أنشئت لخدمة الناس، وأن هدفه الأول هو ترسيخ هذا المبدأ في حكومته. لن نستغرب إذن أن نجد أن أول وصية في الوصايا العشر التي كتبها محمد بن راشد في خاتمة كتابه "قصتي" هي الوصية الآتية: "اخدم الناس، الغاية من الإدارة الحكومية هي خدمة الناس، الغاية من الوظيفة الحكومية هي خدمة المجتمع، الغاية من الإجراءات والأنظمة والقوانين هي خدمة البشر؛ لا تنس ذلك، لا تمجد الإجراءات، ولا تقدس القوانين، ولا تعتقد أن الأنظمة أهم من البشر".