تطبيقات مفاهيم الاقتصاد السلوكي من قبل المصارف المركزية والبنوك

6 دقائق

شكّل انتشار  مفاهيم الاقتصاد السلوكي وأدوات الترغيب (nudges) وغيرها من تطبيقات علم الاقتصاد السلوكي في السنوات العشر الأخيرة ابتكاراً مميزاً في صنع السياسات العامة. ومن التطبيقات العملية لهذا الانتشار: زيادة الاعتماد على البراهين واختبارات التحكم العشوائية (randomised controlled trials) التي عادة ما تُستعمل في حقل الاختبارات الطبية والأدوية، والتي من مميزاتها الاساسية قدرتها على قياس وتقييم فعالية برنامج معين بطريقة علميه دون الاعتماد على فرضيات مسبقة خاضعة لتحيزات (biases) وهي أغلب الأوقات عرضة للخطأ.

وبالرغم من أنّ هذا التطور قد انطلق من وحدات حكومية مركزية كرئاسة الوزراء أو رئاسة الدولة، فقد تمدد هذا النهج إلى وحدات حكومية لامركزية ومتخصصة كالوزارات التي تُطبق مفاهيم الاقتصاد السلوكي ضمن مجالات عملها. ومن الوحدات المتخصصة ما هو معني بالبيئة (كوحدة الترغيب في وزارة البيئة اليابانية)، وما هو معني في قطاع التنمية الاقتصادية والاجتماعية (كوحدة الترغيب في البنك الدولي)، وما هو معني بالطاقة والاستدامة (كوحدة الترغيب في إيرلندا)، وما هو معني في الصحة (كفريق التوجيه السلوكي في وزارة الصحة البريطانية)، وما هو معني بالعمل (كوحدة الترغيب في وزارة العمل السنغافورية) وغيرها.

مفاهيم الاقتصاد السلوكي في البنوك

برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات تدل على دخول المصارف المركزية إلى هذا المجال. ومن أوائل المصارف المركزية التي سعت إلى إدخال مبادئ الاقتصاد السلوكي في صلب عملها، البنك الفيدرالي في بوسطن، الذي أنشأ مركزاً لدعم الأبحاث في مجال الاقتصاد السلوكي. ويسعى عدد كبير من المصارف المركزية إلى دخول مضمار الاقتصاد السلوكي عبر أكثر من مدخل.

اقرأ أيضاً: الاقتصادات السلوكية تساعد على تسريع سداد مستحقات بطاقات الائتمان

وتشكل الشمولية المالية المدخل الأول لتطبيق أدبيات الاقتصاد السلوكي من قبل المصارف المركزية، ويمكن تلخيص تطبيقات قواعد هذا المنهج على ثلاثة مستويات:

المستوى الأول هو العرض، ويكمن بتقديم منتجات مالية مطعمة بالأدبيات السلوكية للفئات المعنية بالشمول المالي.

المستوى الثاني هو الطلب، ويكمن بتحسين القدرات المالية لهذه الفئات وتحسين وعيهم وثقافتهم المالية ورفع كفاءتهم في تقدير أفضل للتكاليف الفعلية التي تخص القروض. وتركيزاً على هذه النقطة، يمكننا القول أنّ مجرد تبسيط المعلومة يمكن أن يؤثر بشكل كبير على فعالية برامج التوعية، كما أنّ تطعيم الدورات التدريبية لمحو الأمية المالية بأدبيات الاقتصاد السلوكي من شأنه زيادة جدواها ومضاعفة أثرها. وبالفعل، أثبتت دراسة أُجريت في جمهورية الدومينيكان أنّ البرامج التدريبية التي تستند على قواعد مبسطة تؤدي إلى تحسن ملحوظ في الطريقة التي يدير بها أصحاب المؤسسات أعمالهم التجارية، من حيث الحفاظ على سجلات المحاسبة، وحساب الإيرادات الشهرية، وفصل السجلات المالية الشخصية.

اقرأ أيضاً: استخدام المحفزات السلوكية لعلاج مرض السكري

ويكمن المستوى الثالث لتطبيق أدبيات الاقتصاد السلوكي في مجال الشمول المالي في الربط بين العرض والطلب من خلال العمل على إيصال المنتج عبر هندسة الخيار (choice architecture) وعمليات ترغيب بسيطة وغير مكلفة وفعالة في توجيه المستخدمين لتحسين قدراتهم على الادخار وحصولهم على القروض واتخاذهم قرارات مالية أفضل.

ومن أدوات الترغيب الشائعة لتحسين آلية إيصال المنتج في موضع الشمول المالي: الوضع التلقائي (default choice)، تبسيط المعلومات والخطوات (simplified information & steps)، رسائل التذكير (reminders)، استراتيجيات الالتزام (commitment devices)، التأثير الاجتماعي أو المعايير الاجتماعية، وغيرهم من أدوات. وفيما يلي عرض لأمثلة عن هذه الأدوات والتطبيقات وتأثيرها على سلوكيات الناس في كلا المجالين.

هناك نوع شائع من أدوات الترغيب ذات تطبيقات سهلة في مجال الشمول المالي يهدف للحد من مماطلتنا في اتخاذ قرارات يمكن أن تغيّر وضعنا الراهن، وهو ما يعرف بالوضع التلقائي مثل تسجيل الموظفين تلقائياً من دون أي جهد منهم في برنامج ادخاري، أو حتى زيادة معدلات الادخار تلقائياً كلما حصلت زيادة في الراتب.

وبالفعل إحدى أهم عمليات الترغيب التي قام بها ريتشارد ثالر مؤلف كتاب "نادج" (nudge) مع كاس سانستين والذي نال مؤخراً جائزة نوبل للاقتصاد، كانت اختباره "زيادة الادخار غداً" والذي ساهم في زيادة المساهمات الشهرية للتقاعد بـنسبة 131% خلال خمس سنوات من التسجيل بالمقارنة مع فريق التحكم٬ وذلك عبر زيادة المساهمة عند زيادة الراتب بشكل تلقائي.

واستناداً على نجاح تجربة ثايلر تتالت الاختبارات في هذا المجال فقام على سبيل المثال باحثون في الولايات المتحدة الأميركية بزيادة عدد المنتسبين إلى برنامج حساب التقاعد الإضافي بنسبة 55%، وذلك عبر تبسيط المعلومات والخطوات المطلوبة للتسجيل. كما نجح فريق آخر في كولمبيا بزيادة وصلت إلى 42% في معدل الادخار لدى فئات أكثر فقراً خلال 12 شهراً، وذلك عبر رسائل تذكير نصية. ويشار هنا إلى أنّ لرسائل التذكير دوراً بسيطاً، لكنه محوري في تحسين الشمولية المالية من خلال تصحيح ميولنا لنسيان تفاصيل مهمة. وفي أكثر من تجربة ضمن هذا المجال تبين أنّ الحصول على رسائل تذكيرية شخصية تساعد في زيادة الادخار أكثر من الرسالة العامة.

اقرأ أيضاً: "الترغيب" وعلم الاقتصاد السلوكي لصنع القرار

بالفعل خلال اختبار جرى في كينيا لمجموعة من العاملين ذوي الدخل غير المنتظم (informal workers) أدت رسائل تذكيرية شخصية مصممة كأنها مرسلة من الأولاد إلى آبائهم تذكّرهم بضرورة الادخار لدراستهم في المستقبل إلى مضاعفة نسبة الادخار بالمقارنة مع مجموعة التحكم (أي التي لم تتلقى أي تدخل). وتجدر الإشارة إلى أنّ الأداة السلوكية التي أعطت أفضل نتيجة في هذه التجربة كانت عبارة عن قطعة معدنية كعربون لتذكير المشاركين بالتزام الادخار، منقوش عليها أرقام الأسابيع التي يتوجب على المشتركين حكها كدلالة على القيام بالادخار خلال أسبوع معين. وزادت هذه العملية نسبة الادخار بمعدل ثلاث مرات بالمقارنة مع مجموعة التحكم خلال فترة الاختبار التي بلغت 24 شهراً.

أما في تنزانيا، قام فريق عمل من "مركز بوسارا" للاقتصاد السلوكي، بالتعاون مع المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء، بزيادة الإقبال على الادخار الرقمي، من خلال إعلام المشاركين عن مدخراتهم النسبية مقارنة مع أفضل المدخرين (top savers) في المجموعة. ونجح التدخل الذي اعتمد على التأثير الاجتماعي والمقارنة الاجتماعية في زيادة معدل الادخار بنسبة 11% مقارنة مع مجموعة التحكم.

مجالات تطبيق الاقتصاد السلوكي في المصارف المركزية

بالإضافة إلى الشمول المالي، يمكن للمصارف المركزية تطبيق مبادئ الاقتصاد السلوكي في ثلاثة مجالات أُخرى وهي: تصميم سياسات أفضل لحماية المستهلك المالي، وإدارة المخاطر المالية والسلوكية، وهندسة السياسات النقدية واستهداف التضخم.

توفر سياسات حماية المستهلك المالي مدخلاً سهلاً لتطبيقات الاقتصاد السلوكي، فالسياسات التقليدية لحماية المستهلك صممت من وجهة نظر مفادها أنّ المستهلك عميل "عقلاني" يقوم بتحليل جميع المعلومات المتاحة أمامه لاتخاذ أفضل قرار ممكن، بحيث تؤدي الزيادة في المعلومات إلى قرارات أفضل. وهذا مخالف للأدلة المأخوذة من أبحاث الاقتصاد السلوكي التي تدل على أنّّ المستهلك غالباً ما يتخبط أمام كثرة المعلومات أو يُهمل المعلومات المتاحة أو أجزاء منها، حتى لو كانت بغاية الأهمية٬ أو يعتمد على جزئية بسيطة ربما لا تكون كافية لتكوين القرار الصائب. وبالتالي، يمكن للمصارف المركزية استخدام مفاهيم الاقتصاد السلوكي لإعادة تصميم سياسات حماية المستهلك. على سبيل المثال: "المعلومات التي يتلقاها المستهلك عندما يتقدم بطلب للحصول على رهن عقاري أو على بطاقة ائتمان أو يشتري منتجات التأمين أو يستثمر في صندوق للمعاشات التقاعدية". وبالفعل يمكن نقل المعلومات ذات الأهمية للمستهلك بطريقة جاذبة للانتباه ومفهومة وفي التوقيت المناسب.

وفي هذا الصدد، قام البنك المركزي الماليزي، بالشراكة مع المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء، بدور رائد في إنتاج خرائط سلوكية كجزء من مراجعة سياسات الإفصاح وممارسات البيع في قطاع التأمين. أما في المملكة المتحدة، فقد أجرت سلطة السلوك المالي (FCA) عدة تجارب مختبرية وميدانية لدراسة تأثير الإصدارات المختلفة من رسائل الاتصال والإفصاحات (communication letters and disclosures) على كل من المستهلكين والمؤسسات.

أما فيما يخص إدارة المخاطر المالية والسلوكية، فيملك الاقتصاد السلوكي دوراً هاماً في ذلك، ويمكن التركيز على شقين في هذا المجال. الأول، يكمن في معالجة ضغوط الديون (debt stress) في سوق الائتمان الاستهلاكي، حيث يمكن لأدوات الترغيب مثل رسائل التذكير أو استراتيجيات الالتزام وغيرها مساعدة الأفراد الذين يعانون من ضغوط الديون على سداد ديونهم في الوقت المحدد، وهو ما قام به البنك المركزي المجري مؤخراً كجزء من برنامج لتحسين إدارة الديون.

يمكن أيضاً استخدام مفاهيم الاقتصاد السلوكي لتحديد الفئات المجتمعية الأكثر عرضة لمخاطر الديون من خلال قياس سمات هذه الفئات السلوكية كالتحسب من الخسارة (loss aversion)، والعزوف عن المخاطرة (risk-aversion)، والعزوف عن الاقتراض (debt-aversion)، ومعدل الخصم الزمني (temporal discounting). وبالفعل، أجرى مصرف شيلي المركزي دراسة لتحديد شرائح المجتمع الأكثر عرضة لمخاطر الديون من خلال قياس السمات السلوكية التي سبق ذكرها، ما أتاح للمصرف تطوير سياسات تستهدف هذه الفئات وتسعى الى حمايتها ورفع كفاءتها وثقافتها المالية.

أما الشق الثاني في مجال إدارة المخاطر المالية والسلوكية، فيكمن في تحسين إدارتها ضمن المؤسسات المالية. ويُعد البنك المركزي الهولندي رائداً في تطبيق مفاهيم الاقتصاد السلوكي ضمن هذا المجال. على سبيل المثال، يقوم المصرف بدراسة كيفية تأثير العوامل السلوكية على جودة صنع القرار في المؤسسات المالية، سواء على مستوى مجالس الإدارة أو في غرف التداول، وكيفية تأثير ذلك على أداء وقوة المؤسسة المالية. ويقوم البنك المركزي بتحديد وتقييم الأسباب الجذرية للمخاطر السلوكية، وذلك عبر مراجعات معمقة للمؤسسات المالية لتحديد تلك التي لديها مخاطر سلوكية عالية.

أخيراً، تشكل الهندسة المالية في السياسة النقدية واستهداف التضخم (inflation targeting) المدخل الثالث لتطبيق أدبيات الاقتصاد السلوكي في المصارف المركزية. فالعديد من المصارف المركزية في الدول المتقدمة والنامية اعتمدت في العقدين الماضيين استراتيجية استهداف التضخم للحفاظ على استقرار الأسعار وتعزيز النمو الاقتصادي. وتقتضي هذه الاستراتيجية أن تلتزم المصارف المركزية بشكل واضح بهدف التضخم المعلن (stated inflation target) مستخدمة السياسات النقدية مثل التحكم بأسعار الفائدة لتحقيق هذا الهدف. وعلى هذا النحو، تعلن المراكز المركزية عن قيمة الهدف، وتنشر تقارير دورية عن تطور حجم التضخم، وذلك للتأثير على توقعات الرأي العام من خلال ترسيخ حدود التضخم المستهدف.

يرتبط نجاح هذا النظام النقدي بأسلوب التواصل الذي يعتمده البنك المركزي مع الرأي العام من جهة، وتقارب التوقعات العامة للهدف المطلوب من جهة أُخرى، ما يحتم على المصرف أن يدرك كيف تتكون هذه التوقعات التي غالباً ما تكون عرضة للعديد من التحيزات مثل تأكيد المعلومات (confirmation bias)، والصفة التمثيلية (representativeness bias)، والتوافر (availability bias). بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام تعاليم الاقتصاد السلوكي لتحسين سبل إيصال وجهات نظر المصرف المركزي بهدف الحفاظ على مصداقيته أمام الرأي العام. وتجدر الإشارة إلى أنّ قيادات المصارف المركزية معرّضة لنفس التحيزات في المهام التنظيمية والرقابية تماماً مثل أي شخص آخر، والتي يمكن أن تؤثر على قراراتهم.

بالرغم من بروز مفاهيم الاقتصاد السلوكي ووحدات للترغيب والاقتصاد السلوكي مؤخراً في الشرق الأوسط٬ لا يمكن اعتبار الشمول المالي أو المسائل النقدية التي بدأت المصارف المركزية في بعض الدول لاسيما في أميركا وأوروبا بمقاربتها بعدسة سلوكية من المسائل التي هي على لائحة الأولوية في الشرق الأوسط. بانتظار مبادرة رائدة من أحد المصارف المركزية أو البنوك العربية في هذا المجال، لكننا نتطلع لأن يشكل هذا المقال أداة الترغيب التي تحفز صناع القرار على هذه الخطوة ونتطلع لاختبار ذلك عملياً.

اقرأ أيضاً: تعميم أفكار العلوم السلوكية ضمن الحمض النووي للمؤسسات

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي