تخوض الشركات سباقاً محموماً لمجرد الدخول إلى الأسواق والاستحواذ على جزء ولو صغير منه، فالأمر ليس سهلاً وسط عدد كبير من المنافسين واحتياجات متقلبة للعملاء ونماذج أعمال متغيرة بسبب التقنيات الثورية متسارعة النمو، غير أن هناك من دخل السوق واستحوذ على جزء كبير للغاية منه، بل ووصل إلى قمته ليُصنّف في قوائم الأعمال الأكثر شهرة، مثل فورتشن 500. ثمة أسرار ما في الأمر بالتأكيد!
تصطف أكبر 500 شركة عربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث إجمالي الإيرادات السنوية في قائمة فورتشن 500 العربية، التي أطلقتها مجرة مؤخراً، وتعد هذه الشركات هي الأبرز في المنطقة، إذ توفر مجتمعة فرص عمل لنحو مليونين ونصف المليون موظف.
الخبر الجيد هو أنه لا توجد أسرار، وإنما رؤى واضحة وخطوات مدروسة واستراتيجيات تبيّن أنها مشتركة بين هذه الشركات الأكثر نجاحاً، فما الذي يمكن أن تتعلمه الشركات الصغيرة من أكبر 500 شركة عربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
1. الاستثمار في المواهب
عبّر الرئيس التنفيذي السابق لشركة جنرال إلكتريك، جاك ويلش، عن أهمية الاستثمار في موظفي الشركة بمقولة شهيرة: "أهم أصل لدي أيّ شركة يخرج من الباب كل مساء: موظفوها. إنّ الاستثمار في تطويرهم ورضاهم يضمن عودتهم في اليوم التالي مستعدين لتقديم أفضل ما لديهم". ومع تغيّر ظروف العمل أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة، تزايدت أهمية الاستثمار في المواهب، خاصةً بعدما صار تطوير الموظفين شرطاً لدى أغلب المواهب الأجيال الجديدة لقبول فرص العمل من الأساس.
اهتمت الشركات المدرجة في قائمة فورتشن 500 بخلق بيئة جاذبة للمواهب عبر إطلاق مبادرات مختلفة، ومن ضمنها مبادرات التطوير المهني لموظفيها، فنجد شركة أرامكو على سبيل المثال، وهي الشركة الأولى في القائمة، قد وضعت، على مدى سنوات طويلة، استراتيجية تهدف إلى التطوير المستمر وبناء المهارات من خلال مجموعة من الدورات ومراكز التدريب وبرامج التدريب العملي للطلاب وبرامج الإرشاد الوظيفي.
ولنأخذ شركة صافولا التي تحل في المركز الثلاثين في القائمة مثالاً آخر، إذ ولى قادتها اهتماماً ملحوظاً بتعزيز ثقافة تساعدها على جذب المواهب وتعزيز العلاقات بينهم، فكانت صافولا من أفضل الشركات الجاذبة للمواهب من الجيل الجديد من خلال إتاحة الفرص للتعلم عن طريق برامج مثل برنامج الخريجين الممتد لـ 18 شهراً لتطوير المواهب بشكل عملي وفعال، إضافة إلى الاعتماد على الأدوات الرقمية التي يفضلها أبناء هذا الجيل، وابتكار نموذج للمسار المهني يمكّن الموظف الجديد من معرفة مستقبله في الشركة وأين يمكنه أن يكون خلال السنوات القادمة، اعتماداً على تقييم أدائه، وذلك وفقاً للمدير العام التنفيذي بالشركة، محمد السفياني، في مقال له في هارفارد بزنس ريفيو.
2. سمعة الابتكار
من الأمور المشتركة لدى كبريات الشركات الموجودة في قائمة فورتشن 500 العربية هي تعزيز سمعة الابتكار عنها، والمقصود هنا ليس المنتجات الابتكارية، وإنما الانطباع الذي تبنيه الشركة لدى العملاء والمستثمرين بأنها شركة ابتكارية. وقد قدرت دراسة حديثة لشركة "ريب تراك" (RepTrak) المتخصصة، أن سمعة الابتكار تساوي 13.1% من مجموع سمعة الشركات، هو ما يعادل مليارات الدولارات.
وتختلف طرق الشركات في تعزيز سمعة الابتكار سواء عبر براءات الاختراع أو الأوراق العلمية أو المراكز البحثية أو حاضنات الأفكار، فتمتلك أرامكو، مثلاً، 12 مركزاً بحثياً، ووصل عدد براءات الاختراع في الشركة إلى 683 في عام 2020 وحده، إضافة إلى تحفيزها موظفيها على مشاركة أفكارهم وابتكاراتهم، ففي عام 2020، قدّم الموظفون حوالي 60 ألف فكرة جديدة، نُفّذ منها أكثر من 9 آلاف فكرة، وفرت بدورها نحو 400 مليون دولار.
وتعد حاضنات الأفكار آلية سهلة يمكن للشركات الصغيرة البدء بها بآليات مختلفة مثل المسابقات، فمثلاً تنظم شركة أدنوك مسابقات داخلية للموظفين في الابتكار والتميز لتحفيزهم على تحقيق القيم والأهداف المؤسسية.
3. تقديم خدمة العملاء بطريقة مختلفة
تعد خدمة العملاء لاعباً رئيسياً في استمرار الشركات في السوق، بدايةً من بناء صورة العلامة التجارية وتعزيز الولاء لها، وحتى تحقيق الأرباح. فقد أفاد نحو 80% من العملاء أن تجربة خدمة العملاء الإيجابية تجعلهم أكثر عرضة لإعادة الشراء حتى عندما تتاح لهم فرصة التحول إلى منافس، وفقاً لشركة الأبحاث إيبسيلون (epsilon)، إضافة إلى أن تحسين تجربة خدمة العملاء يمكن أن يزيد إيرادات المبيعات بنسبة من 2% إلى 7% ويزيد الأرباح بنسبة من 1% إلى 2%، وفقاً لشركة ماكنزي آند كومباني (Mckinsey & Company).
وفي الواقع، كانت خدمة العملاء الإيجابية نقطة قوة للكثير من الشركات المدرجة في قائمة فورتشن 500، فانظر مثلاً إلى الشركة الناشئة التي دخلت نادي المليار، شركة جاهز السعودية (Jahez) والتي تحتل المركز 278 في القائمة، إذ يعزو نجاحها في الأساس إلى نهج الشراكة الذي تتبعه تجاه أصحاب المصلحة، بما في ذلك المطاعم وشركات التوصيل والمستخدمين النهائيين، إذ استطاعت الشركة، وفقاً للرئيس التنفيذي التجاري في الشركة، حمد عبدالله البكر، أن يحدث فرقاً في خدمة العملاء بالمملكة.
فيقول حمد عبدالله البكر إن قوة خدمة العملاء في تطبيق جاهز، أحد شركات مجموعة جاهز، وصلت إلى أن العميل يمكن أن يهاتف خدمة عملاء جاهز ليشكو أن العصير وصله دون ماصات وهو على يقين يدرون أن خدمة العملاء ستلتفت إلى شكواه وتعوّضه، إذ تنتهج الشركة نظاماً للتعويضات يعتمد على افتراض أن كل الشكاوى صادقة وكل العملاء صادقين ويستحقون التعويض، إذ وصلت قيمة التعويضات في عام واحد إلى 40 مليون ريال، لافتاً إلى الشركة تبدأ في الانتباه بعد الشكوى الثالثة من العميل الواحد.
وفي مثال آخر على الابتكار في تقديم خدمة العملاء، أطلقت شركة اتحاد اتصالات - موبايلي، تحتل المركز الـ 50 في القائمة، "مختبر تجربة العملاء" لأول مرة في السوق السعودي، ليمكن الشركة بشكل استباقي استيعاب رحلة العميل والعمل على تطويرها بشكل مستمر وبطرق إبداعية عالمية. وكانت الشركة قد فازت بجائزة أفضل تجربة للمستخدمين للعام 2021 والمقدمة من هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، كأول شركة تفوز بتلك الجائزة.
4. استراتيجية التنويع
ستبقى نصيحة الحفاظ على البيض في سلال مختلفة فعّالة في أغلب الأحوال، وتعد استراتيجية تنويع المنتجات أحد السبل الرئيسية للشركات لتطبيق هذه النصيحة، إذ تسعى أغلب الشركات في قائمة فورتشن إلى تطبيق هذه الاستراتيجية. فمن خلال تقديم مجموعة واسعة من المنتجات، يمكن للشركة الاحتفاظ بالعملاء الحاليين وجذب عملاء جدد، وتعزيز صورة العلامة التجارية لدى المستهلكين وتشجيع ولائهم، وكذلك زيادة موارد الشركة إلى الحد الأقصى.
تتمتع الشركات الكبرى بخبرة في تنويع مصادر إيراداتها سواء بالتنوع ذي الصلة عبر الوصول إلى صناعة أو سوق جديدة مماثلة للطلب الحالي للشركة، مثل ما تفعله شركات قائمة فورتشن ولا سيما المتخصصة في الزيوت مثل أرامكو وأدنوك واللتين توسعتا في أسواق الطاقة المتجددة والبتروكيماويات، وشركات المنتجات الاستهلاكية مثل المراعي وجهينة وإيديتا ودومتي وصافولا، أو التنوع غير ذي الصلة باختراق الشركة لأسواق جديدة تماماً مثل شركة إعمار العقارية التي توسعت لقطاعات الضيافة والتجزئة والترفيه، وشركة الاتصالات السعودية (STC) التي تخصصت في تقديم الحلول الإلكترونية والتكنولوجيا المالية والترفيه والتجارة الإلكترونية، ومجموعة ماجد الفطيم التي تعمل في تجارة التجزئة والعقارات والترفيه والطاقة والمركبات، وغيرها.
5. تحويل التحديات إلى فرص
تختبر التحديات قوة الشركات ومدى جاهزيتها وقدرتها على البقاء في السوق. وربما كانت جائحة كوفيد-19 أكبر اختبار في السنوات الأخيرة، إذ اختفت العديد من الأعمال والشركات أصبحت طي النسيان، ولكن شركات فورتشن استطاعت تجاوز الأزمة، بل واستفاد الكثير منها من هذه الأزمة، مثل شركة جاهز التي استغلت حالات الإغلاق في نمو أعمالها، وساعدها على ذلك، وفقاً للرئيس التنفيذي التجاري، جاهزيتها من قبل الأزمة.
مثال آخر على تحويل التحديات لفرص هي شركة مهارة للموارد البشرية، في المركز 268، التي وقفت أمام تحد كبير في عام 2015 حينما صدر تشريع وزاري بإلزام كافة شركات العمالة بأن يكون 20% من العمالة لديها عمالة منزلية نصفهم نساء، وهو تحدِ في هذا الوقت بسبب عدم وجود تعاقدات كافية مع الدول الموردة للعمالة، وفقاً للرئيس التنفيذي للشركة، عبد العزيز الكثيري، الذي أشار إلى أنهم فكروا حينها في طريقة تحويل التحدي إلى فرصة.
حينها كانت بعض الدول لديها مشكلات في توريد "العمالة المنزلية"، فراسل قادة الشركة القادة في الحكومة مقترحين استبدال لقب العامل المنزلي بعامل النظافة، ووافقت الوزارة، وبالفعل كان لهذا التغيير تأثيراً إيجابياً، إذ كانت لحظة محورية للشركة باستقدام عمالة من إندونيسيا تحديداً، لتحدث تغييراً في المجتمع بالكامل، وفقاً للكثيري.
6. الخسارة ليست النهاية
لا أحد يحب الخسارة ولا سيما في قطاع الأعمال، ولكنها محطة إجبارية خاضتها أغلب الشركات الكبرى تقريباً، فالنجاح هو التعثر من فشل إلى فشل دون فقدان الحماس كما يقول ونستون تشرشل، ويمكن الاستعانة هنا بمقولة أخرى وهي "النجاح ليس نهائياً، والفشل ليس قاتلاً: الشجاعة للاستمرار هي التي تهم"، وهذا ما فعلته شركة الاتصالات السعودية زين التي تحتل رقم 82 في القائمة، إذ عانت من الخسارة منذ تأسيسها عام 2008، واستطاعت بعد 8 سنوات تحقيق الربحية لأول مرة في 2017.
يمكن للشركات الصغيرة التعلم من شركة زين بأن الخسارة لا تعني نهاية الطريق، فربما يكون الحل في استراتيجية جديدة أو إعادة هيكلة أو ربما الحل في الصبر نفسه إذ يحتاج الأمر بعض الوقت، وفي بعض الأحيان قد يكون الحل هو تجاوز الفكرة إلى فكرة أخرى والتعلم فقط من الدرس حتى لا تقع الشركة في ما مغالطة التكلفة الغارقة أي الاستمرار تجنباً خسارة التكاليف التي تم دفعها بالفعل. الأمر كله مرهون بالتفكير والحكم السديد، وربما هنا قد تحتاج الشركات الصغيرة إلى مساعدة استشارية متخصصة.