ملخص: وُجد العمل عن بُعد ليبقى. وقد أدى هذا التحوُّل المفاجئ إلى ظهور الحاجة إلى إتقان المدراء والقادة لمهارات التوجيه الافتراضي ويخطئ الكثيرون حينما يفترضون أن القرب بمعناه المادي عنصرٌ ضروري في العلاقات التطويرية. إذ لا يختلف التوجيه عن العمل نفسه، بمعنى أن الوسيلة المستخدمة في إنجازه لا تهم كثيراً بقدر أهمية النتائج المحققة. ويعتبر الالتزام والثقة المتبادلة وجودة العلاقة وكفاءة الموجِّه هي المكونات الحقيقية للنمو التطويري، وكلها عناصر تنطبق على التوجيه الافتراضي.
ويستلزم إتقان مهارات التوجيه الافتراضي وبناء علاقات تطويرية فاعلة أن يعمل المدراء والقادة على صقل 5 مهارات أساسية. أولاً: بناء الثقة المتبادلة من خلال جعل العلاقة مساحة آمنة لكلا الطرفين والوفاء بأي وعود تقطعها على نفسك. ثانياً: توضيح قواعد التواصل، بما في ذلك تحديد وتيرة التواصل والوسائل المفضلة لإجرائه. ثالثاً: التصرُّف بوعي عند تكوين العلاقة من خلال طرح الأسئلة واكتشاف القيم المشتركة. رابعاً: الموازنة بين المصداقية والحدود. خامساً، وأخيراً: الحرص على التعاون قدر الإمكان.
لقد ولّى زمن العمل في المقرات المكتبية من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساءً. وأصبح العمل عن بُعد الآن ظاهرة عالمية، وكشف استقصاء أجرته مؤسسة "غالوب" في الخريف الماضي أن العمل من المنزل، بما في ذلك مختلف أنظمة العمل الهجينة، في سبيله إلى الاستمرارية. فقد كان 45% من الموظفين الأميركيين يعملون جزئياً أو كلياً عن بُعد منذ سبتمبر 2021، وخطَّط 91% منهم لمواصلة العمل عن بُعد إلى مستوى معين بعد تفشي جائحة فيروس كورونا، بل إن 58% منهم قد يفكرون في ترك وظائفهم الحالية إذا رفضت شركاتهم إقرار سياسات العمل عن بُعد بصورة دائمة. وعندما نمزج نتائج هذا الاستقصاء بالأدلة التي تُظهر أن إنتاجية العاملين عن بُعد تُضاهي إنتاجية أقرانهم في المقرات المكتبية أو تفوقها، سيتضح لنا بما لا يدع مجالاً للشك في أن العمل عن بُعد وُجد ليبقى.
وقد أدى هذا التحول المفاجئ إلى ظهور الحاجة إلى إتقان المدراء والقادة لمهارات التوجيه الافتراضي. فبعد 4 عقود من البحث لم يعد هناك مجال للشك في أن الموظفين الذين يتمتعون بإمكانية الوصول إلى علاقات التوجيه الإيجابية يجنون الكثير من الفوائد على المستويين الشخصي والمهني. وعندما يكون التوجيه عنصراً واضحاً في ثقافة الشركة، يتم تعزيز القدرة على استبقاء كل صاحب موهبة من الموظفين الجدد وتطوير أدائه المهني. ولكن كيف يمكن للمدراء تغيير أسلوبهم لإنشاء هذه العلاقات وتعزيزها في حال عجزهم عن مقابلة المتعلمين المحتملين بشحمهم ولحمهم؟
ويخطئ الكثيرون حينما يفترضون أن القرب بمعناه المادي عنصرٌ ضروري في العلاقات التطويرية. إذ لا يختلف التوجيه عن العمل نفسه، بمعنى أن الوسيلة المستخدمة في إنجازه لا تهم كثيراً بقدر أهمية النتائج المحققة. ويعتبر الالتزام والثقة المتبادلة وجودة العلاقة وكفاءة الموجِّه هي المكونات الحقيقية للنمو التطويري، وكلها عناصر تنطبق على التوجيه الافتراضي.
ويتمتع التوجيه الافتراضي بعدد من المزايا التي أفرزتها البيئة الجديدة للعمل عن بُعد والعمل الهجين. وقد أثبت أحدث الأبحاث حول العلاقات التطويرية الافتراضية أن هذا الشكل من التوجيه قد يكون أكثر مساواة، لأنه يتخلص من إشارات الوضع المرئي التي تشير إلى الوضع المؤسسي والمكانة المادية في المحادثات القائمة على الفيديو عن طريق اختزال كافة الأطراف في أصوات وشاشات متساوية الحجم. علاوة على ذلك، ففي بيئة ما بعد حملة #أنا_أيضاً، حيث قد يكون التوجيه بين أفراد النوعين محفوفاً بالمخاطر، فإن إتاحة فرص التواصل الافتراضي يمكن أن تقلل من القلق بشأن الاجتماعات الحضورية وجهاً لوجه. كما أن التوجيه الافتراضي يزيل أيضاً العوائق المرتبطة بالمساحة والجغرافيا المشتركة، حيث تتيح الخيارات الإلكترونية عبر الإنترنت مزيداً من المرونة في جداول مواعيد الموجِّهين والمتعلمين ومواقعهم الجغرافية. ويمكن تسجيل جلسات التوجيه وتدوينها، وذلك من أجل تمكين شركاء التوجيه من الرجوع إلى المحادثات السابقة والتفكير فيها، بالإضافة إلى تمكين الآخرين من التعلم منها بشكل غير مباشر في حالة مشاركتها. وأخيراً، فإن توافر تطبيقات الترجمة والترجمة التوضيحية على نطاق واسع في معظم المنصات الافتراضية يسهم في توسيع نطاق تأثير الموجِّه ليشمل جمهوراً عالمياً من المتعلمين المحتملين وأكثر شمولاً لذوي الهمم.
وبقدر تفاؤلنا بشأن التوجيه الافتراضي، فإننا نقر بوجود بعض العقبات المحتملة. فقد يتطلب التوجيه الافتراضي قدراً أكبر من التصرُّف الواعي مقارنة بالتوجيه بمعناه التقليدي في المقرات المكتبية وجهاً لوجه، وذلك لقلة الفرص المتاحة أمام الموجِّهين حالياً لممارسة التوجيه العفوي وليد اللحظة الذي يشمل التفاعلات أو الدردشات غير الرسمية في ردهات الشركة. قد يتطلب الأمر أيضاً بذل مزيد من الجهد لترسيخ أواصر الثقة وتعزيز الألفة في ثنايا العلاقة، نظراً لغياب عدد لا بأس به من الإشارات غير اللفظية والدلالات الصوتية. وكما هي الحال مع الكثير من الأعمال التعاونية عبر الإنترنت، فإن التوجيه الافتراضي قد يتسبّب أيضاً في إغراق كافة الأطراف المعنية بسيل منهمر من رسائل البريد الإلكتروني وإصابتهم بإجهاد الشاشة، ما قد يتسبب في تحوّل العلاقة إلى علاقة شكلية نفعية، بدلاً من التركيز على الدعم التفاعلي المباشر.
وهناك القليل من الفرص المتاحة للحصول على تدريب أو تعليم رسمي في فن وعلم التوجيه الافتراضي الناجح. (لم يقدّم سوى ما يقرب من 30% فقط من الشركات تدريباً على التوجيه الافتراضي قبل تفشي جائحة فيروس كورونا، لكن تلك الجهود ركّزت بشكل أكبر على برمجيات الشركة وسياساتها أكثر من التركيز على المهارات الشخصية والاجتماعية الأسلوبية من أجل إنجاح العلاقات الافتراضية). ولحسن الحظ، فهناك مهارات يمكن للقادة تعلمها لتحقيق النجاح. ونقترح في البداية صقل استراتيجيات التوجيه الافتراضية الخمس التالية:
بناء الثقة المتبادلة
يشكّل بناء الثقة حجر الأساس في أية علاقة تطويرية، وقد يتطلب قدراً أكبر من التصرُّف الواعي عبر وسائل التواصل الافتراضي. تتضمن هذه المهارات أخذ زمام المبادرة للتواصل وإبداء الالتزام والموثوقية في الاجتماعات وإظهار الحرص على تقديم الرعاية الحقيقية والاهتمام والتعاطف الحقيقي بشأن عمل المتعلّم وحياته. استمع بصدق وكن فضولياً وتجنب الافتراضات حول تطلعات المتعلّم أو مخاوفه. وتحدّث عن كيفية جعل العلاقة الافتراضية مساحة آمنة لكلا الطرفين (وهذا يشمل الاتفاق على الحفاظ على سرية كل ما سيتم وما لن يتم تسجيله أو البوح به)، واحرص على الوفاء بأية وعود تقطعها على نفسك. إذ لا يمكن للمتعلّم زيارة مكتبك لتذكيرك بتعريفه على شخص كنتَ قد وعدته بتعريفه عليه، لذا اكسب ثقته من خلال متابعة آخر المستجدات معه دون أن يطلب منك ذلك.
توضيح قواعد التواصل
على عكس الطبيعة غير الرسمية لترتيبات الاجتماعات الحضورية وجهاً لوجه، فإن التوجيه الافتراضي يتطلب مزيداً من الاهتمام لتحديد التوقعات المرتبطة بلوجستيات التواصل. وبالإضافة إلى تحديد وتيرة التواصل، ناقش وسائل التواصل المفضلة، بما في ذلك وسائل التواصل المتزامن (مثل المنصات القائمة على البث المباشر بالصوت والصورة لدى كلا الطرفين، وأنظمة التوجيه الداخلي، والمكالمات الهاتفية) ووسائل التواصل غير المتزامن (مثل البريد الإلكتروني والرسائل النصية ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "لينكد إن"). أيهما يبدو مريحاً لكلا الطرفين، وما هي حدود المُدد الزمنية للتواصل التي يجب الالتزام بها؟ بالإضافة إلى ذلك، عندما تعمل أنت أو المتعلّم عن بُعد، كن مرناً بشأن جداول مواعيد الاجتماعات، واحرص على مراعاة متطلبات تقديم الرعاية لأفراد الأسرة والتعليم المنزلي للأطفال والالتزامات الشخصية وغيرها من المسائل المرتبطة بالعمل من المنزل.
التصرُّف بوعي عند تكوين العلاقة
أثبتت الأبحاث حول بناء الألفة والتغلب على التحيزات والافتراضات في ممارسة التوجيه بين أفراد ينتمون إلى ثقافات مختلفة أن العمل على إنشاء تشابه عميق المستوى أمر مهم. على سبيل المثال: احرص على استخدام أدوات بناء العلاقات في المرحلة الأولى من التوجيه الافتراضي لفهم قيم المتعلّم وشخصيته واحتياجاته المهنية بشكل أفضل. اطرح أسئلة تغوص بشكل تدريجي في تفاصيل الخبرات والمشاعر والحياة أو الأحلام المهنية لكل من المتعلّم والموجِّه، حتى تشعر بعمق مستوى التقارب والتشابه. تصرف بوعي بشأن مشاركة أوجه التشابه والأهداف المهنية وأهداف العلاقة وتأملها لتطوير علاقة وطيدة وناجحة. ويعتبر الجهد المدروس عند تطوير العلاقة واكتشاف القيم المشتركة أفضل طريقة للتخلُّص من التحيزات الضمنية. ومن أبرز الأمثلة على هذه التحيزات الميل إلى المماثلين (هُموفيليا) في العلاقات عبر الإنترنت، وهو تحيز يشير إلى تفضيل التفاعل مع الأشخاص الذين يشبهوننا ديموغرافياً، وتكريس الصور النمطية حول العرق أو النوع.
الموازنة بين المصداقية والحدود
قد يتحوّل التوجيه الافتراضي بصورة من الصور إلى مجرد إجراءات شكلية روتينية تدور حول طبيعة العلاقة بين الموجِّه والمتعلم وتحديد جدول الأعمال والموضوعات المطروحة للنقاش. لكن في ظل وجود الكثير من التوجيه الافتراضي الذي تجري أحداثه داخل منازلنا، ستظهر حتماً لمحات من الحياة الشخصية لكلا الطرفين، بما في ذلك الظهور العفوي للأزواج أو الزوجات والأطفال والحيوانات الأليفة.
من ناحية أخرى، يجب على الموجِّهين المتميزين اغتنام هذه اللحظات النادرة، بما في ذلك إفصاح المتعلمين بكل صدق عن التحديات التي تواجههم في سبيل تحقيق التكامل بين العمل والحياة الشخصية، كفرص لإبداء التعاطف وتعميق الفهم والتواصل وتطبيع هذه الخبرات للمتعلمين من خلال إفصاح الموجِّه نفسه عن التحديات التي واجهته في هذا الجانب. ويجب أن يتذكر الموجِّهون بدلاً من ذلك ضرورة الحفاظ على بعض الحدود في العلاقات التي تربطهم بالمتعلمين. قد يشمل ذلك تجنب الإفصاحات التي قد تبدو محرجة للمتعلمين ومراعاة طريقة المرء في ارتداء الملابس والتعامل باحترام مع أفراد الأسرة (أفراد أسرتك أنت وأُسَر المتعلمين) والتحقق من مستوى شعور الفرد بالارتياح قبل مشاركة أية معلومات شخصية.
وبصفتهم أصحاب سلطة نسبية في التوجيه، يجب على الموجِّهين تحقيق التوازن بين الألفة الحقيقية والألفة غير المبرَّرة أو ما هو أسوأ، أي تحولها إلى علاقة كريهة.
الحرص على التعاون قدر الإمكان
لطالما أتاح التوجيه داخل المقرات المكتب فرصاً هائلة للعمل معاً في مشاريع متعددة، مثل البحث أو تطوير المنتجات أو العروض المقدَّمة للعملاء التي تعود بالنفع على كلٍّ من المتعلم والموجِّه والمؤسسة. وقد يصبح هذا التعاون منصة للتدريس للمتعلمين وتدريبهم والتعارف معهم. فلا تغفل إمكانات التعاون في العلاقات الافتراضية أيضاً.
على سبيل المثال: شجّعت إحدى مؤسسات الرعاية الصحية التي تتعامل معها إلين مجموعات ثنائية من الموجِّهين الافتراضيين على عرض مشروع بعد عام من دخولهم معاً في علاقة شراكة رسمية. فأعدّت إحدى المجموعات عرضاً تقديمياً لإلقائه في مؤتمر حول أبحاث سرطان الثدي، بينما أنشأت مجموعة أخرى عيادة متنقلة ليوم واحد لإجراء فحوصات التصوير الشعاعي للثدي. ويعزز التعاون المدروس كافة المهارات القابلة للتعليم، مثل إدارة المشاريع وإلقاء العروض التقديمية والكتابة والبحث وتقديم الملاحظات وتلقيها.
هناك مهارات جديدة للتوجيه الافتراضي، شأنها في ذلك شأن المهارات الإدارية الجديدة للعمل عن بُعد. وقد يصبح التوجيه الافتراضي فاعلاً للغاية من خلال الإعداد المدروس وتنمية المهارات. ونأمل أن يساعدك تطوير هذه المهارات على الاستعداد جيداً لإنشاء علاقة افتراضية عالية التأثير، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة في العلاقة التوجيهية الافتراضية.