ما هو مشروع ديستريكت 4.0 الذي يجري إنشاؤه في دولة الإمارات؟

9 دقائق
مشروع ديستريكت 4.0
wam.ae
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في مجمّع مستقبلي قيد الإنشاء في جامعة الإمارات العربية المتحدة (يو أيه إي يو) في العين سيتم استقبال مختبرات معاصرة صُممت خصيصاً لتطوير تقنيات فائقة سيكون لها دور في تغيير العالم في القرن الحادي والعشرين. وقد اصطُلح على تسمية هذا المركز “ديستريكت 4.0″، مع إيماننا بأنه قد يمثل واحداً من أكبر المشاريع التي تطلقها مؤسسة أكاديمية في الخليج العربي على الإطلاق. وهو بلا شك مشروع جاء في أوج أوانه: فديستريكت 4.0 يمثل جزءاً من استثمار استراتيجي تقوم به جامعة الإمارات العربية المتحدة (يو أيه إي يو) بهدف إدماج الثورة الصناعية الرابعة في المناهج التي يتلقاها طلابها ومن ثم في حياة جميع الأفراد الذين يقطنون في دولة الإمارات العربية المتحدة. إذ يتجاوز هذا المشروع في أهميته أهداف الجامعة في صيغتها المحلية على اعتباره يستلهم صورة مصغرة من طموحات الدولة وأحلامها الأوسع. وفي سياق رغبتنا تخصيص هذه السطور لاستعراض هذه المبادرة، وما تطمح إلى بلوغه، والشروط اللازم توافرها لضمان نجاحها، فإن تحليلاتنا مستوحاة بشكل مفتوح من الإطار المفاهيمي الذي تلخصه حروف كلمة “CLEVER” الذي ابتكره أستاذ ريادة الأعمال في كلية هالت العالمية للأعمال في دبي ولندن – أليساندرو لانتيري – وطرحه في آخر كتاب له عام 2019 حول الأسلوب الأمثل لاستخراج القدرات التجارية الكامنة في الثورة الصناعية في طورها الرابع.

تجاوز الحدود الأكاديمية التقليدية

في البدء، سيضم مشروع ديستريكت 4.0 مختبراً للإنساليات (Robotics) والذكاء الاصطناعي، وآخر للتركيب والتصنيع، ومعملاً للتطبيقات البرمجية، ومصنعاً صغيراً، ومكتبة مواد. وسوف تحفل هذه المرافق بآخر ما وصلت إليه التكنولوجيا ويتولى إدارتها مجموعات منتخبة من الباحثين بالجامعة لتقديم الدعم للمساقات التي يدرسها طلاب جامعة الإمارات والمشاريع العملية التابعة لها، ولبرامج التدريب المهني، ولخدمة مسارات البحث والتطوير التي يجريها الأساتذة في الكليات المختلفة، وصولاً إلى التطبيقات التجارية التي سيتم استحداثها بالتعاون مع كبار شركاء الجامعة في القطاع الصناعي. إذ سيكون “معمل التعلم” هذا مفتوحاً ومتاحاً أمام الطلاب وأفراد الهيئة التدريسية والعمال المستقلين وحتى الشركات لتقوم باستكشاف أفكارها الوليدة وتصنيع نماذج لها واختبار جدواها في حقول تتميز بدرجة عالية من الابتكار. وسيعمل ديستريكت 4.0 على تجاوز الحدود الأكاديمية التقليدية عبر إتاحة الاستفادة من المقاربات المنهجية الرائدة والتعلم مباشرة من خبراء جامعة الإمارات العربية المتحدة (يو أيه إي يو) الذين سيتولون مهمة الإشراف العلمي وتقديم ما يحتاج إليه المشاركون من الاستشارات المهنية، بأسلوب يجعل التوجيه شاملاً لجميع مراحل العملية الإبداعية، بدءاً من التصميم المجرد إلى مرحلة التسويق التجاري.

والواقع أن الأنشطة المنوطة بهذه المختبرات مستوحاة من رؤية تجمع بين بُعد المدى والواقعية العالية، وهو ما نرمي إلى رسم بعض معالمه باختصار في هذا المقال. إذ تنسجم هذه الرؤية تماماً مع لقب “جامعة المستقبل” الذي يميز الرسالة الفريدة التي تحملها جامعة الإمارات العربية المتحدة (يو أيه إي يو) الأولى، الأمر الذي يؤكد طموح هذه الجامعة لتكون “مؤسسة قائمة على الأبحاث” من الطراز الرفيع. فلن يكتفي مشروع ديستريكت 4.0 في إحداث انقلاب في أسلوب تدريس المواد التي تندرج في إطار (STEM، العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) على مستوى المنطقة، ولن يتوقف عند طرح معايير أكاديمية جديدة – مستكملاً التقدم المذهل الذي أحرزته الجامعة فارتقى بها سريعاً خلال السنوات الأربع الماضية من المرتبة 430 إلى 329 حسب مقياس كيو أس لأفضل الجامعات. فإضافة إلى تحقيق هذه الأهداف التي تحمل أهمية كبيرة بحد ذاتها، يُنتظر من مشروع ديستريكت 4.0 أن يتصدر لتحقيق غاية أكبر وأسمى، ألا وهي: أن يكون قلب الدولة النابض في مجال التمكن التكنولوجي والقدرات التصنيعية، وأن يكون المحرك الفكري الدافع لاقتصاد الإمارات إلى عصر ما بعد الوقود الأحفوري. إذ سيطلق هذا المشروع عملية تحول واسعة النطاق ويحافظ عليها بما يثمر فوائد مستدامة للبيئة التكنولوجية بأجمعها، ولا يحصرها في استثمار قصير الأمد، بل سيثبت دعائم جديدة للثروة الوطنية قائمة على المعرفة العلمية والكفاءة المهنية. ولا يذهب بك الظن بعيداً: فدولة الإمارات تدرك تماماً أن وضع مثل هذه الدعائم الراسخة بناء على التفوق الأكاديمي والبحث الابتكاري هو أمر في غاية الأهمية لاستلام دورها في الريادة المستقبلية ولتحقيق أبلغ الأثر في مجالات التصنيع عالي التقنية والخدمات المبتكرة التي تتميز بالتنافسية العالية.

[su_note note_color=”#f7ebc6″ radius=”15″]يمكنك الآن قراءة كتاب “طريقة كلفر” لمؤلفه أليساندرو لانتيري المتاح لمشتركي هارفارد بزنس ريفيو العربية من خلال تطبيق الهواتف المحمولة. حمِّلهُ الآن.[/su_note]

صياغة المستقبل

فما هي النماذج التي ينبغي لجامعة الإمارات اتباعها في هذا السباق الطموح؟ يشهد ميدان التقنية العالية اليوم انقساماً حاداً بين نموذجين يكادا أن يكونا متناقضين للصناعة في طورها الرابع (Industry 4.0): النموذج الأميركي والنموذج الصيني. وفي حين يواكب العالم الصراع القائم بين هذين العملاقين، تدرك قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة أن الحل يكمن في أن تتحرك في المساحة الاستراتيجية المتاحة بينهما، فتناور بحكمة لصياغة مسرحها الخاص مع الإبقاء على علاقة وثيقة بكلتا القوتين العالميتين. وهو ما يعني اكتساب أفضل ما تقدمه فلسفة كل منهما وما يطرحانه من نماذج الحوكمة. فالنموذج الأميركي يقوده السوق، ويكافئ المساهمات الجسورة والأصيلة للقطاع الخاص، ويفرض قواعد أخلاقية صارمة ومعايير مهنية عالية، ويشجع الاستكشاف المفتوح للأفكار والمبادرات المستجدة، ويجتذب إليه أندر المواهب التي تمسك اليوم بزمام المنافسة العالمية للسيطرة على الذكاء الاصطناعي. أما النموذج الصيني، فهو في المقابل – بما يتمتع به من إمكانية تحريك الموارد العامة الضخمة والإشراف عليها عبر حكومة لا تتردد في إجراء التدخلات الحاسمة لتنسيق عمل الشركات وتخصيص الموارد البشرية – يرى في الابتكار التكنولوجي طريقة للتدخل المجهري لهندسة أشكال غير مسبوقة من التنظيم المجتمعي الذي تتجذر حوكمته المستقرة فيما تقوم عليه من القيم المشتركة والمصالح الوطنية. وللإمارات الحرية في الاستفادة مما تشارك فيه أصلاً مناهج الشرق والغرب بطبيعتها، إذ يسمح لها ذلك بأن تشق طريقاً ثالثاً نحو الصناعة في طورها الرابع بمقاربة تجمع بين روح المغامرة والعبقرية التي تطبع العقلية التجارية العربية وبين مفهوم شامل للقيادة المستنيرة بالقيم العائلية كالرعاية وحسن الضيافة.

لكن لماذا جامعة الإمارات؟ وما الذي يجعلها مؤهلة للتصدي لمثل هذا التحدي؟ جامعة الإمارات هي الجامعة الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهي أول وأكبر مؤسسة للتعليم العالي في الدولة، كما أنها واحدة من ثلاث مؤسسات أكاديمية تتلقى دعماً مباشرة من الحكومة الاتحادية. وانطلاقاً من هذا الموقع، فهي يحدوها التزام راسخ بخدمة الشعب من جهة، كما أنها منفتحة من جهة أخرى على التعاون المربح مع المجتمع الدولي من العلماء والمبتكرين ورواد الأعمال الذي يعملون ضمن شبكة مترابطة يتشارك منافعها كل من البحث العلمي والصناعة والتجارة. وبهذا تكون جامعة الإمارات محور الاهتمام المحلي والعالمي عدا عن قيامها بدور استراتيجي في التحضير لنشوء مجتمع المعرفة واقتصاد الوفرة الذي تسعى إليه دولة الإمارات سعياً حثيثاً. ولن تتمكن جامعة من أداء هكذا دور إلا إذا قدمت لطلابها تعليماً عالمي الصبغة بما يضاعف من فرص الوظائف المتاحة لأفراد المجتمع المحلي بينما تعمل في ذات الوقت على ريادة الجديد من النشاطات المنتجة التي يحركها الابتكار والمهنية والقيم الإنسانية بشكل أساسي. وتبدو فكرة الصناعة في طورها الرابع محورية في صياغة مستقبل الإمارات: فبقدر ما تمثل فرصة للدولة لتحقيق تقدم تكنولوجي رفيع فهي تمثل أيضاً فرصة لتأكيد حضورها الإقليمي كنموذج يحتذى به ويعترف به الشركاء والمنافسون على حد سواء ويحاولون محاكاته. ومن خلال مبادرات بحجم ديستريكت 4.0 تصبح الإمارات منارة للقوى الأخرى الفاعلة، وتبرهن قدرتها على تحقيق رؤية جسورة تعتمد على الفهم العميق للواقع، وتستمد بقاءها من شغف لا ينطفئ، وتحفز حركتها قيم متجذرة في المجتمع الذي تنشط فيه.

نرغب في هذا المقال بإلقاء الضوء على بعض المبادئ الاستراتيجية التي لا بد منها لنجاح مشروع ديستريكت 4.0. ففي حين اعتمدت الثورات الصناعية السابقة على الأعمال المتكررة التي تنجزها المحركات الميكانيكية وعلى التواصل العالمي الذي أتاحته الاتصالات الرقمية، تأتي الثورة الصناعية الرابعة على أساس من المكونات التي تتحرك باستقلالية وتتخذ القرارات بذاتها، وعلى قدرات التعلم المتكيف، وتوافق النظم مع بعضها على مستوى العالم، وقوة التنبؤ المرتكزة على البيانات. إذ يمكن تعريف الصناعة في طورها الرابع من خلال تسع ممارسات تكنولوجية ناشئة وأنظمة إنتاجية مستحدثة: الروبوتات ذاتية الحركة، والمحاكاة، وتكامل النظم أفقياً وعمودياً، وإنترنت الأشياء في القطاع الصناعي، والأمن السيبراني، والتقنيات السحابية، والتصنيع الطبقي ثلاثي الأبعاد (additive manufacturing)، والواقع المعزز، والبيانات الضخمة والتحليلات المحوسبة. ويرمي مشروع ديستريكت 4.0 إلى إمداد جامعة الإمارات بقدرات رصينة في كل من هذه الممارسات التكنولوجية، مع تحقيق التميز في بعضها على الأقل. إذ ستمكن هذه القدرات بدورها جامعة الإمارات من تصميم أنشطة جديدة أكاديمية وغير أكاديمية، واحتضان عدد كبير من المشاريع التجارية، وتنمية الكفاءات والمهارات المهنية المطلوبة، وبناء رأس المال البشري اللازم. وبحسب الإطار المنهجي المستند على “CLEVER” فإن القدرة المزعزعة للصناعة في طورها الرابع تفوق مجموع الآثار الناتجة عن كل تكنولوجيا بمفردها إذا قسناها ضمن ثلة من التكنولوجيات المحددة مسبقاً. بل إن الممارسات التكنولوجية التسعة المذكورة آنفاً لا تخرج عن احتمال تطورها إلى ممارسات أخرى، أو تبدلها نتيجة للتطبيق المتوسع، أو إدراجها تحت منهجية علم-تقنية مختلفة أو أوسع نطاقاً، أو حتى العدول عنها كلياً إذا كان أداؤها دون المستوى. إذ إنه بإمكاننا اليوم رؤية هذه التكنولوجيات في بداياتها إلا أنه ليس بإمكاننا تصور المكان الذي ستقود إليه ومتى سيحصل ذلك والكيفية التي ستسلكها في طريقها. وهو ما يبرر أهمية رعاية مشروع ديستريكت 4.0 كلاً من هذه التكنولوجيات دون الالتصاق التام بأي منها على وجه الخصوص، آخذين في الاعتبار ديناميكية العلاقة التبادلية وانفتاح نهاياتها فيما يتعلق بالممارسات التكنولوجية والذهنيات الابتكارية التي تصنع الفرق في نهاية المطاف، فتوفر فرصاً غير مسبوقة لتوليد القيمة وتكشف اللثام عن أنماط جديدة من الإنتاجية.

مبادئ استراتيجية لنجاح ديستريكت 4.0

أولاً، ينبغي لمشروع ديستريكت 4.0 أن يعكس طموحات وقدرات الأمة ككل، بما يجسد فرادة النموذج الذي يمثله نجاح الإمارات الاستثنائي. كما ينبغي أن يكون مبنياً على الثقة الكبيرة والاحترام العالي الذي تتمتع بها جامعة الإمارات بين صناع القرار والمستثمرين الإماراتيين، والذين يرون في هذه الجامعة الوطنية أصلاً لا بديل عنه لبناء مستقبل المجتمع الإماراتي. ولا يمكن حصر المسعى الاستراتيجي لمشروع ديستريكت 4.0 في حدود جامعة الإمارات والكليات التابعة لها، فهو مشروع يتجاوز ذلك كله آخذين في الاعتبار المنظومة الأوسع التي تتحرك فيها دولة الإمارات كمنارة للحكمة والحداثة، بواسطة قوتها الناعمة كأيقونة يتطلع إليها شركاؤها في الخليج العربي والشرق الأوسط وما وراء البحار. ويمكننا أن نعزو هذه القدرة على تسهيل إنجاز الشراكات مع صياغة حوكمة مرنة إلى المقاربة الشاملة والحديثة والمتسامحة لدولة الإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي انعكس على ما تُعرف به البلاد من غنى اقتصادي واستقرار سياسي.

واصطحاباً لهذه المقاربة، ينبغي للصناعة في طورها الرابع أن تصبح قوة جديدة للإدماج والتعاون ومورداً جماعياً قادراً على تفعيل العلاقات التجارية والعلمية ودعمها بقوة داخل الدولة وخارجها على حد سواء. وانطلاقاً من هذا المفهوم وبناءً على هذه الرؤية يمكن لمشروع ديستريكت 4.0 أن يجتذب كوكبة من أفضل الفاعلين في القطاعين العام والخاص، فيتبنى نموذجاً يتنوع فيه أصحاب المصلحة ويرحب بالآراء المختلفة والخبرات المتباينة كمصدر ثراء، بينما يقوم في ذات الوقت بتنسيق وتسوية تيارات متعددة من المصالح المتلاقية تحت قيادته الرشيدة. كما سوف يضطلع قسم التبادل المعرفي – المسؤول عن صياغة العلاقات الاستراتيجية مع الحكومة والمؤسسات – بدور أساسي في ديستريكت 4.0 إذ سيدعو عدداً كبيراً من الشركاء للاستفادة من المشروع، والاستثمار فيه، والإسهام في تحقيق رؤيته.

كما سيعتمد نجاح مشروع ديستريكت 4.0 على قدرة قسم التبادل المعرفي على تأسيس مجموعة من الأنشطة التي يكمل بعضها بعضاً بما يضمن استمرارها جميعاً كحلقة مترابطة، وبما يحافظ على ديمومة المشروع ككل: إذ سيتم تصميم وتخطيط دعائم المشروع المتمثلة بالتعليم والبحث العلمي والتطبيقات التجارية مع وعي كامل بالدور الحاسم الذي ستؤديه البيانات في مجتمع المستقبل. إذ لن يعتمد اقتصاد الغد القائم على المعرفة على امتلاك الموارد المحدودة أو المواد القابلة للاستهلاك مثل النفط أو الغاز، وإنما على تداول البيانات بحوافز ذاتية وعلى التعقيد الأسي المتصاعد للنظم التي تختزن كميات مهولة من البيانات وتتعامل معها اقتباساً ونقلاً ومعالجة. فرواد الأعمال الذين يتبنون منهجية “CLEVER” في عصر الثورة الصناعية الرابعة لا يكتفون باستهلاك البيانات ببساطة وكأن ما تحويه من معلومات بضاعة خاملة، ولكنهم يقومون بتوليد وتصدير المعلومات كأداة إبداعية يمكن من خلالها مضاعفة المعرفة والقيمة. ولسوف يكون سوق الوظائف في القرن الحادي والعشرين مفتوحاً على مصراعيه أمام الفرص الجديدة والخدمات المستحدثة التي ستأتي بها هذه العملية الإبداعية. وبامتلاك زمام قوة البيانات، يغدو المفتاح الأكبر نحو تمكين استقرار الدولة المالي ممثلاً في التبني الشغوف لمنطق الوفرة، والتغلب على عقلية الندرة، واستبعاد المخاوف المرتبطة بنضوب الموارد المادية.

إن مشروع ديستريكت 4.0 سيضاعف مشاريعه وينوعها بسرعة ويدعم الشركات الناشئة ويطور براءات الاختراع عاكساً الأسلوب الذي توسع فيه الإمارات أفق أنشطتها المنتجة. وفي وقت لا يمكن فيه التنبؤ بالآثار النظامية للتقنيات الناشئة فضلاً عن احتمال حصول تغير سريع في المعايير المستخدمة لقياس إحراز التقدم، ستكون ديستريكت 4.0 جاهزة لاقتناص التوجهات الصاعدة مع الاستعداد لتعديل المسار بمهارة وفاعلية لمواكبة التحولات غير المتوقعة، بينما تحرص على التمييز الدقيق بين الفرص الحقيقية والمبالغات التي لا تعكس الواقع. وهو ما لا يمكن إنجازه دون مراعاة طبيعة التقنيات الرقمية في نفاذها إلى جميع نواحي الحياة وفي كونها عابرة في ذات الوقت ولا تثبت على حال، إضافة إلى التنبه إلى صعوبة استشراف ما ستكون عليه الأنظمة المستقلة واتخاذ القرارات بشكل اصطناعي، عدا عن الأنماط شبه غير المادية لتركيب الأشياء عبر عمليات التصنيع الجديدة، التي تمتد بمجموعها إلى الفضاء الافتراضي مؤسِسة لواقع يتنقل بين المحاكاة والتعزيز بما يستمده من بيانات.

وفي هذا الإطار، تتوسع الإمكانات المتاحة للاستثمار في القدرات الإبداعية الكامنة بشكل هائل. ونحن في ذلك بحاجة إلى الاهتداء بالقواعد المبنية على الدليل لتخصيص مواردنا على أساسها ولنقرر القيم والرؤى التي تستحق الحصول على الأولوية. ومن ناحية، فإن الآثار الاجتماعية للابتكار التكنولوجي تعتمد على عوامل معقدة من قبيل الثقافة، وشبكات التواصل بين النظراء، والانطباع الشخصي، بما في ذلك الأخلاقيات الراسخة والقبول الاجتماعي. ومن ناحية أخرى، فإن الدوافع الأساسية وراء العمليات الإنتاجية المبتكرة تكمن في إحراز النفع العام ونيل رضى المستخدمين. وهو ما يجب قياسه بدقة وباستمرار باستخدام المنهجيات المختلطة (crossing methodologies): تفصيل البيانات وإجراء المحاكاة على أساسها، والأساليب التجريبية لاستبيان المواقف والعواطف، والاعتبارات العملية المبنية على عمق فهمنا لخلفية الأنشطة التي نقوم بها.

وفي الختام، فإن لجامعة الإمارات سجلاً استثنائياً يحفل بالمبادرات التي نجحت من خلالها في مد جسور التعاون البنّاء بين القطاعات الأكاديمية والحكومية والصناعية. ومع ذلك، فقد لا يكون هذا كافياً. فالتحديات الكبرى التي ستواجه مشروع ديستريكت 4.0 تعتمد على خلق ثقافة الابتكار في كل منحى من مناحي المجتمع. وهو ما يعني التفوق في جذب المواهب واستبقائها بما يتجاوز تقديم رواتب تنافسية إلى الاستثمار في التطوير الشخصي وفتح أبواب الفرص المجزية للنمو المهني. كما يعني ذلك رعاية بيئة عمل تحتضن الإبداع الأصيل والاستكشاف الحر والتعبير الشخصي والثقة والاحترام المتبادلين. ويعني كذلك الحفاظ على نظام يعمل بالأفضلية فيمكّن للخبراء وينمي المواهب، ويُعلي من قدر النجاحات الشخصية والأخلاق المهنية والتميز العلمي دون أي تمييز ويكافئ على ذلك كله بعدل وإنصاف. وأخيراً وليس آخراً، فسوف يعتمد هذا المشروع بشكل رئيسي على قدرة الجامعة على جذب الاستثمارات طويلة المدى وتخصيصها بهدف استدامة البنية التحتية للأبحاث العلمية، على اعتبار أن مبادرة عالية الابتكار مثل ديستريكت 4.0 قد تحتاج إلى بضع سنوات لتصبح مستقلة بالكامل، وأن النتائج المثمرة والمبهرة بحاجة إلى قيادة صبورة تلتزم بالمحافظة على البحث العلمي والتطوير عبر منحهما الثقة والاستمرار فيهما. مرة أخرى، فإن العبء الأكبر سيكون من نصيب قسم التبادل المعرفي الذي لا غنى عن دوره لضمان توفير الشروط والاحتياجات الأساسية والحفاظ عليها بعون أكيد ودعم فاعل من إدارة الجامعة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .