ربما تكون الاستقلالية أهم عنصر لتشجيع المشاركة في شركة ما. كيف يشعر الفرد أنه جزء من الشركة – فضلاً عن شعوره بالإلهام – في حال أحسّ أن أحد مشرفيه يتابعه عن قرب؟ إلا أنّ الاستقلالية سيف ذو حدين، فمن جهة هي تحفز الإبداع والمشاركة، ومن جهة أخرى، قد تؤدي – في ظل عدم وجود الرقابة – إلى حالة من التضارب وغياب الكفاءة، وحتى إلى حدوث فوضى تنظيمية. وسوف يتحتم عليك مواجهة تحديات ثلاثة لإيجاد التوازن المناسب:
الموازنة بين الاستقلالية والمساءلة. يوجد ثقل أساسي موازٍ للاستقلالية وهو المساءلة الصارمة حول النتائج، وحول الأنشطة والسلوكيات المتبعة للوصول إلى هذه النتائج. ويجب على الشركة وضع استراتيجية وهدف يحددان الإطار العام لأنشطة الموظفين. كما يجب أن يبدأ تطبيق هذه الاستراتيجية بوجود أهداف قابلة للقياس، وقياس دائم للتقدم نحو تحقيق الأهداف، وأنظمة تقييم لمتابعة الأنشطة على مدار العمل، وتحديد تدابير ملائمة مترتبة على تحقيق الأهداف أو عدم تحقيقها. تدرك الشركات في أحسن أحوالها أن ليست الأشياء كلها قابلة للقياس، أو حتى يجب أن تخضع للقياس، وأن القياس الدائم للظروف المحيطة بالعمل والإدارة الجزئية هي إجراءات تفتقر إلى الكفاءة وتُضعف المعنويات. وتهيئ الشركات ظروفاً محددة شفافة وتوقعات واضحة، يعرف الموظفون والفِرق من خلالها أنهم سوف يتعرضون للمساءلة، وهم يعرفون صلاحياتهم كاملة. إنهم يفهمون الأهداف ولديهم نطاق واسع من الحرية في تحديد كيفية الوصول إليها ضمن صلاحياتهم. ويُعتبر وضوح الهدف وما نسميه بالاستراتيجيات عالية الدقة، التي تمنح الأشخاص رؤية واضحة للمكان الذين يتوجهون إليه، بمثابة البوصلة التي تستطيع أن توجِّه الخيارات التي تتخذها الفِرق والأفراد عند العمل بشكل مستقل.
موازنة الحرية في الابتكار في مقابل اتباع الإجراءات النمطية المعتمدة. يُحدد الفن والعلم هنا كيفية الحصول على النتيجتين، الثبات والابتكار، بنسب دقيقة وفي الأطر المناسبة من مؤسستك، وتُعتبر الحرية في الابتكار حاجة مُلحة في العديد من المجالات. فكِّر بتطوير منتج جديد أو أجزاء من سلسلة القيمة ونموذج العمل الخاص بالمؤسسة التي تخضع لعملية إعادة تجديد كبيرة نظراً للتحولات الرقمية. تكون سرعة الابتكار بالغة الأهمية في هذه الأنشطة، ويجب أن يكون الشعار هو الاستقلالية والفِرق الصغيرة والرشاقة التنظيمية. ومع ذلك، توجد مجالات أخرى يمكن لها الاستفادة من تطبيق نهُج موحدة. تكون المخرجات الثابتة في هذه المجالات مهمة، وتأتي سرعة التنفيذ جراء استخدام طرق مشتركة واتباع أفضل الممارسات وتطبيق إجراءات نمطية. يجب أن يكون التركيز هنا على الكفاءة وقابلية التكرار. ويتطلب كل منها سرعة في مجالات مختلفة، الابتكار في مقابل التنفيذ، ويحقق هذه النتائج بطرق مختلفة. والتحدي في الوصول إلى التوازن الصحيح يتمثل في معرفة أي الطرق يجب أن تكون المهيمنة، وكيفية تصميم طرق العمل الملائمة لكل مجال. ويؤدي اتباع نهج خاطئ إلى الارتباك بشأن الأهداف وغياب النتائج.
موازنة المواءمة مع الرقابة. ترتبط هذه المهمة ارتباطاً وثيقاً بالمهمتين السابقتين، ففي المؤسسات التقليدية ذات الهيكل الوظيفي الهرمي، يوجِّه المدراء عمل الموظفين، وبهذه الطريقة يتأكدون من مواءمتهم مع الأهداف التنظيمية العامة. ويكون نطاق الرقابة محدوداً على عدد معقول من الموظفين، ثمانية أو أقل، حتى يتمكن المدراء من مراقبة جهودهم على نحو فعال. يمكن أن ينجح هذا النموذج التنظيمي بشكل جيد في بيئات عمل مستقرة نسبياً، فتكون وتيرة التغيير متواضعة وتعتبر دورات التخطيط السنوية كافية لإدارة التغيرات الاستراتيجية وتصحيح المسار. وقد يكون هذا النوع من النماذج التنظيمية بطيئاً في الاستجابة والابتكار في بيئات العمل الديناميكية، التي تتطور فيها دورات الابتكار خلال أيام أو أسابيع بدلاً من أشهر وسنوات، ويكون معظم العمل فيها متعدد الوظائف تقوم عليه فِرق صغيرة ومرنة. يجب على الشركات التي تتبع نهج تمكين الفِرق المستقلة أن تبحث عن طرق لضمان التنسيق والتواصل فيما بين هذه الفِرق دون الحاجة إلى مدراء يتولون الرقابة. نؤكد هنا أن هذه المسألة تتعلق بفن الإدارة، إلى جانب كونها علماً يسعى لتحقيق المواءمة دون وجود رقابة مشددة.
والمثال المفضل لدينا لتوضيح كيفية التعامل مع هذه التحديات الثلاثة هي شركة "سبوتيفاي" (Spotify) السويدية. وتعتبر "سبوتيفاي" شركة بث موسيقى وفيديو وتدوينات صوتية، أُنشئت قبل عشرة أعوام، ويتابعها 30 مليون مشترك بعضويات مدفوعة، وتقدر عائداتها بـ 3 مليار دولار. يعمل معها أكثر من 2,000 موظف ضمن فِرق مرنة أو ما يطلق عليها (Squads). وتعتبر بمثابة فِرق ذاتية التنظيم ومتعددة الوظائف تتشارك في مكان واحد. وقد نجحت "سبوتيفاي" إلى حد كبير في الحفاظ على مبادئ وعقلية مرنة دون أن يكون ذلك على حساب المساءلة. فهي تمكِّن الابتكار بينما تحافظ في الوقت ذاته على مزايا إعادة التكرار، وتحقق المواءمة دون الحاجة إلى رقابة مشددة. وتنطبق الدروس المستفادة من طريقة عملها على العديد من الشركات، وليس فقط على مزودي الخدمات الرقمية. ونستعرض ذلك فيما يلي.
تتمثل الوحدة التنظيمية الأساسية لشركة "سبوتيفاي" في فريق مستقل لا يزيد عدد أفراده عن ثمانية أشخاص. ويعتبر كل فريق مسؤولاً عن جانب منفصل من جوانب المنتج، الذي يمتلكه من البداية حتى النهاية. وتمتلك الفِرق صلاحية اتخاذ القرار بشأن ماهية الشيء الذي تريد بناءه، وطريقة بنائه، والجهات التي ستعمل معها لتحقيق التوافقية في المنتج. ويتم تنظيم الفِرق في مصفوفة بسيطة تسمى قبيلة (Tribe). تضم القبائل عدة فِرق متصلة معاً بواسطة قسم (Chapter)، وهو تجمع أفقي يساعد على دعم كفاءات محددة مثل المساعدة الجيدة والتدريب المرن وتطوير الويب. ويتمثل الدور الرئيس للقسم في تيسير التعليم وتطوير الكفاءات في جميع الفِرق.
يتولى الفريق ذاته تحديد قيادته، بينما يكون قائد القسم مديراً سابقاً يركز على التدريب والإرشاد. تؤمن شركة "سبوتيفاي" بنموذج المدرب - اللاعب (Player-coach model)، فيكون قادة الأقسام أعضاءً في الفِرق أيضاً. كما يستطيع أعضاء الفِرق التبديل بينها مع الاحتفاظ بالقائد السابق نفسه داخل قسمهم. وأدخلت "سبوتيفاي" عنصراً تنظيمياً ثالثاً، يعرف باسم النقابة (Guild). وتكون النقابات عبارة عن مجتمعات صغيرة ذات اهتمامات مشتركة، ويتمثل هدفها الرئيس في مشاركة المعرفة في مجالات تتقاطع مع الأقسام والفِرق، مثل القيادة واستمرار تقديم الخدمة وإيصالها عبر الإنترنت.
هذه التوليفة الفريدة من الفِرق والقبائل والأقسام والنقابات هي البنية التحتية التنظيمية التي تشكِّل الأساس الذي يقوم عليه النموذج التشغيلي لـ "سبوتيفاي". للوهلة الأولى قد تبدو تلك طريقة أخرى لتعريف مصفوفة تنظيمية تقليدية بمصطلحات تنسجم مع العالم الرقمي وتواكب الزمن. ولكن نظرة متفحصة إليها تكشف مدى اختلاف هذا النموذج والسبب الذي يجعله ناجحاً.
تحقق هيكلية الفريق الاستقلالية دون التضحية بالمساءلة. فيمتلك كل فريق ميزات خاصة به على مدار دورة حياة المنتج، كما تحظى الفِرق باطلاع كامل على نجاحات هذه الميزات وإخفاقاتها. لا يوجد أي قائد محدد للفريق، وأي دور قيادي يكون وليد اللحظة ولا يتسم بصفة رسمية. تكون النتائج واضحة سواء من خلال التقييمات الداخلية أم تقييمات العملاء، ويُتوقع من الفِرق أن تفهم نجاحاتها وإخفاقاتها بشكل كامل. وتمر الفِرق بعد التقييم بعمليات تحليل لفشلها لضمان التعلم من ذلك، وتمتلك بعض الفِرق لوحات تكتب عليها أسباب فشلها. وكل بضعة أسابيع، تُجري الفِرق دراسات استعدادية لتقييم الأمور التي تسير على ما يرام والجوانب التي تحتاج إلى تحسين.
أعادت "سبوتيفاي" تصميم نظام إدارة الأداء الخاص بها بفصل مناقشة الراتب وتقييمات الأداء عن التدريب والتقييمات الأخرى، لضمان فعالية عملية التقييم بالنسبة للأفراد والفِرق على حد سواء. وقد كانت تقييمات الزملاء مدمجة في وقت سابق في تقييمات الراتب، وتقول "سبوتيفاي" إن "جمع الأشخاص المحفزون لأكبر كمية ممكنة من التقييمات الحسنة بدلاً من الحصول على تقييمات حول الجوانب التي تحتاج إلى أكبر عملية تحسين لديهم". يستخدم الزملاء الآن أداة داخلية لدعوة أي شخص، بمن فيهم المدراء والزملاء والمرؤوسين المباشرين، لتقديم آرائهم حول النتائج وما يمكن للفرد القيام به لكي يتطور. ويستطيع الموظفون طلب التقييم كلما رغبوا في ذلك. تقول لنا جوناس أمان، الموظفة لدى "سبوتيفاي" إن "النتيجة تتمثل في عملية يحتاج فيها كل شخص إلى امتلاك نفسه وتعزيزها، إنها عملية تتمركز حول التطوير والنمو الشخصي".
تُشجع "سبوتيفاي" الابتكار دون التضحية بميزات التكرار. بما أن الفِرق هي المحور الرئيس للابتكار، قدمت "سبوتيفاي" أقسامها على شكل مصفوفة تربط بين الكفاءات الموجودة في مختلف الفِرق. لتكون الأقسام بطرق معينة أشبه بمركز خبرة يؤدي وظيفة محددة في النموذج التقليدي، وهو ما يربط الوظائف التي يقودها المركز مع وحدات العمل. في حالة "سبوتيفاي"، يكون للأقسام سيطرة أقل رسمية، وهي منظمة حول كفاءات مختصة، على نحو مختلف عن الوظائف العامة. وأُضيفت النقابات لتسهيل مشاركة الخبرات حول مجالات الاهتمام الأفقية التي تتمتع بمستوى أعلى من كفاءة محددة. في النموذج التقليدي، تحدد الوظائف المركزية المعايير والعمليات المتكررة وتعززها من القمة إلى القاعدة. أما في "سبوتيفاي"، فتُكتشف طرق أفضل الممارسات مع الزمن، ويجري تحديدها من خلال انتشار الاعتماد عليها من القاعدة إلى القمة. وتصبح ممارسة أو أداة ما معياراً فقط إذا اعتُمدت لدى عدد كاف من الفِرق بما يؤهلها لتصبح معياراً بحكم الأمر الواقع.
تؤدي الثقافة دوراً كبيراً في إبقاء محرك الابتكار يعمل بأقصى طاقة ممكنة. فتتمتع "سبوتيفاي" بثقافة صديقة للتجربة، مع التأكيد على طرق التجريب والتعلم، وإجراء التجارب ضمن ظروف مُحكمة. وإن لم يعرف الناس الطريقة الأفضل للقيام بشيء ما، فمن الأرجح أنهم سيقومون بتجربة طُرق بديلة وإجراء العديد من اختبارات A/B لتحديد أفضل الطرق. لذا تعمل "سبوتيفاي" بجِد لتعويض البيانات وإجراء التجارب وفتح نقاش حول الأسباب الجذرية بدلاً من إبداء الرأي والأنا والسيطرة. فهي تقلص من عواقب الفشل من خلال هيكلية منفصلة، حتى يكون للفشل مدى تأثير محدود، ينال فقط جانباً واحداً من تجربة المستخدم.
تعزز "سبوتيفاي" المواءمة دون رقابة مشددة. يعتبر مفهوم "الفِرق المواءمة بإحكام ذات الرابطة الضعيفة" هو الميزة التنظيمية المركزية التي تشكِّل نموذج "سبوتيفاي". والاعتقاد الراسخ هنا هو أن "المواءمة تسمح بالاستقلالية، وكلما زادت نسبة المواءمة، كلما زاد نطاق الاستقلالية التي تستطيع منحه". وهذا هو السبب وراء استغراق الشركة لوقت أطول في مواءمة مساعيها وأهدافها قبل الشروع في العمل. ويدعم نموذج القيادة لدى سبوتيفاي هذه المواءمة. فيكون على القائد تحديد المشكلة الصحيحة والكشف عنها، حتى تتمكن الفِرق من التعاون في إيجاد أفضل الحلول. ويأتي التنسيق في إطار العمل ومن خلال فهم عميق لأولويات الشركة واستراتيجياتها الخاصة بالمنتج ومهمتها بصفة عامة. وتؤدي عملية نشر الميزات إلى توزيع جميع العناصر بين فِرق الميزات وفِرق البنية التحتية وفِرق تطبيقات العملاء. إن القدرة على نشر الميزات وتفعيلها أو تعطيلها تجعل بالإمكان إطلاق نسخ كاملة، حتى قبل تشغيلها بشكل تام. وتكون الثقافة محوراً للدعم في هذا الجانب أيضاً. شعار "سبوتيفاي" هو "كن مستقلاً، لكن لا تكن دون الحد الأمثل. كن مواطناً صالحاً في النظام البيئي لشركة سبوتيفاي". تشبه الشركة إلى حد كبير فرقة الجاز، فتعزف كل فِرقة باستخدام أداتها الخاصة، ولكن هذه الفِرق جميعها تستمتع إلى بعضها وتركز على الشكل العام للمقطوعة لتصنع لنا ألحاناً موسيقية رائعة.
لا شك أن خيارات "سبوتيفاي" لن تكون جميعها ملائمة لكل شركة، فليس هذا هو المقصد. إنما يكمن المغزى في أن أي شركة يجب أن تختار صراحة نموذجها التشغيلي، وطرق العمل، والثقافة الخاصة التي تتعامل مع المشاكل الثلاث الرئيسة بين استقلالية الفرد والأهداف التنظيمية. وإن المواءمة المنهجية لكل عناصر نموذجك التشغيلي وبيئة عملك لإتاحة الاستقلالية دون التضحية بالمساءلة، والقيام بالابتكار في الجوانب التي يحتاجها دون التضحية بميزات القدرة على التأقلم والتكرار، والمواءمة دون رقابة مشددة هي جميعها في صميم إنشاء بيئة عمل مُلهمة ومحفزة.