إن التحولات التي يعرفها العالم على مستوى الصناعة والاقتصاد في ضوء ما يصطلح عليه اليوم بالثورة الصناعية الرابعة فرضت واقعاً جديداً يتمثل في أتمتة مضطردة ورقمنة هيمنت تقريباً على أوجه الحياة الاقتصادية وتطورات تكنولوجية وهندسية عارمة خصوصاً على مستوى الدول الصناعية الكبرى. ومن المحتمل أن تسعى الدول الصاعدة والدول النامية إلى الاهتمام بهذه التحولات، التي تؤثر بشكل مختلف على واقع واقتصاديات الدول الأقل تقدماً كما بين "تقرير التنمية الصناعية للعام 2020" الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: تعريف الثورة الصناعية الرابعة
هذه التحولات استحدثتها تطورات هائلة على مستوى الذكاء الاصطناعي إلى جانب، ظهور الربوتات والآليات المتحركة بشكل ذاتي دون التدخل البشري وتطور النانوتكنلوجيا وصناعة الجزيئيات المجهرية و"معجزات" الهندسة الجينية وتطبيقاتها الطبية وتطور تقنيات تحفيز الذكاء والمزج بين الإنسان والآلة لأغراض بيولوجية وطبية والطباعة المتعددة الأبعاد وتأثيرها على مختلف أنواع الصناعة بما فيها الصناعة الغذائية وصناعة أعضاء الجسم الآلية والاصطناعية وغيرها... ولا يتسع الأمر هنا لجرد جميع التحولات التكنولوجية العميقة والتطبيقات التي أصدرتها، ولكن ما هو أساسي هو أن الواقع الجديد الذي خلقته هذه الثورة ما زال يحط أوزاره ويعرف كل يوم تحولات تُعمق الهوة بين صناعة الأمس واليوم والصناعة الممكنة في الغد في ظل ثورة تكنولوجية عارمة قد تكون أقوى وأعمق من سابقاتها.
المهن الجديدة والكفاءات المطلوبة
تقتضي التحولات التكنولوجية الكبرى وتطبيقاتها الصناعية على استحداث مهن جديدة قد تقضي على المهن الحالية أو تُغير تركيبتها لأن هذه المهن تحتاج إلى كفاءات متطورة صعبة المنال أو قليلة في الوقت الحالي. وما يسبب المشكلة في الوقت الراهن هو أنه من الصعب التكهن بمهارات المستقبل والمهن التي ستندثر أو التي ستظهر في عالم تتجاذبه تطورات وتطبيقات تكنولوجية مضطردة. لهذا تؤكد دراسات مثل تلك الصادرة عن "المنتدى الاقتصادي العالمي" على ضرورة التركيز على الكفاءات الأفقية (أو الحياتية) مثل القدرة على حل المشاكل المعقدة والحس النقدي والابتكار والإبداع وتدبير الناس والتنسيق مع الآخرين والنضج الانفعالي والتمحيص وأخذ القرار وتوجيه الخدمات. تعتبر الكفاءات الأفقية أساسية لمهن الغد ويوجد هناك شبه إجماع حول ضرورة توفرها عند اليد العاملة المؤهلة لمهن الغد.
ولكن المهن المتخصصة نفسها تبقى محط نقاش لأنها تعتمد على تكهنات حول سيناريوهات محتملة في أفق 2030 أو 2040. ورد في موقع ترايدسكولز ضمن مقال بعنوان: "أحسن المسارات المهنية المستقبلية: 51 مهنة في أفق 2020 وما بعدها" أن المهن الواحدة والخمسين المطلوبة في العقود المقبلة تدور حول الطاقات المتجددة والرعاية الطبية والبرمجة المعلوماتية والمضامين الرقمية وتحليل المعطيات والهندسة، خصوصاً الكهربائية والبيوجينية، ومهندسو البنايات والفضاءات الذكية ومشغلو الطائرات من دون طيار وتقنيو الطباعة الثلاثية الأبعاد والمتخصصون في "البلوك تشين" ومهندسو الواقع المدعم وتقنيو الروبوتات ومهندسو الزراعة في الفضاءات الحضرية ومهندسو النانو والبيوجينات وغيرهم. إن هذا الجرد أساسي ويُمكن للجامعات ومراكز التكوين المهني أن تأخذ به لتغيير المرجعية المعتمدة لتحديد الكفاءات ووضع برامج تكوين جديدة مناسبة. غير أن ما هو مطلوب هو توخي المرونة والاستعداد للتأقلم مع المستجدات وإعادة تكوين العاملين والأساتذة أنفسهم.
أوضح مركز ماكنزي العالمي للأبحاث في دراسة حول "تحول الكفاءات: الأتمتة ومستقبل اليد العاملة" أن "الحاجة إلى كفاءات معينة، مثل الكفاءات التكنولوجية والكفاءات الاجتماعية والعاطفية سترتفع، بينما سينخفض الطلب على الكفاءات اليدوية والبدنية". وتهم المهارات التكنولوجية التي ستعرف ارتفاعاً قد يصل إلى 55% في 2030 (مقارنة مع 2016) البرمجة والكفاءات في الميدان الرقمي. لهذا فعلى العاملين، بحسب الدراسة، أن يطوروا خبراتهم وأن يقتنوا مهارات جديدة، وعلى الشركات أن تُعيد النظر في طريقة تنظيم أعمالها على ضوء هذه التحولات التي تعرفها المهن والمهارات. إن الكثير من رواد الأعمال الذين شملتهم الدراسة أكدوا على أن التكييف يقتضي اعتماد فرق عمل والتسلح بكفاءات التعلم مدى الحياة (انظر لمقال مبدأ "التعلم مدى الحياة" وأهميته لإدارة الأعمال في زمن "الثورة الصناعية الرابعة)" والتزام مرونة أكثر في توزيع المهام. وأظن كذلك أن تنظيماً يعتمد على البرامج المحدودة في الزمن يعطي الفرصة للعاملين لإعادة صقل المهارات وإعادة توزيع الكفاءات حسب الطلب.
ما زالت الشركات ورواد الأعمال عبر العالم لم يستعدوا بالشكل الكافي لمهن المستقبل وللتغييرات التي ستأتي بها الثورة الصناعية الرابعة أو لتلك التحولات العميقة التي تعرفها الديمغرافيا والاقتصاد. إذ يتطلب تدبير التحول كفاءات غير متوفرة إلى الآن عند الكثير من رواد الأعمال. أضف إلى هذا أن ريادة الأعمال والموارد البشرية، حسب دراسة معهد ماكنزي، لا تتوفر على المعلومات الكافية حول اعتماد الأتمتة والذكاء الاصطناعي، وهو ما يجعلها أقل تنافسية في المستقبل القريب والمتوسط. وبحسب الدراسو التي قامت بها مؤسسة برايس ووترهاوس كوبرز والتي بعنوان "اليد العاملة في المستقبل: القوى المتنافسة التي ستحدد 2030"، فإن الكثير من هذه المؤسسات لا تعرف كيف تجهّز لهذا التحول لأن المعطيات التوقعية ما زالت قليلة أو متضاربة ولأن لا أحد يعرف أين سترسو سفينة الثورة الصناعية الرابعة.
توقعات لعام 2030
بناء على ثنائية الجماعي والفردي ("أي هل ستتمكن الحكومات من خلق توازن بين اقتصاد قوي من جهة ومصالح الأفراد أو الجهات أو المدن من جهة أخرى، وهل ستتمكن المجتمعات من خلق مسؤولية مشتركة في مقابل أنانية الأفراد والعائلات") وثنائية التجميع والتجزئة (أي مدى قدرة الشركات الصغرى على الولوج عن طريق التكنولوجيا إلى المعلومة التي كانت حكراً على الشركات الكبرى واستعمالها لأغراض تنافسية) قمنا بوضع أربعة سيناريوهات للعالم في أفق 2030.
يعتمد السيناريو الأول "العالم الأصفر" بحسب مؤسسة برايس ووترهاوس كوبرز على توجه جماعي متزايد وتجزئة متزايدة ويضع الإنسان في قلب المعادلة، ولهذا سينتظم العمال في تجمعات حرفية ليدافعوا عن حقوقهم في وجه قوى الأفراد والرأسمال والأتمتة. أما السيناريو الثاني "العالم الأحمر" فهو يعتمد على توجه تجزيئي ولكنه فردي في نفس الوقت وهكذا فالإبداع هو سيد الموقف، حيث يرتفع الطلب على المخترعين وخبراء التسويق وصانعي الثروة من خلال الأسواق المتخصصة. أما السيناريو الثالث "العالم الأخضر" فهو يركز على التوجه الجماعي والتجميعي وتطغى عليه المسؤولية الاجتماعية والاهتمام بقضايا البيئة والاستدامة، ما يجعل الاقتصاد والطلب على الشغل يميلان نحو ما هو مستديم وأخضر. وأخيراً، السيناريو الرابع "العالم الأزرق" المعتمد على الفردية والتجميع، حيث رأسمالية الشركات الكبرى وتغليب المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية يضحيان التوجه الغالب، ما يشجع استمرار الطلب على المهن التي تركز على المستهلك وتدبير ريادة الأعمال وإدارتها.
كل هذه السيناريوهات التي حددها تقرير برايس ووترهاوس كوبرز واردة ولكن التوصيات التي خلُص إليها بقيت عامة ولم تضع توجهات عملية لكيفية التعامل معها من طرف الحكومات ورواد الأعمال ومراكز التكوين المهني في خضم التأثيرات المحتملة على ميدان المهن والمهارات. ما هو أساسي في نظري هو أن تتهيأ إدارة الأعمال لكل الاحتمالات بالتركيز على المهارات الأفقية وعلى الموارد البشرية القابلة للتأقلم. بدورها يجب على الجامعات أن تركز على برامج تكوينية معتمِدة على جذع متين قوامه الكفاءات الحياتية والتواصلية وريادة الأعمال وتكوين جيد في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، ما يجعل الخريجين المسلحين بمهارات التعلم مدى الحياة قابلين للتأقلم مع كل الاحتمالات.
الولوج إلى المعرفة عربياً
في المنطقة العربية، وباستثناء بعض الشركات المعدودة على رؤوس الأصابع المدبرة بشكل عصري وحديث، ما زالت الثورة الصناعية الرابعة لم تحظ بالاهتمام اللازم من طرف رواد الأعمال. أما الجامعات العربية فهي أصلاً في معظمها لم تكن تُخَرج لريادة الأعمال لأنها لزمن قريب كان لها منطقها الخاص. ولم تكن تهتم بقابلية التشغيل لدى الخريجين وغالبيتها لا تتوفر على خطط استراتيجية لتطوير المهارات. إن الغالبية العظمى من الطلبة يتخرجون بمعارف غير مطلوبة تماماً في السوق مثل العلوم الإنسانية والآداب والقانون العام والدراسات الدينية. لا يعني هذا أن هذه المعارف غير مرغوب فيها، ولكن عدد الطلبة الذين يتخرجون منها كبير بالمقارنة مع الشعب العلمية والتكنولوجية، وطريقة تدريسها عتيقة ولا تستعمل كفاءات أفقية تساعد الطالب في الرفع من قابليته للتشغيل، كما بين ذلك شانطا ديفارجان في مقاله "مفارقة التعليم العالي في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط".
زد على هذا أن الجامعات العربية لم تدرك بعد التحول الذي يعرفه ميدان المعرفة والتحصيل وهو التركيز على كفاءات التعلم مدى الحياة والكفاءات الحياتية والنقدية التواصلية كأساس لدعم النقد والتحليل والاختراع، أما الولوج للمعرفة فهو شيء متاح للجميع عن طريق التكنولوجيا والثورة الرقمية.
كل هذا يقتضي من الجامعات ومراكز التكوين المهني إعادة النظر في طريقة عملها وإدارتها من أجل تدبير جودة التلقين والتعلم والبحث وإعادة النظر في المهارات التي تُعلمها. وهذا يقتضي كذلك أن يعيد الأساتذة النظر في طرقهم التربوية ومحتويات دروسهم وأن يقبلوا بإعادة النظر في تكوينهم المهني. هذه الثورة الذهنية هي الشرط الأساسي لانخراط مراكز التكوين المهني والجامعات في التحضير لمهن وكفاءات المستقبل. وهذا يتطلب تخطيطاً وبعد نظر وتدبيراً استراتيجياً محكماً.
يجب على الجامعات أن تقوم ببحث استباقي حول تطور الاقتصاديات العربية في علاقاتها مع التحولات الجذرية التي ستحدثها الثورة الصناعية الرابعة. وعلى أساس هذا يتم وضع تصور لتطور المهن والكفاءات، وهو تصور يجب أن يكون مرناً لأن التغيرات يمكن أن تأخذ وجهات مغايرة عما تستشفه الدراسة. ووضع التصور والهندسة التنظيمية وتهئية الأساتذة ووضع الشراكات مع مراكز البحث الوطنية والدولية يتطلب سنوات. لهذا يجب وضع الأساسات المشتركة للكفاءات الأفقية الحياتية والخاصة بريادة الأعمال والتدبيرية والعلمية والأدبية في السنوات الأولى للتكوين الجامعي بالتوازي مع هندسة اختبارات الكفاءة الدراسية المطلوبة مستقبلاً وإعادة تكوين الأساتذة في المهن الجديدة. ويعتبر استعمال الإنترنت من أجل دعم وتحسين قدرات الأساتذة أمراً أساسياً لتحقيق قفزة نوعية في غضون أربع أو خمس سنوات.
أخيراً، يعتبر دور الحكومات أساسياً لمساعدة الشركات والجامعات على حد سواء للاستعداد من أجل التغيير العميق الذي ستحدثه الثورة الصناعية الرابعة في ميدان المهن والمهارات. ويتمثل ذلك في تخصيص الدعم للجامعات والشركات لوضع مخططات استراتيجية للتحضير لمهن الغد، ودعم رقمنة التكوين المهني وإعادة التكوين المهني، والتركيز على الجودة والبحث العلمي والتنمية، ووضع تحفيزات للأساتذة الذين يعيدون تكوينهم بصفة تلقائية والاستثمار في تقييم المؤسسات الجامعية وكذلك وضع مراصد لتطور وتحول المهن والمهارات في ضوء التغيرات التكنولوجية والصناعية الكبرى.