لقد أصبحت مقاربة "التعلم مدى الحياة" مفهوماً شائعاً في أوساط رواد الأعمال ومدبري الموارد البشرية في كثير من الدول، خصوصاً في الدول المصنعة، والذين يستعملون هذا المفهوم للتعامل مع التغيّرات السريعة التي تشهدها قطاعات عدة إثر التحولات التكنولوجية الهائلة والتي أحدثتها "الثورة الصناعية الرابعة". توصّلت الدراسة التي قام بها مركز ماكنزي العالمي للأبحاث عام 2018 حول "تسخير الأتمتة من أجل مستقبل ضامن للشغل" إلى أنّ 50% من المهن الحالية هي "نظرياً قابلة للأتمتة"، وعلى الرغم من ذلك فإنّ 10% من المهن هي التي ستشتغل بالنمط الآلي مائة في المائة في أفق العام 2030. في المقابل تكهنت الدراسة بأنّ 60% من المهن ستعرف تحولاً نحو التشغيل الآلي في جزء منها قد يصل إلى 30% على الأقل. هذا التحول الكبير الذي ستعرفه عملية الإنتاج سيكون له تأثير لا يستهان به على سوق العمل وعلى المهارات والكفاءات المطلوبة للتأقلم مع التغيير.
في دراسة مركز ماكنزي المعنونة "مهن تنقرض، ومهن تظهر: ماذا يعني مستقبل التشغيل بالنسبة للمهارات والمهن والأجور" للعام 2018، يقول كتاب الدراسة الثمانية إنّ عدد الذين سيؤثر عليهم نمط التشغيل الآلي قد يصل من 400 إلى 800 مليون خلال العقد المقبل، وأنّ حوالي "75 مليون إلى 375 مليون سيجدون أنفسهم مجبرين على تغيير مهنهم وتعلم مهارات جديدة". وهذا التأثير قد يكون إما على شكل انقطاع عن العمل، أو تغيير في نمط العمل من عمل كامل إلى مؤقت أو جزئي أو تحويل الكثير من اليد العاملة نحو التعاقد المشروط في الزمن والمهام؛ وقد يكون على شكل فرص جديدة للتشغيل تقتضي مهارات جديدة وكفايات يصعب التكهن بشأنها في الوقت الحاضر. هذا التحول سيجبر الملايين على إعادة النظر في تكوينهم للتكيف مع المتغيرات الطارئة. وما دامت هذه التغيّرات والاختراعات المتصلة بها في ازدياد مضطرد، فإنّ مبدأ التعلم سيصير حتمياً "مدى الحياة" لدى العديد (إن لم نقل جل اليد العاملة في المستقبل القريب).
ظهر مفهوم "التعلم مدى الحياة" قبل ثلاثة عقود، ولكن أهميته في تدبير الرأسمال البشري وتوفيق المهارات بمتطلبات العمل، خصوصاً مع دخول الاقتصاد العالمي عصر الرقمنة والروبوتيك والذكاء الاصطناعي والمعطيات الكبرى والذكاء المدعم والبلوك تشين والهندسة الجينية، بدأت تكبر خلال العشرية الأخيرة. ويكمن التحدي الكبير في عملية إعادة التكوين العارمة التي ستحدثها الثورة على مستوى الدول الأربع الأكثر تصنيعاً في العالم، وذلك حسب دراسة ماكنزي للعام 2018. فإنّ عدد من سجبرون على التحول من المهارات الحالية إلى المهارات المستقبلية سيصل إلى الثلث في الولايات المتحدة وألمانيا والنصف في اليابان بينما سيضطر حوالي "100 مليون عامل في الصين إلى تغيير مهنهم إذا ما تم اعتماد الأتمتة بشكل سريع".
هل هناك أزمة مهارات تلوح في الأفق جراء التغيير المهول الذي يعرفه نمط الإنتاج عبر العالم وفي الدول المصنعة على وجه الخصوص؟ بحسب "المنتدى الاقتصادي العالمي" فإنّ الاقتصاد العالمي دخل منذ سنوات بما يسمى "أزمة المهارات" أي عدم مطابقة الكفايات التي يتم تطويرها الآن في الجامعات والمعاهد المتخصصة وحتى داخل التكوينات التي تنظمها ريادة الأعمال مع متطلبات سوق العمل. وبحسب تقرير المنتدى لعام 2018 الذي بعنوان "من أجل ثورة في إعادة إنتاج المهارات" فإنّ "حوالي 1,400,000 مهنة في الولايات المتحدة وحدها هي عرضة للاضطراب أو التعطيل بسبب التكنولوجيا أو عوامل أخرى في أفق العام 2026. في المقابل، يضيف التقرير، أنّ فرص التحول من مهنة إلى أخرى ستكبر إذا نجحت عملية إعادة تطوير المهارات؛ ويقول التقرير كذلك إنّ الكثير من هذه الفرص ستؤدي إلى رفع الأجور ودخل العمال.
ويعني مبدأ "التعلم مدى الحياة" عدم الاكتفاء بالكفايات التي تم الحصول عليها من خلال التكوين الكلاسيكي في الجامعات والمدارس والمعاهد، والانتقال إلى مقاربة تقتضي تحصيلاً مستمراً ودائماً عبر التكوين الذاتي والمشاركة في الورشات المنظمة من طرف ريادة الأعمال. وهذا يفترض في بعض الأحيان نفض غبار مهارات قديمة واكتساب أخرى جديدة، أو التحول من مسار مهني إلى آخر نظراً لتغيير جذري قد يطرأ في القطاع الاقتصادي المعني جراء الرقمنة أو الانتقال إلى النمط الآلي في الإنتاج كما بينت ذلك "جمعية تطوير التكوين الجامعي في كليات إدارة الأعمال (أيه أيه سي إس بي)" الأميركية في دراستها حول "التعلم مدى الحياة وإدارة المواهب".
إنّ أحد أهم التطورات التي يعرفها ميدان التكوين المستمر لليد العاملة بحسب الجمعية هو "أنّ المتعلمين أنفسهم هم من يتولون مسؤولية التعلم" بما في ذلك تحديد حاجاتهم و"اختيار البدائل" التي ستساعدهم في الوصول إلى الأهداف. ويكمن التحدي في كيفية الحصول على المعلومات الصحيحة والولوج إليها بطريقة سهلة ومعرفة دور المشغلين في تسهيل هذه العملية.
تحدد كل من إلينا هامبورغ وشارلوت لينديكي في مقالتهما حول "التعلم الرقمي وتطور إدارة الأعمال في ريادة الأعمال المتوسطة والصغيرة" تحديات التعلم مدى الحياة على مستوى إدارة الأعمال وقدرة الشركات في التعامل مع متطلبات الزبائن المتغيرة عبر تحديد مهارات يجب على العاملين اكتسابها بسرعة. وفي رأيي يجب أن نضيف إلى هذا تحد من نوع آخر وهو قدرة الشركات والمؤسسات على ملاءمة رغبات وتطلعات العاملين إلى نوع معين من المهارات مع حاجات ريادة الأعمال والزبائن على حد سواء.
إنّ تشغيل مبدأ "التعلم مدى الحياة" داخل ريادة الأعمال من شأنه أن يحفّز العاملين ويشجعهم على التحصيل والعطاء والبحث. وهذا من شأنه أن يساهم في التأسيس لريادة الأعمال المتعلمة كما بينّت ذلك في مقالي بهذا الشأن الذي بعنوان "لماذا عليك تحويل مشروع ريادة الأعمال إلى مؤسسة متعلمة؟". إنّ تبني مقاربة التعلم المستمر من شأنه كذلك أن يساعد ريادة الأعمال على تدبير التغيير بشكل أفضل. وفي هذا السياق يمكن القول أنّ تدبير التغيير هو من أكبر التحديات التي ستواجه إدارة الأعمال في العقود المقبلة ومن شأن ثقافة التعلم الدائم أن تهيء الرأسمال البشري لينخرط في إنجاح استراتيجيات التغيير الداخلي وتنفيذ مقاربات التأقلم مع التغيير الآتي من خارج ريادة الأعمال، أي من محيطها. أضف إلى هذا أنّ مبدأ "التعلم مدى الحياة" المنظم بشكل ذكي وناجع يُعتبر أفضل وسيلة لمواجهة التطورات التكنولوجية الهائلة التي خلقت وستخلق اضطرابات عميقة في كل مناحي الاقتصاد العالمي.
ويعد "التعلم مدى الحياة" مفيداً لريادة الأعمال لأنه يعطيها إمكانية إعادة توزيع سريعة للعاملين والتأقلم بنجاعة مع التغيير الطارئ في سوق العمل و"خوض" المهارات واكتساب تنافسية دائمة وخفض زمن وكلفة التسريح والتوظيف. نعم، إنه لمن الضروري أن يتوفر للعاملين الرغبة في البحث عن المعلومة والتعلم ونفض غبار القديم واكتساب الجديد. ولكن "تعلم كيفية التعلم مدى الحياة" هي كذلك مهارة وعلى ريادة الأعمال أن تعمل ما في جهدها لمساعدة العاملين على اكتسابها. ويتم ذلك عبر المساهمة مع العاملين في أداء فواتير ولوج قواعد البيانات الخاصة بالتكوين المؤدى عنها مثل ليندا دوت كوم التابعة لـ "لينكد إن" والتي تنتج معلومات حول التوجهات الخاصة بـ "هجرة المواهب ونسبة التشغيل والطلب على المهارات" وهو ما يجعلها توجه الأعضاء نحو الفرص الممكنة وتضع رهن إشارتهم "مهارات مهيأة بشكل دقيق" (كما بينت ذلك "جمعية تطوير التكوين الجامعي" في دراستها المشار إليها أعلاه).
قد يجد العاملون الأمر مكلفاً أو صعب المنال. من هنا يأتي دور الشركة في توفير العناية اللازمة والتوجيه والتكوين على التعلم. هناك مجموعة قواعد للدروس حول ذلك وهي غير مكلفة وهي متاحة على منصات مثل "كورسيرا " والتي توفر دروساً مجانية أو منخفضة التكلفة في المئات من المهارات؛ أو "ديغريد" والتي تساعد حوالي 3 مليون عضو منخرط في وضع تكوينات حسب احتياجاتهم الشخصية والمهنية وتاريخ تكوينهم؛ أو "سكيلفول" والتي تعمل مع المشغلين من أجل إيجاد المهارات التي يحتاجونها، ومع العاملين من أجل توجيه مهاراتهم نحو متطلبات العمل، وأخيراً مع المدربين لكي يقاربوا بين هؤلاء وأولئك عبر تكوينات عملية ودقيقة. وعلى الرغم من ذلك، ربما لا تكون قواعد البيانات الخاصة بالتكوين والتشغيل في المتناول؛ وقد يتكون هناك خوف لدى العاملين من استعمال الوسائل الرقمية أو قد لا يجدون الوقت الكافي للولوج إليها.
على إدارة الأعمال أن تهتم بمهارات "التعلم مدى الحياة" من خلال تعيين مسؤول رئيسي مهمته دعم سياسة إدارة الأعمال في هذا المجال، وعليها كذلك تنويع مصادر التعلم للتكيف مع حاجات وخصوصيات العاملين، وتوفير إمكانية التدريب على "تعلم التعلم مدى الحياة" وخلق تشجيعات للتكوين المستمر ووضع سياسات لتدبير الموارد البشرية تشجع على تغيير المسارات المهنية بسرعة وفعالية والاهتمام بالتغيير كفرصة وعدم مقاومته.
كما على ريادة الأعمال العربية أن تهتم بهذا المبدأ والذي لا ينحصر في "التكوين المستمر" فقط بل يتعداه ليشمل تحولاً كبيراً لدى المتعاونين في موقفهم من التغيير والتحولات التي يعرفها سوق العمل وما تقتضيه من مهارات وكفايات جديدة. ولكن أكبر التحديات التي ستواجه ريادة الأعمال العربية بشكل خاص هو صعوبة التخلص من المهارات القديمة، فالتعلم مدى الحياة مهارة في حد ذاتها، وكذلك سرعة التكيف مع التغيير. إنّ ما يجب على المرء في الدول العربية إدراكه هو أنّ عدم التعلم وعدم التكيف مع التغيير والتأخر في والولوج إلى سوق المهارات من بابه الواسع له كلفته، خصوصاً على تنافسية ريادة الأعمال وقدرتها على البقاء في السوق.