أكدت أزمة جائحة "كوفيد-19" على أهمية تبني منهجيات فعالة لتحسين الأداء في المؤسسات الحكومية، وزادت الضغوط الداعية إلى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة وتحسين الخدمات المقدمة خاصة في خضم بيئة غير مستقرة شهدت فيها الممارسات التقليدية لتحسين الأداء العديد من الانتكاسات التي أكدت ضرورة تغيير طريقة التعاطي مع العمل المؤسسي.
لقد بذلت العديد من الحكومات في الآونة الأخيرة جهوداً كبيرة لتحسين خدمات مؤسساتها وخلق قيمة للمتعاملين والقضاء على الهدر والأخطاء المتكررة في العمليات؛ ولهذا أصبحت الكفاءة والفعالية شعارات واضحة لهذه المرحلة التي تتطلب تحسين الخدمات والعمليات مع تقليل استهلاك الموارد، وهذا الأمر مهم لأن هذه الكيانات لها دور محوري في اقتصاد أي دولة في العالم، لأنها تساهم بنسبة تتراوح بين 20% إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي، ونظراً للوزن الاقتصادي الكبير لهذه المؤسسات، فقد زاد الاهتمام بها وبكيفية تحسين أدائها من خلال تبني منهجيات تحسين فعالة.
آلية عمل منهجية "كايزن"
لقد ابتكر تايئيتشي أوهنو المنهجية اليابانية لتحسين الأداء "كايزن" (Kaizen)، وتعني هذه الكلمة باللغة اليابانية "التغيير الدائم نحو الأفضل"، ويقصد بها أوهنو النشاطات التي تؤدي باستمرار إلى تحسين جميع نواحي العمل، وهذا ما طبقه اليابانيون بعد الحرب العالمية الثانية، فعلى الرغم من خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية وتدمير أجزاء كبيرة منها إلا أنه تم تطبيق نظرية "كايزن" لإعادة إعمارها، ومنذ ذلك الحين انتشرت تطبيقات "كايزن" في ميادين الأعمال في جميع أنحاء العالم، ولمن لا يعرف من هو تايئيتشي أوهنو فهو أب نظام الإنتاج في شركة "تويوتا" التي أصبح نظامها الإنتاجي (TPS) فعالاً في القضاء على الهدر وساهم بشكل ملحوظ في المحافظة على جودة الصناعة اليابانية.
إن التحسين المستمر للخدمات والعمليات إحدى استراتيجيات الأعمال الحديثة، ويعد أمراً أساسياً في نجاح المؤسسات على المدى الطويل، وتمثل منهجية "كايزن" نهجاً معاصراً من أجل تسهيل مهمة المؤسسات في تحقيق أهدافها وزيادة جودتها من خلال إجراء تغييرات متتالية فعالة تعتمد في الأساس على التخلص من الهدر والفاقد في الموارد وتعمل على خفض التكاليف وتزيد من معدل الإنتاجية، كما اكتسبت فكرة "كايزن" اهتماماً كبيراً باعتبارها أحد عوامل تقدم اليابان وتطور شركة "تويوتا" التي تبنت هذه المنهجية، ولهذا تركز الأدبيات حول "كايزن" بشكل أساسي على صناعات السيارات التي بدأت منها هذه المنهجية، ولكن بسبب فعالية هذه المنهجية، فقد امتد نشاطها لتشمل جميع جوانب العمل المؤسسي.
تجربة "شرطة دبي" في تبني منهجيات التحسين المستمر
بدأت المؤسسات الحكومية في السنوات الأخيرة في تنفيذ فكرة "كايزن" من أجل الاستفادة منها ودمجها في ممارساتها الإدارية، ومع ذلك، لا تزال تطبيقات "كايزن" محدودة وغير ناضجة في المؤسسات الحكومية لاسيما في قطاع الشرطة، حيث لم تُطبق هذه الأدوات إلا من قبل عدد محدود من وكالات الشرطة على مستوى العالم.
تعد "شرطة دبي" من أوائل الوكالات الشرطية التي تبنت منهجية "كايزن" وطبقتها في تحسين العمل الشرطي. هناك أدلة كثيرة على نجاح هذه المنهجية في تحسين الخدمات والعمليات في شرطة دبي، حيث تم تنفيذ ما يزيد على 350 مشروعاً تحسينياً خلال الأعوام الماضية، وحقق العديد من تلك المشاريع نتائج متميزة وساهمت هذه المشاريع بشكل ملموس في تحسين العمليات والخدمات وتحقيق وفورات مالية كبيرة.
هناك العديد من الأمثلة حول مشاريع "كايزن" التي نفذتها "شرطة دبي" خلال الفترة الماضية وكان لها أثر كبير على تحسن الأداء. أحد تلك المشاريع هو مشروع "الحقائب الآمنة" الذي نُفذ في مطار دبي الدولي المبنى رقم 3 لمعالجة المشاكل في عملية استدعاء الركاب عند الاشتباه في حيازتهم لأشياء غير قانونية أو مقيدة أمنياً، مثل البطاريات أو السوائل التي تتجاوز الحد المسموح به.
كان الإجراء المعمول به هو أن يتم حجز الحقائب من قبل رجال الأمن قبل استدعاء الراكب لفتح تلك الحقائب؛ ثم متابعة الإجراءات الأمنية اللازمة، وتتراوح مدة هذه العملية منذ استدعاء الراكب إلى وقت مغادرته من ساعتين إلى 24 ساعة، وتكمن المشكلة التي تحدث عند حجز الحقائب واستدعاء الركاب للاستجواب هي أن الركاب قد يفوتون رحلاتهم بسبب طول فترة الإجراءات، كما أنه في حالة عدم توفر رحلة أخرى للراكب في يوم الاستجواب نفسه، فيجب توفير حجوزات الفنادق والوجبات للراكب ولأفراد العائلة المرافقين له، فضلاً عن حجز تذاكر أخرى لهم، وهي بالتأكيد تكلفة كبيرة ستقع على كاهل المطار، وكنتيجة لعملية التأخير هذه، سيشعر الركاب بمستويات عالية من السخط، ما سيؤدي إلى انخفاض رضاهم والتأثير سلباً على سمعة مطار دبي الدولي، كما قد تفقد شركة الطيران مصداقيتها أمام عملائها.
وبناءً على ذلك، تم تحديد "كايزن" كمنهجية مناسبة لمعالجة هذه المشكلات، ونجح المشروع في تحقيق نتائج جيدة في جوانب مختلفة، حيث أدى المشروع إلى إجراء تغييرات جذرية في العملية، ونتج عن هذا الإجراء تقليل مدة عملية فحص الحقائب من 2-24 ساعة إلى 10-20 دقيقة فقط، كما انخفض عدد الركاب الذين تم استدعاؤهم بنسبة 82%.
كيف يمكن لمنهجية "كايزن" خفض الهدر المالي في المؤسسات؟
وكمثال آخر على تبني "شرطة دبي" لمنهجية "كايزن"، إليكم المشروع التحسيني الذي نُفذ لمعالجة الهدر والمشاكل الأخرى المتعلقة في عملية صيانة مباني المؤسسة، حيث لوحظ أن نوعية الأعطال تتكرر في كل مرة نتيجة للعديد من الأسباب، إضافة إلى صعوبة اكتشاف بعض الأعطال في وقت حدوثها وارتفاع قيمة عقود الصيانة الوقائية نتيجة وجود أنظمة تحكم متعددة ومنفصلة عن بعضها البعض في مباني المؤسسة. لقد استطاع فريق العمل معالجة تلك المشكلات من خلال ربط جميع أنظمة التحكم بالمباني بغرفة تحكم مركزية واحدة تعمل بنظام 24/7 بدلاً عن غرف تحكم متعددة ومعزولة، وساعد هذا الأمر في مراقبة ومتابعة كفاءة أنظمة المباني والتأكد من فعاليتها بشكل دوري فضلاً عن نظام إنذار آني لعرض المشكلات التي تظهر حتى يتسنى حلها في الوقت المناسب. ساهم هذا المشروع في تقليل الأعطال حتى نسبة 63%، كما ساهم في تحقيق وفرة مالية سنوية بنحو 2.5 مليون درهم.
مشكلة أخرى ساهمت منهجية "كايزن" في معالجتها وتحقيق وفرة مالية كبيرة هي مشكلة صرف العهدة الشخصية لموظفي "شرطة دبي"، حيث إن الإجراء المتبع قبل تنفيذ مشروع "كايزن" كان يتطلب حضور الموظف إلى مستودع القيادة لتقديم طلب العهدة الشخصية واستلامها. ويتطلب هذا الإجراء انتقال الموظف من مقر سكنه أو عمله إلى مستودع استلام العهدة والانتظار في الطوابير المزدحمة لتقديم الطلب واستلام العهدة بعد ذلك، فضلاً عن عدم توفر مواقف كافية لجميع المتعاملين ما يسبب ازدحام المكان.
وبعد الجهود المتواصلة لحل هذه المشكلة، نجح فريق العمل في تنفيذ مشروع "كايزن"، الأمر الذي نتج عنه إجراء تغييرات جذرية على هذه العملية، فبدلاً من مراجعة الموظفين لمستودعات صرف العهدة، صمم فريق العمل برنامجاً إلكترونياً بسيطاً يستطيع من خلاله الموظف طلب العهدة بشكل إلكتروني ويتم بعد ذلك توصيل طلباته إلى منزله أو مقر عمله.
لقد ساهم هذا التحسين في تخفيض عدد المراجعين للمستودع بنسبة 98% وتخفيض عدد العاملين في مستودع الصرف من 53 عاملاً إلى 10 عمال فقط إضافة إلى إلغاء مستودع بالكامل كان يُستخدم للتخزين، بالنهاية فقد نتج عن هذه العملية التحسينية توفير مبلغ مالي سنوي قدره 9.1 مليون درهم.
الدروس المستفادة
إن هذا النجاح لم يكن مثالياً في البداية، حيث واجهت "شرطة دبي" عند تطبيق منهجية "كايزن" العديد من التحديات من أهمها الثقافة المؤسسية، فكما قال أحد الخبراء فإن الثقافة "تأكل الاستراتيجية دون ملح"، ولهذا يجب على القادة فهم الثقافة السائدة في مؤسساتهم من أجل أن تتماشى أهداف الشركة مع جهود الموظفين ضمن مسار واحد، وفقاً لما تم الحديث عنه ضمن المقال المنشور في منصة "هارفارد بزنس ريفيو العربية" بعنوان: "دليل القائد إلى الثقافة المؤسسية"، ولهذا فقد أثبتت تجربة "شرطة دبي" أن للثقافة دوراً حاسماً في التنفيذ الناجح لمنهجية "كايزن". لذلك يعد إنشاء ثقافة مؤسسية مناسبة قائمة على التحسين المستمر والابتكار من التدابير بالغة الأهمية في سبيل نجاح هذه المنهجية، ومن المهم قبول التغييرات التي تقوم بها منهجية "كايزن" في المؤسسة ولن يتم ذلك إلا من خلال ثقافة تتقبل التغيير والتحسين، كما يجب الاستفادة من قدرات الابتكار للموظفين لتعزيز التحسينات التي تقودها المؤسسة، حيث يرتبط الابتكار ارتباطاً مباشراً بأنشطة "كايزن" وله تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على أداء المؤسسة لأن إرساء ثقافة الابتكار ستمكّن المؤسسة من تحقيق أداء متفوق ووضع تنافسي أفضل إضافة إلى تسهيل وتعزيز تنفيذ أدوات التحسين المستمر التي تؤدي إلى تقديم خدمات عالية الجودة وتحسين الأداء التنظيمي، ولهذا فإن الشركات العالمية تجعل الابتكار مهمة جميع فرق العمل.
تبدأ هذه الخطوات بدعم قوي من القيادة العليا في المؤسسة، إضافة إلى تخصيص الموارد اللازمة للتدريب والتأهيل وتشجيع الابتكار. يجب أن تكون هذه الإجراءات راسخة ومستمرة في المؤسسة حتى تؤتي ثمارها، ويتم ذلك من خلال إنشاء وحدة إدارية تشرف على عمليات التحسين في المؤسسة، والتأكيد على أهمية التحسين المستمر خلال النشاطات والفعاليات الدورية، وتشجيع التجارب الناجحة وتكريم المبدعين والمسؤولين الذين يشجعون على التغيير بهدف تحويل ثقافة التحسين المستمر إلى عملية يومية في عالم العمل المؤسسي الناجح والقادر على التأقلم مع الأزمات المتكررة.