في خريف 2016، نفذت الإدارة التنفيذية في شركة "سوبرماشر" (Saubermacher) لإدارة النفايات التي يقع مقرها في المدينة النمساوية العريقة غراتس، الخطوة الأولى نحو التحول الرقمي واستراتيجية منظومة بيئة العمل المتكاملة في سبيل فهم معضلة التحول الرقمي. لقد أنشؤوا منصة للتخلص من النفايات باسم "ويست بوكس" (Wastebox)، تعمل عبر تطبيق يصل شركات الإنشاءات بشركات التخلص من النفايات. أخبرنا الرئيس التنفيذي للتسويق أندرياس أوبيلت أن منصة "ويست بوكس" تمكنت من تحقيق قيمة كبيرة خلال عامين فقط من انطلاقها، وهو ما جعل واحدة من الشركات الصناعية العالمية الرائدة -وهي شركة "فيوليا" (Veolia) الفرنسية- تسعى لعقد شراكة معها.
إلا أن منصة "سوبرماشر" واجهت معضلة أساسية تتمثل في كيفية المحافظة على أرباحها من أنشطة العمل التقليدية مع الاستفادة بأقصى قدر ممكن من أعمال منظومة بيئة العمل المتكاملة الرقمية الجديدة.
تواجه جميع الشركات القائمة معضلة التحول. (هذا إذا تمكنت من تنفيذ التحول بنجاح في المقام الأول. فقد استنتجت دراسة أجرتها شركة "ماكنزي" (McKinsey) أن 83% من جميع عمليات التحول تبوء بالفشل).
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: مفهوم التحول الرقمي
فكيف يمكن للشركات أن تنجو من هذه المعضلة؟ أجرينا مقابلات مع قرابة 100 رئيس تنفيذي للتحول الرقمي ومدير تنفيذي للرقمنة وغيرهم من أفراد الإدارة التنفيذية العليا في أكثر من 80 شركة عالمية -كلها شركات معروفة وذات تاريخ طويل على عكس الشركات الناشئة-، وسألناهم عن أفضل الممارسات في التعامل مع معضلة التحول الرقمي. وجدنا أن النجاح يتطلب خمسة عناصر
أفضل الممارسات في التعامل مع معضلة التحول الرقمي
1. أن يدرك القادة الحاجة الملحة لاتباع منهج مزدوج في الأعمال
أن يعرف القادة أولاً لماذا يتعين على مؤسساتهم تنفيذ التحول الرقمي لوضع استراتيجية خاصة بكيفية التصرف في ذلك. قد تحتاج الشركات للتحول الرقمي كاستجابة للمنافسين الجدد أو لتغيير تفضيلات العملاء. وقد تحتاج إلى مواكبة السوق بينما ترى حصتها في السوق تنخفض، أو تسعى لإنشاء عروض جديدة للقيمة تقنع بها العملاء الجدد بشكل استباقي.
2. أن تكون لدى الشركات استراتيجيات مكملة ونماذج للأعمال خاصة بأعمالها التقليدية والحديثة
أولاً: يجب على المؤسسات أن توجه تركيزها نحو كيفية الاستعانة بالرقمنة في حماية تنافسية أعمالها الأساسية. ثانياً: تحتاج المؤسسات إلى وضع استراتيجية لبدء الأعمال الرقمية المزعزعة لإحداث نمو إضافي. ثالثاً: على المؤسسات أن تأخذ في الاعتبار التداخل بين الأعمال الأساسية والأعمال الرقمية الجديدة.
لا تتناسب معظم الأدوات الاستراتيجية الموجودة حالياً مع هذه الممارسات. حيث تركز معظمها على المنافسة داخل الصناعة، ولا تقدم مساعدة تُذكر عندما يتعين على المؤسسات أن تنفذ استراتيجيات تتضمن عدة أفراد وقطاعات. تحتاج المؤسسات إلى مناهج جديدة في إدارة الملفات الاستراتيجية والمبادرات الرقمية. ويمكن أن يساعد ذلك في تصور ملف المبادرات الرقمية للشركة بالكامل كمصفوفة من المنتجات والأسواق الموجودة حالياً والحديثة، وكذلك المشاركين من داخل المؤسسة وخارجها. ويساعد هذا التصور القادة في سرعة استيعاب أين تتركز جهود التحول الرقمي، مما يسمح لهم بتحديد ما إذا كانوا ملتزمين بالاستراتيجية المحددة، ومعرفة من هم أصحاب المصلحة الواجب إشراكهم في تنفيذ المبادرات المستمرة.
3. أن تملك الشركات المهارات والعقول المناسبة
لا يكون التحول الرقمي ممكناً إلا بمساعدة الموظفين والقادة المناسبين. في كلا النوعين من الأعمال التقليدي والرقمي، تعد أهم عوامل الارتقاء في هذا الجانب هي إعادة التدريب والتعيين. مثلاً، أنشأ قادة شركة للحديد والصلب تحدثنا معهم أكاديمية رقمية مخصصة لرفع مهارات الموظفين في الكفاءة الرقمية، مستثمرين بذلك في موظفيهم وفي تطوير شركتهم على المدى البعيد.
هناك تحدٍ هائل يكمن في الدمج بين منهجي قيادة في مؤسسة واحدة. ستظل بعض صفات القيادة التقليدية جزءاً هاماً من الأعمال التقليدية (مثل عدم التسامح مع أي فشل في الإنتاج). إلا أن نظام القيادة التحولي -الذي يركز على تمكين الموظفين وتحفيزهم كي يبدؤوا أعمالهم بأنفسهم ويتولوا أدوارهم الخاصة- سيزداد أهمية بالنسبة للأعمال الحديثة التي يجب عليها أن تتأقلم بسرعة أكبر بكثير مع الطلبات والتقنية المتغيرة.
إلى جانب الموظفين والقيادة، تحتاج الثقافة المؤسسية أيضاً إلى الانتقال نحو اعتناق التغيير. ولن يكون هناك غنى عن تعزيز التركيز على العميل وإجراء التجارب الأساسية للانتقال بالمؤسسة بأكملها من الابتكار التدريجي للابتكار المزعزع.
4. أن تملك الشركات البنية التحتية السليمة
يتطلب التحول الرقمي أيضاً هياكل وعمليات وتقنيات جديدة. على سبيل المثال، يحتاج القادة إلى التفكير فيما إذا كانوا قد اختاروا التصميم المؤسسي الصحيح لربط جانبي الأعمال. هل يجب على الشركة أن تنشئ وحدة أعمال رقمية مستقلة ومنفصلة تماماً عن مركز الأعمال؟ أم يجب أن تكون إدارة العمل الرقمي في المركز لتقديم الاستشارات والخبرة العملية لكل وحدة أعمال؟
سيعتمد الهيكل الصحيح على النضج الرقمي للأعمال الأساسية. في البداية، ستكون وحدة الأعمال المستقلة هي الأنسب لمتابعة جهود التحول الرقمي لأن استقلال الوحدة سيسمح لها بالعمل بحرية دون أن تعرقلها تعقيدات الأعمال التقليدية. وبينما يزداد النضج الرقمي للشركات، ينبغي أن تتحرك نحو تصميم تدمج فيه الجهود الرقمية بصورة متزايدة في المؤسسة بأكملها. يتمثل الهدف النهائي في تصميم مؤسسي تتغلغل فيه جهود الرقمنة في المؤسسة بأكملها، بحيث تكون طريقة العمل العادية الجديدة هي "الطريقة الرقمية".
على الشركات أيضاً أن تفكر في الشراكات الخارجية التي تمكّنها من الوصول إلى منظومة بيئة أعمال متكاملة أكبر وتتضمن أطرافاً يمكنهم مساعدتها في إنشاء عروض قيمة جديدة للعملاء. على سبيل المثال، تحدثنا مع شركة نقل تبرم شراكة مع مقدمي خدمات أجهزة الكمبيوتر وبرامجها لتقديم حلول نقل أكثر تكاملاً وشمولاً لعملائها. وبالتصرف كشركات مركزية وسط شبكة من الأطراف المتكاملين، تكتسب الشركات قدراً من القيمة المضافة المقدمة للعملاء.
وكلما تعلق الأمر بالإجراءات والتقنية، على المدراء الحرص على ترك المناهج التقليدية في التطوير والمقسمة إلى مراحل بحيث لا تبدأ أي مرحلة منها حتى تنتهي المرحلة السابقة عليها، فيما يعرف بنموذج الشلال. والانتقال إلى نظام أكثر رشاقة يعتمد على النمذجة السريعة والتخطيط التكيفي، ما يسمح للمؤسسات بدمج أراء المستخدمين ضمن عملية التطوير والتحقق بذلك من وجود طلب في السوق ورغبة لبيع المنتج النهائي بمجرد إطلاق المنتج. على سبيل المثال: عندما انطلقت مؤسسة مالية في جنوب شرق آسيا أجرينا معها حواراً، وبدأت تأسيس بنك رقمي، انتقلوا من نظامهم المعلوماتي التقليدي ودوائر التطوير المطوّلة. حيث انتقلوا إلى نظام معلوماتي حديث يعتمد على الخدمات الدقيقة، وطبقوا منهجية سكرم التعاونية بتقسيم العمل إلى مراحل سريعة الإيقاع، قللت الوقت المستغرق لوصول حلول جديدة للعملاء إلى السوق بصورة جذرية.
5. على الشركات قياس الأداء والنتائج لكلا الجانبين من الأعمال
ستكون مؤشرات الأداء الرئيسية مختلفة -على الأقل مبدئياً- بالنسبة للأعمال التقليدية والحديثة. فبالنسبة للأعمال التقليدية، تكفي مؤشرات الأداء التقليدية مثل المقاييس المتعلقة بمدخرات التكلفة أو الكفاءة (مثل العائد على الاستثمار) لقياس الأثر. بالنسبة للعمل الرقمي الجديد، ينبغي أن تتطور مؤشرات الأداء الرئيسية وفقاً لثلاث مراحل من التطوير: وضع التصور حيث يتم تطوير الأفكار الخاصة بالأعمال، والاحتضان حيث يتم صقل الأفكار وتنقيحها واختبار استعدادها للطرح في السوق، والتسويق حيث يكون التركيز على ترقية الأفكار لطرحها في السوق.
على سبيل المثال: أثناء مراحل وضع التصور والاحتضان، تغلب مؤشرات الأداء الرئيسية النوعية KPIs (مثل مدى جاذبية عرض القيمة لمجموعة معينة من العملاء). ولاحقاً، في مرحلة التسويق، يجب استبدالها بمؤشرات أداء رئيسية كمية (مثل مقاييس رضا العميل).
وبالعودة إلى منصة "سوبرماشر"، فقد أسفر اتباع هذه الخطوات عن النتيجة المنشودة. خلال أشهر، تحول "ويست بوكس" إلى أكبر منصة مزودة للخدمات تقدم خدمات التخلص من نفايات البناء. واستحوذت فيوليا في النهاية على حصة بسيطة في منظومة أعمال بيئة العمل الرقمية المتكاملة في 2018، مما سمح لـ "ويست بوكس"بالتوسع إلى سوقين إضافيين دولياً. كما عزز ذلك أداء الأعمال التقليدية، حيث لم تعد "سوبرماشر" تملك المنصة فقط بل وتستخدمها كنموذج يحتذى لتسريع خدماتها الأساسية ورقمنتها. ولم تنتهِ الرحلة بعد، فقد أخبرتنا الإدارة التنفيذية للشركة أن الهدف هو التوسع بالمنصة على مستوى العالم من خلال نظام الامتياز التجاري "الفرانشايز" لحل معضلة التحول الرقمي.
لا شك أن إدارة أعمال تقليدية وأعمال حديثة بمهارة تامة هو تحدٍ هائل، إلا أن له الكثير من النتائج الإيجابية المثمرة كما كانت تجربة منصة "سوبرماشر".
هذا المقال جزء من سلسلة مقالات خاصة بـ مؤتمر بيتر دراكر العالمي الحادي عشر.
اقرأ أيضاً: