ماذا تحتاج المؤسسات العربية لتجاوز التردد في التحول الرقمي؟

7 دقائق
تجاوز التردد في التحول الرقمي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لقد أصبحت الرقمنة المقياس لمعظم اختياراتنا في الحياة. فلم يعد نوع الطعام هو ما يحدد اختيار المطعم، بل أصبحت التجربة الرقمية لاختيار وتوصيل الوجبات هي التي تحدد ذلك. ولم يعد نوع السيارة ومهارة السائق هما ما يحددان اختيار وسيلة النقل، بل إنّ التجربة الرقمية للاختيار بين تطبيقات التوصيل مثل “كريم” أو “أوبر” هي التي تحدد ذلك. وكذلك الأمر بالنسبة للاختيار بين شراء السلع والخدمات عبر المنصات الرقمية أو التسوق بالطرق التقليدية في المجمعات والأسواق التجارية فقد أصبح الأمر يعتمد على التغيير الرقمي في المنطقة العربية. وقس على ذلك اختيار المصرف وشركة الطيران والخدمة الطبية والتعليمية وغيرها من الاختيارات الحياتية. كل ذلك أصبح يعتمد على سهولة وسلاسة التجربة الرقمية في المقام الأول. وبالنسبة للحكومات والدول فالمعيار الأول لجذب الاستثمارات وسعادة المتعاملين بات أيضاً يعتمد على التجربة الرقمية.

تعتمد الرقمنة إلى حد بعيد على القدرة على استخدام البيانات وقنوات التواصل لتوفير المعلومة أو الخدمة في الوقت المناسب بشكل يتوافق مع الاحتياجات والظروف الفردية لكل متعامل. من هنا تتولد الحاجة لمراجعة نظم العمل وإعادة تعريفها على أساس رقمي باستخدام الأدوات التكنولوجية الحديثة (مثل البيانات الكبيرة) لخلق تجربة رقمية فريدة توفر الجهد والوقت وتفتح المجال أمام فرص وخدمات جديد.

لقد أدركت دول العالم المتقدمة أهمية التحول الرقمي في ريادة الاقتصاد المعرفي، وبادرت لتطوير استراتيجيات تركز على تحديث البنية التحتية (مثل تقنيات G5) والمنظومة التعليمية لتركز على مهارات أساسية في اقتصاد المعرفة مثل: الذكاء الاصطناعي وسلسلة الكتل (بلوك تشين) والحوسبة السحابية التي تؤثر في التحول الرقمي الذي يتوقع أن يعيد تشكيل المنظومة الاقتصادية التي اعتدنا عليها لمئات السنين واستبدالها بمنظومة رقمية تتكامل فيها الخدمات مع قطاعات الاقتصاد المختلفة وتكون البيانات فيها المحرك الأساس والثروة الحقيقية.

التجربة الرقمية ومساهماتها

في منطقة الشرق الأوسط (حيث الاقتصادات النامية) يزداد الاعتماد على البيانات لإنتاج تجربة رقمية مميزة في التعاملات المختلفة في كافة القطاعات سواء كانت هذه المعاملات تخص الخدمات الحكومية أو المعاملات المصرفية أو شراء السلع والخدمات عبر منصات البيع بالتجزئة أو الأسواق الافتراضية. وفي حقيقة الأمر استطاعت دول الخليج، ولاسيما دولة الإمارات العربية المتحدة، الاستفادة من بنية الاتصالات التحتية القوية وارتفاع نسبة استعمال الأجهزة الذكية لتوفير بيئة محفزة لتوفير تجربة رقمية ساهمت بشكل ملحوظ في دفع عجلة النمو والانخراط في اقتصاد المعرفة. وكانت الإمارات الدولة الأولى في العالم التي تعين وزيراً للذكاء الاصطناعي وتتبنى مبادرات التحول الرقمي. على سبيل المثال: “مبادرة دبي 10X” برعاية مؤسسة دبي للمستقبل، حيث لم تعد دبي تطمح لاحتلال المركز الأول في مجال التحول الرقمي، بل أصبح الطموح أن تسبق مدن العالم بعشر سنوات. من هنا أتى الرقم 10، أما الرمز (X) فهو دليل على التفكير خارج الأطر التقليدية.

وفي أبوظبي، تعد منصة “تم” التي تشرف عليها هيئة الأنظمة والخدمات الذكية في أبوظبي نموذجاً للتجربة المتكاملة للمتعاملين لتحسين وتسهيل القطاع الخدمي. إذ تهدف المنظومة إلى إحداث نقلة نوعية وشاملة في تقديم الجيل الجديد من الخدمات الحكومية بمفهوم “الرحلات المتكاملة”، وذلك لإنجاز سلسلة كاملة من الخدمات الحكومية. وكانت إحدى أولى “الرحلات المتكاملة” هي “الانتقال إلى منزل جديد”، حيث تقدم هذه الرحلة بنسختها الأولي تجربة متكاملة تبدأ بآلية البحث التفاعلي المتطور لإيجاد الموقع المثالي للمسكن بناء على تفضيلات واحتياجات المتعامل الخاصة مثل القرب من مكان العمل أو المدارس والمراكز التجارية وغيرها من المرافق بالإضافة للبيانات والتنبيهات للحركة المرورية في المنطقة، إضافة إلى الاعتماد على بيانات إحصائية تاريخية مثل كميات الاستهلاك السابقة للمياه والكهرباء. ويمكن أيضاً الاطلاع على النشاطات والفعاليات بشكل تفاعلي واستقبال التنبيهات الهامة حول المنطقة التي يقطنها المتعامل من أجل إثراء التجربة الرقمية. تتكامل هذه الرحلة مع العشرات من الرحلات الرقمية من خدمات صحية وإدارة المرور إلى التعليم وتأتي “تم” برؤيتها المستقبلية ضمن إطار رؤية أبوظبي الرامية إلى تسهيل حياة سكان الإمارة وتوفير كافة سبل النجاح لهم، بالإضافة إلى تعزيز البيئة الاقتصادية للإمارة.

وكانت مدينة دبي الرائدة عالمياً في استخدام الذكاء الاصطناعي تعمد إلى التواصل مع المتعاملين عن طريق نظام المستشار الذكي “راشد” الذي أطلقته حكومة دبي الذكية. وتسعى إلى مشاركة دائرة التنمية الاقتصادية التي تختص بالإجابة عن أكثر من 5,000 سؤال حول المعيشة في دبي بداية من إصدار الرخص التجارية وانتهاء بحقوق المستهلكين والسكن والتعليم وجميع مرافق الحياة والترفيه في دبي. ويعتمد النظام بشكل أساسي على قاعدة بيانات متكاملة، كما أنه يتعلم بشكل سريع طبيعة احتياجات المتعاملين ويطوّر مستوى الإجابات في كل مرة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. وبشكل مماثل يوفر نظام “محبوب” الذي أطلقته هيئة الطرق والمواصلات خدمات الأسئلة عن الوثائق المطلوبة لتجديد رخصة القيادة والاستفسار عن رصيد “بطاقة نول” ودفع المخالفات. وهنا يُشار إلى مبادرة “مختبر الذكاء الاصطناعي” بالتعاون بين “دبي الذكية” وشركة آي بي إم الذي يهدف لتطوير خارطة طريق للذكاء الاصطناعي لكافة مجالات الحياة في دبي بالتعاون مع العديد من الهيئات والدوائر الحكومية مثل (الشرطة والجمارك والصحة والسياحة والتعليم) بالإضافة للقطاع الخاص. وتهدف خارطة الطريق لإدخال الذكاء الاصطناعي بشكل ممنهج يعظم الفائدة ويسرّع التحول الرقمي.

أما في قطاع الأعمال، فيعتمد نجاح التجربة الرقمية على التكامل وتشارك البيانات بين العديد من القطاعات. فمثلاً، يشهد قطاع تجارة التجزئة ثورة رقمية، حيث يطلق كل أسبوع متجراً رقمياً، في حين تتناقص المبيعات في الأسواق والمتاجر التقليدية. كما تستخدم البيانات في توفير تجربة رقمية مشخصنة وأكثر دقة في تلبية احتياجات المتسوق وذلك بالارتكاز على الذكاء الاصطناعي في التنبؤ برغبات وحاجات المتعاملين. ويتوقع أن يزداد التعامل الرقمي في مجال تجارة التجزئة بشكل كبير في الفترة القادمة بسبب دخول لاعبين كبار مثل منصة “سوق” المملوكة من شركة أمازون، و”نون للتجارة” المدعومة من “مجموعة إعمار”. بالإضافة للعديد من المنصات التي تقدمها العلامات التجارية بشكل مباشر أو عن طريق الوكلاء المحليين. وتوفر التجربة الرقمية العديد من المزايا مثل: التسوق على مدار الساعة والتوصيل المجاني والدفع عند التوصيل، بالإضافة لإمكانية التسوق الآمن من الأسواق العالمية لخدمات والحصول على منتجات غير متوفرة في السوق المحلية.

اقرأ أيضاً: مدن عالمية تقود الريادة في التحول الرقمي ومقرات العمل

بشكل مشابه، تتنافس شركات الطيران على توفير تجربة رقمية للمسافر تتجاوز التنقل بين مطار وآخر لتغطي كامل الرحلة (بين المنزل والفندق وبالعكس)، إذ تشمل الرحلة التنقل البري والتسوق بلا ضرائب والاستراحات وحاجات العمل. وتوفر خدمة الإنترنت على الرحلات الطويلة ميزة حيوية للمسافر الرقمي تمكّنه من البقاء على تواصل مع الآخرين أثناء الطيران. كما تلعب المطارات دوراً محورياً في توفير بنية تحتية رقمية تسهل على المسافر القيام بالعمالة والبقاء على تواصل طيلة الرحلة. كما تمثل التجربة الرقمية التي تقدمها المطارات الكبرى ومنها مطار دبي عامل جذب لاستقطاب المسافرين وشركات الطيران. ويعتبر مطار دبي مدينة ذكية تخدم ما يزيد عن 90 مليون مسافر في كل عام.

تحتاج التجربة الرقمية إلى المصارف التي تقدم الخدمات المصرفية الرقمية المتكاملة، وذلك بالاعتماد على الفهم العميق لبيانات العميل وتوفير الخدمات المصرفية بشكل آمن وسريع على منصات محلية ودولية. ومن هنا يأتي التعريف الجديد للخدمات المصرفية الرقمية الذي يركز على توفير الخدمات المصرفية بشكل كامل على الأجهزة الذكية بشكل آني وآمن، حيث يتم الاعتماد على بصمة الإصبع أو التوقيع بالعين أو تمييز الصوت. وعادة ما تكون التكلفة التشغيلية للمصارف الرقمية أقل بكثير من التكلفة في المصارف التقليدية ويقدرها البعض بـ 30%، ما يمكّن عدداً أكبر من الاستفادة من الخدمات المصرفية. وقد بدأت المصارف في الإمارات بدخول السوق الرقمية إما عن طريق تطبيقات ذكية أو بإطلاق مصارف ذكية تستهدف فئة الشباب مثل منصة “liv” من “بنك الإمارات دبي الوطني” ومنصة “رآك بنك بيوند” من بنك رأس الخيمة.

اقرأ أيضاً: كيف نجحت إحدى الرئيسات التنفيذيات في قيادة عملية التحول الرقمي؟

وفيما يخص المجال الصحي، يعمل التحول الرقمي على رفع مستوى الخدمات الطبية باستخدام الذكاء المدعم لمساعدة الأطباء بتشخيص أكثر دقة وحيادية مرتكزاً على القدرة الهائلة لمعالجة وتحليل البيانات واستخدام تقنية البلوك تشين في متابعة وتحديث البيانات، وبالتالي إعطاء المرضى تجربة رقمية أكثر دقة وأقل عرضة للأخطاء أو التكرار في الإجراءات وتمكين الجهاز الصحي من تقديم خدمة أفضل لعدد أكبر من المرضى بكفاءة وفعالية عالية.

التغيير الرقمي المطلوب

قبل الإفراط في التفاؤل بالتجربة الرقمية، علينا أن نأخد بعين الاعتبار قوى الشد العكسي التي تؤخر أو تبطء التحول الرقمي في المنطقة العربية وأهم هذه القوى هي أنظمة العمل اليدوية – غير المؤتمتة – التي تعتمد على اليد العاملة غير المدربة. بالإضافة إلى عدم الربط الإلكتروني ومشاركة البيانات بين الدوائر والأقسام داخل المؤسسة الواحدة، حيث تحول ثقافة المؤسسة أو التنافس الداخلي دون الدفع نحو التحول الرقمي الذي يتطلب رؤية واضحة وقيادة قادرة على إحداث التغيير المطلوب في ثقافة المؤسسة وهيكلية العمل. وللأسف هناك الكثير من الأمثلة على تأخر التحول الرقمي للعديد من مؤسسات وحكومات المنطقة لغياب مفهوم القيادة القادرة على دفع عجلة التحول الرقمي.

وهناك خطوات محددة للوصول لمفهوم “المؤسسة الرقمية” أهمها:

  • تأهيل القوى العاملة والاستفادة من المواهب المدربة في إدارة المؤسسات الرقمية

حيث يبقى العامل البشري والثقافة المؤسسية المؤثر الأكبر في نجاح رحلة التحول الرقمي. بعض المؤسسات تستحدث مراكز قيادية جديدة مثل “رئيس تنفيذي للرقمنة” تكون مهمتة إحداث التغيير وخلق ثقافة الرقمنة أما بعض المؤسسات فتوكل المهمة إلى الرئيس التنفيذي ومجلس الإدارة مباشرة.

  • خلق بنية تحتية رقمية تعتمد على الحوسبة السحابية الهجينة المتعددة (Hybrid-multicloud)

ما يمكن المؤسسات من الاستفادة من خصائص السحابة الخاصة (Private Cloud) وخصائص السحابة العامة (Public Cloud) بشكل متداخل ومتجانس، ما يسرّع في تطوير التطبيقات ويخفض التكاليف.

  • الاستفادة والاستغلال الأمثل للبيانات المتوفرة للمؤسسة

ما يتطلب ربطاً متكاملاً لكافة البيانات واستخدام علم البيانات للتعرف على الأنماط الرقمية وفهم متعمق لكيفية استخدام الخوارزميات والأنظمة الحسابية لخلق قيمة اقتصادية.

  • إعادة هندسة أنظمة العمل بشكل يسرّع ويمكّن من التحول الرقمي وإدخال مفاهيم التكنولوجيا الحديثة إلى المؤسسة

مثل الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات وتحسين التنبؤات الرقمية واستخدام البلوك تشين في العقود الذكية لحساب المدفوعات وحصر المواد وإدارة المستودعات.

  • تأهيل القوى العاملة والاستفادة من المواهب المدربة في إدارة المؤسسات الرقمية

حيث يبقى العامل البشري والثقافة المؤسسية المؤثر الأكبر في نجاح رحلة التحول الرقمي.

تمثل الرقمنة فرصة كبيرة للمنطقة العربية التي تتميز بطبيعة ديموغرافية شابة تألف التعامل الرقمي وبنية تحتية غنية بالبيانات وقنوات التواصل. إنّ التحول الرقمي يمكن أن يوفر حلولاً للكثير من التحديات التي يشهدها العام العربي وفي العديد من المجالات من نقل وصحة وتعليم، إلى جانب خلق فرص عمل يحتاجها الاقتصاد المعرفي وتختلف في طبيعتها عن المهن المعروفة في يومنا هذا. إننا نحتاج للاستثمار في البنية الرقمية التحتية وقبل ذلك في المنظومة التعليمية لكي لا تفوتنا الثورة الصناعية الرابعة كما فاتتنا سابقاتها.

يدل الازدياد الكبير في أرقام التجارة الإلكترونية عاماً بعد عام والاستخدام المتزايد للخدمات الرقمية على وعي المواطن العربي بأهمية التحول الرقمي. ما يدعو للتفاؤل بقدرة الجيل الجديد على تقبل الاقتصاد المعرفي والتعامل معه بشكل فاعل ومؤثر. لم نعد في زمن محاولة رقمنة التعاملات أو التواصل مع العملاء فقط. بل نحن في زمن رقمنة جميع مناحي الحياة. فتكامل إنترنت الأشياء والحوسبة الإدراكية والسحابية، بالإضافة للذكاء الاصطناعي والبلوك تشين كلها خلقت فرصاً لم يكن بالإمكان تخيلها في الماضي. في سبيل تحقيق التغيير الرقمي في المنطقة العربية.

اقرأ أيضاً: 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .