قبل ربع قرن من الزمان تقريباً، وتحديداً في ديسمبر/كانون الأول عام 1993، هزت مفاوضات مدويّة عالم كرة القدم الأميركية، مسفرة عن صدمات لاحقة، شكلت المشهد الإعلامي الذي نعاصره اليوم، وهي متعلقة بفن التفاوض عند روبرت مردوخ.
لقد دارت هذه المفاوضات حول الصفقة التجارية التي أربحت قناة "فوكس" حقوق بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية (NFL). إذ نقلت هذه الصفقة شبكة "فوكس" الناشئة إلى ممارسة الدور المؤثر بشدة الذي تلعبه الآن في وسائل الإعلام والترفيه، بعد أن كانت متخلفة آنذاك عن ركب قنوات الإعلام الثلاثة الكبار: "سي بي إس" (CBS)، و"إن بي سي" (NBC)، و"أيه بي سي" (ABC). وعلى حد تعبير روبرت مردوخ المبتهج مباشرة بعد الفوز بصفقة حقوق البث "سيجعلنا الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية شبكة حقيقية، كما لم يسبق لأي رياضة أخرى تحقيق ذلك. ستظهر في المستقبل 400 أو 500 قناة أخرى على التلفاز، وستتوزع نسب المشاهدة على هذه القنوات. لكن ستكون لكرة القدم في يوم الأحد نسب المشاهدة نفسها، بغض النظر عن عدد القنوات. لن تتوزع نسب مشاهدة قناة تبث كرة القدم". في الواقع، تشير سلسلة تحقيقات كبرى في صحيفة "نيويورك تايمز" إلى مدى دقة مردوخ في هذا التوقع.
لقد درستُ وقدمت المشورة وعملت مع العديد من أفضل المفاوضين في العالم. ومع ذلك، لم أبحث في أي من مفاوضات مردوخ بالتفصيل إلى حين قرأت مقالاً حديثاً باهراً حول صفقة حقوق بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية على موقع "ذا رينغر" (The Ringer): "السرقة العظيمة لحقوق بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية: كيف دفعت "فوكس" لقاء الفوز بالصفقة وغيرت وجه كرة القدم إلى الأبد"، بقلم براين كورتيس. وأعتمد في هذا المقال بشدة على قصة التفاوض المطولة أدناه، وعلى العديد من الاقتباسات من الشخصيات المحورية في عملية فن التفاوض. وعلاوة على ذلك، تكرّم الكاتب بإضافة بعض النقاط الرئيسية خلال تبادلي رسائل البريد الإلكتروني معه.
تمتّعت قناة "سي بي إس" بحصرية بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية منذ عام 1956، وتكفّلت بتقديم زي الفريق الأسطوري في منصة البث، وتمتعت بعلاقة ممتازة معه. لقد شكّل نجاح مردوخ وفريقه الأسترالي في الحصول على هذه الحقوق، بدلاً من القناة الشعبية الأميركية التي تمتّعت بهذه الحقوق، تحدياً كبيراً. وثمة عائق آخر: في عام 1993، لم تكن أغلبية أسواق التلفاز تنقل قناة "فوكس"، لأنها كانت تُبث على نطاق التردد فوق العالي، الأضعف بشكل رئيس، مقابل القنوات الثلاثة الكبار التي تعمل على أجهزة بث ذات تردد عال جداً.
والتفسير المبسط للنجاح غير المرجح لمردوخ هو أن "فوكس" حررت شيكاً أكبر من الشيك الذي حررته قناة "سي بي إس" عند الإعلان عن طرح حقوق البث للتجديد. لكن عرض مردوخ المرتفع لم يكن سوى جزء من استراتيجية أكثر شمولاً تنطوي على دروس قوية للمفاوضين، وخصوصاً المستضعفين، في الشركات التي تتجاوز نطاق الرياضة والإعلام.
مشهد وسائل الإعلام (وكرة القدم) في عام 1993
مع بداية القصة، كانت كل شبكة من شبكات التلفزيون الرئيسية الثلاث تبثّ باقة مختلفة من مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية: كانت قناة "سي بي إس" تبث المؤتمر الوطني لكرة القدم، بينما حصلت شبكة "إن بي سي" على حصرية بث مؤتمر كرة القدم الأميركية، وحصلت شبكة "أيه بي سي" على برنامج "منداي نايت فوتبول" (Monday Night Football). وتشاركت شبكتان ثانويتان نسبياً، هما "تيرنر" (Turner) و"إي إس بي إن" (ESPN)، في بث برنامج مباريات "صنداي نايت" (Sunday night) التي كانت أقل قيمة آنذاك. واستضافت شبكة "سي بي إس"، على مدى 38 عاماً، باقة المؤتمر الوطني لكرة القدم الأكثر أهمية، التي تُعتبر أكثر الأصول قيمة في الرياضات التلفزيونية. وعندما طُرحت حقوق البث للتجديد، سمحت قواعد الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية لشركة "فوكس" بتقديم عرض واحد على باقات برامج ظهر يوم الأحد، التي كانت تبثها قناتي "سي بي إس" و"إن بي سي".
بداية، استفادت شبكة "فوكس" من الالتزام باثنتين من النصائح التفاوضية القياسية التي غالباً ما يتم تجاهلها:
1) التزم بالوضوح التام في تحديد اهتماماتك وأهدافك الاستراتيجية.
2) قيّم منافسيك ونظرائك بعناية، وقيّم اهتماماتهم وأهدافهم وأساليبهم وغيرها من الخصائص.
دعونا نُلقي نظرة على اللاعبين المعنيين واهتماماتهم الرئيسية.
أولاً، كان هناك لاري تيش، الرئيس التنفيذي لشبكة "سي بي إس"، والذي ركّز على عوامل التكلفة وإيرادات الإعلانات بدلاً من قيمة العلامة التجارية وقوة المحتوى الفريد، مثل مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية. وقد أدى الركود الذي حدث بين عامي 1990-1991 إلى زيادة مخاوف تيش حول خسارة أمواله على البرامج الرياضية أكثر من شبكتي "أيه بي سي" و"إن بي سي"، من وجهة نظر مردوخ. ولطالما سمع تيش من رابطة الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية أن "الشبكات الأخرى" قد تحاول إقصاء شبكة "سي بي إس"، لكنه لم يأخذ هذه التهديدات على محمل الجد، بصفته صاحب هذه الحقوق لفترة طويلة.
ثانياً، بدأ بول تاجليابو، الذي شغل منصب المفوض للدوري الوطني لكرة القدم الأميركية لمدة خمس سنوات، في الابتعاد عن نهج سلفه الأقدم مع قرب موعد تجديد العقود. ونظراً إلى الارتفاع الكبير في قيمة برنامج مباريات "صنداي نايت فوتبول" عندما أُضيفت شبكة "تيرنر" إلى قائمة المشاركين في المناقصة، قرر تاجليابو تعزيز المنافسة من خلال جذب منافسين أكثر إلى المناقصة، إلا أن عددهم كان لا يزال قليلاً مقارنة بأهمية باقة برنامج "صانداي نايت فوتبول" المميزة. وقدّم تاجليابو ملاحظة هامة حول المناقصة "إذا كان لديك ثلاث باقات وثلاثة مقدمين للعروض، فلن تسير المناقصة على نحو عادل. فكر في الأمر كلعبة الكراسي الموسيقية. يجب أن يكون لديك شخص إضافي آخر أكثر من عدد المقاعد. وعندما تضيف لاعبين جدد إلى قائمة المناقصة، ستحصل على مجموعة مختلفة من المفاوضات".
ثالثاً، كان جيري جونز، المالك الجديد لشركة "دالاس كاوبويز" (Dallas Cowboys)، وبات بولين المالك الجديد أيضاً لشركة "دنفر برونكوس" (Denver Broncos). وكانا قد استدانا بعض الأموال بهدف شراء حصة في الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية، وعزما على تحقيق أقصى نسبة من العائد المالي من بيع حقوق البث. وبالمقارنة مع أصحاب شركتي "دالاس كاوبويز" و"دنفر برونكوس" الأقدم الذين تمتعا بآراء محافظة، والذين كانت لديهم، في أغلب الأحيان، دوافع شخصية واقتصادية لاكتساب الفرق، كان لدى جونز وبولن تركيز مالي أقوى، وارتباط عاطفي أقل بشبكات التلفزيون. وقد سبق لهما تحدي آرت موديل، المالك القديم لشركة "كليفلاند براونز" (Cleveland Browns)، ونجحا في نقض اقتراح موديل، بإعادة بعض الأموال المعقودة لحقوق البث إلى الشبكات، بالنظر إلى حالة الركود السائدة. وعندما تمكّن جونز وبولن من الانضمام إلى لجنة حقوق البث التلفزيوني للدوري، مثّل ذلك تحولاً في السلطة من المالكين القدماء إلى المالكين الجدد.
رابعاً، قطب الإعلام الأسترالي روبرت مردوخ الذي هيمن على سوق الإعلام في بلده بشكل كبير، وخطا خطوات جريئة في الخارج بعد ذلك. وبحلول عام 1990، استحوذت شركته القابضة "نيوز كورب" (News Corp) على صحف "نيوز أوف ذا وورد" (News of the World) و"صن" (Sun) و"التايمز" (Times) البريطانية، وحصل ذلك قبل مسلسل الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية، وشرائه لصحيفة "وول ستريت جورنال" (Wall Street Journal). كما أسّس مردوخ مجمع الشركات الإعلامي الأوروبي باسم بي "سكاي بي" (BSkyB)، واستحوذ في الولايات المتحدة الأميركية على شركتي "هاربر كولينز" (HarperCollins) و"فوكس".
حاول مردوخ شراء حقوق البث التلفازي للدوري الوطني لكرة القدم الأميركية مرتين، في عامي 1987 و1990، لكنه اعتقد أن اتحاد الدوري لم يأخذ عرضه على محمل الجد، وأنه استغله لحث الشبكات الرئيسية على زيادة عروضها. ولكن بالنسبة لدورة مناقصة عام 1993، اتصل مردوخ بجيري جونز، واسترجع جونز الحديث الذي دار بينهما مؤخراً وقول روبرت له "أعتقد أنني وقعت ضحية الاستغلال في المرة الأخيرة يا جيري. لن أفعل ذلك مرة أخرى، ولن أكون مجرد ضحية". وتابع جونز الحديث "قلت: سيد مردوخ، لم أكن جزءاً من تلك المفاوضات الماضية. إلا أنني ضمن اللجنة هذه المرة".
لو قيمت الشبكات الثلاث الكبرى، ولاسيما شبكة "سي بي إس" منافسها المحتمل الجديد عن كثب، لكانت قد فهمت بشكل أفضل دافع مردوخ الاستراتيجي في الحصول على حقوق بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية. وعلى حد تعبير براين كورتيس "على عكس شبكة سي بي إس، لم تكن شبكة فوكس قلقة بشأن خسارة الأموال على كرة القدم. وقد عبّر مردوخ عن نظرته هذه لاحقاً بتفاخر، إذ اعتبر السعر المعقود لحقوق بث الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية بمثابة سعر شراء شبكة ما، وأن كل ما دفعه لقاء الحصول على حقوق البث سيكون أقل تكلفة من شراء شبكة "سي بي إس" أو "إن بي سي" بشكل مباشر". وقال نائب رئيس شبكة "فوكس" جورج كريغر "عندما يعقد روبرت صفقة ما، فإن جلّ ما يفكر فيه هو ما ستبدو عليه هذه الصفقة بعد 10 أعوام، أو حتى بعد 20 عاماً، وما إذا كانت ستساعده على بناء شبكة. بينما يحاول بقية اللاعبين إدارة البيانات المالية للتقرير المالي الفصلي المقبل".
إضافة إلى ذلك، لم يفكر مردوخ في الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية بصفته كياناً واحداً. إذ أدرك التحول الداخلي الذي قامت به الجهات الفاعلة الجديدة المؤثرة، والمتمثلة في كل من بولن وجونز، وغيّر من نهجه بهدف اجتذابهم. ويعتبر هذا الجزء من نهج مردوخ قيّم بما يكفي لتسليط الضوء عليه كدرس أكثر عمومية.
3) لا تعتقد أن الخصم الآخر كالجسد الواحد، كما لو كنت تتفاوض مع "سي بي إس" أو "أندية الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية". بدلاً من ذلك، دقق في مصالح الأفراد والفصائل المتميزة داخل هذه الكيانات، وابحث عن التحولات في الديناميات الداخلية، وأعد تقييم هذه العوامل عندما تشارك جهات فاعلة جديدة أو عند تغيّر الظروف.
إن تحليل مردوخ لمختلف الفصائل والديناميات الداخلية المتغيرة لأندية الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية وفّر الأساس لنهجه في المفاوضات. وكما لاحظ ديك إيبرسول، الرئيس السابق لقناة "إن بي سي" الرياضية، "إن المفتاح لتلك المفاوضات كان بات بولن وجيري جونز أكثر من أي شيء آخر. لم تكن شبكة "فوكس" لتصل إلى ما هي عليه الآن لو لم يتخذ كلاهما موقفاً وعارضا آرت موديل".
4) استخدم تقييمك للجهات اللاعبة الجديدة في فهم اهتماماتهم المميزة وتقييماتهم واستراتيجياتهم المحتملة.
قدّم تركيز تيش المالي على المدى القصير تلميحات قوية حول نهجه المتبع مع المناقصة. ومع انتهاء صلاحية عقد حقوق بث الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية، دفعت شبكة "سي بي إس" 265 مليون دولار لباقة الدوري المميزة (الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية). إذ توصلت شبكة "سي بي إس"، في ظل الركود الاقتصادي السائد، إلى استنتاج مفاده أن نقطة التعادل قد تبرر عرضاً بقيمة 250 مليون دولار فقط، بالنظر إلى إيرادات الإعلانات في المستقبل. كما كلّف تيش فريقه بتقديم تخفيض بقيمة 15 مليون دولار إلى الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية متذرعاً الفقر.
بينما قيّم مردوخ وفريقه الشبكات الثلاث الكبرى، ووجدوا أن تيش كان الأكثر تركيزاً على خفض التكاليف، وكان بالتالي الأكثر عرضة للتأثر بعرض "فوكس" القوي. وفي الوقت نفسه، ركزت لجنة الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية والملاك الجدد على استخلاص زيادة في الإيرادات من الشبكات. وخلقت هذه العوامل مجتمعة فرصة حقيقية لشبكة "فوكس" للفوز بحقوق بث الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية ضد الشبكات الأخرى.
وخسرت شبكة "سي بي إس" مصلحة دفاعية هامة في هذه المفاوضات، إذ إضافة إلى توليد إيرادات الإعلانات، كان ينبغي أن تركز على منع "فوكس" من الحصول على حقوق البث القيمة باعتبارها حجر الزاوية الذي قد يجعل منها منافساً جباراً، ليس فقط على صعيد الرياضة. إلا أن انشغال شبكة "سي بي إس" في إعداد البيانات المالية على المدى القريب، والتي اقترحت تقديم عروض متواضعة فقط، منعها من إدراك جديّة هذه المخاطرة، أو التقليل من حدتها إلى الحد الأدنى.
5) لا تقلل من شأن منافسيك المحتملين إذا كنت صاحب الحقوق الحالي، خصوصاً إذا كانوا نهمين وأذكياء وأغنياء، إذ قد ينظرون إلى صناعتك من منظور مختلف تماماً.
تأكد من أنك تفهم دوافع المنافسين الحقيقية، وتجنب عرض أهدافك الخاصة، كان توجه شبكة "سي بي إس" في هذه الحالة هو توجه قائم على إيرادات الإعلانات. أما فيما يتعلق بباقة "سي بي إس" لبرامج بعد ظهر يوم الأحد، لاحظ تاجليابو أن شبكة "فوكس"، بخلاف شبكة "سي بي إس"، "قد أدركت أن هذه الباقة قد تصنع شبكة، ليس فقط فيما يتعلق بعلامة فوكس التجارية، ولكن بالنسبة للشركات الثانوية التي تعمل بالترددات العالية جداً، والتي ستتوجه إلى عرض قناة فوكس".
6) قيّم العقبات الرئيسية التي تقف بينك وبين الصفقة المستهدفة، وذلك من خلال تقييمك للاعبين واهتماماتهم واستراتيجياتهم.
قيّم مردوخ و"فوكس" ثلاث عقبات خطيرة على الأقل تقف في سبيل تحقيق أهدافهم:
- أولاً، كان لدى الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية علاقات جيدة مع شبكات البث التقليدية، بما في ذلك شبكة "سي بي إس" الحالية، والتي استمرت حيازتها لحقوق البث 38 عاماً، وامتلكت فريقاً أسطورياً يلعب على الهواء مباشرة، يضم جون مادن.
- كما قدّم كل من مردوخ وديفيد هيل من أستراليا، وديفيد هيل هو رئيس شبكة "سكاي سبورتس" (Sky Sports)، والعقل المفكر وراء مشروع "فوكس" للفوز بحقوق بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية. وبالتالي، كيف يمكن لهما فهم كرة القدم الأميركية؟
- وأخيراً، حتى لو قام مردوخ بتقديم العرض المرتفع، قد يواجه الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية هواجس جدية في التحول إلى "فوكس"، التي كانت تُعتبر "شبكة صغيرة متداعية" تُعاني من ثغرات كبيرة في تغطيتها الجغرافية، ولا تمتلك خبرة في كرة القدم الأميركية. كما أن الرضا ببث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية الرئيسية على قناة يشابه بثّها بث قناة "سيبيريا" قد يخاطر بقيمة هذا الامتياز على المدى الطويل.
7) قم بإعداد نهج يمكّنك من التغلب على الحواجز التي حددتها جميعها، جنباً إلى جنب مع استراتيجية تقديم عرضك المالي.
إن تصميم فوكس لنهجها بطريقة تغلبت فيها على هذه العقبات الثلاث هو أحد أكثر الأجزاء إثارة من هذه القصة. أولاً، قامت الشركة بجعل نهجها شخصياً. إذ توجه المسؤولون التنفيذيون لشركة "فوكس" إلى "دالاس" لتبديد شكوك اتحاد الدوري بشأن الشراكة مع شبكة جديدة وأقل جودة من الناحية الفنية. وبينما اشتكت الشركات الثلاث الكبرى باستمرار إلى رابطة الدوري من دفع مبالغ طائلة وخسارة أموال على تغطيتهم لكرة القدم، ظهرت "فوكس" بموقف مختلف تماماً، ووعدت بجعل الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية جوهرة الشبكة. وأكد بريستون بادون، رئيس شبكة توزيع البث الإذاعي، على هذه النقطة "لقد أخبر الجميع رابطة الدوري أن المباريات كانت غير ذات قيمة، وبعدم رضاهم عن دفع ما كانوا يدفعونه. بينما أثنينا نحن على ما يفعلون؛ فلا أحد يحب أن يسمع أن عمله غير ذي قيمة".
كما عرضت "فوكس" أفكاراً جديدة دامغة أضافت المزيد من القيمة. إذ توجه مردوخ إلى ديفيد هيل من قناة "سكاي سبورتس" في المملكة المتحدة، وصمما معاً شريطاً مسجلاً يُظهر للدوري الوطني لكرة القدم الأميركية ما يمكن أن تفعله شبكة "فوكس". وقام هيل بتدوين الآتي "هذه هي الطريقة التي نمارس بها كرة القدم في إنجلترا، وهذه هي الطريقة التي سنتبعها مع كرة القدم الأميركية". وكان رد فعل جيري جونز إيجابياً، إذ قال "عُرض على أعضاء اللجنة شريط تلفزيوني من قناة "سكاي سبورتس" يُظهر إحدى مباريات كرة القدم للفرقة الأولى في إنجلترا. ولاقت جودة الإنتاج نظرة إيجابية مقارنة بجودة أي مباراة للدوري الوطني لكرة القدم الأميركية على التلفزيون الأميركي".
وأضاف نائب رئيس شبكة "فوكس"، جورج كريج "لقد سيطر ديفيد هيل على الوضع. إذ قال: لدى الشبكات الأخرى سبع كاميرات للمباريات الهامة، وخمس فقط للمباريات البديلة. بينما سيكون لدينا سبع كاميرات على الأقل في كل مباراة، وسنوظف 12 كاميرا للمباريات الكبيرة. سيكون لدينا المزيد من الزوايا، وزوايا رؤية أوضح وأكثر للمشاهدين. كما تحدث عن الصوت. وكما تعلمون، تدور الإثارة في الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية حول الصوت". وتساءل عن سبب التسويق للدوري لمدة ستة أشهر فقط في السنة. وأضاف أن جميع محطات "فوكس" ستروج للدوري الوطني لكرة القدم الأميركية على مدار 12 شهراً في السنة. كما ستتضمن برامج "فوكس" المتعلقة بالدوري الوطني لكرة القدم الأميركية عروضاً للأطفال وفرص دولية على مدار العام. وحسب ما قال جونز: "لقد فُتنت بطريقة تفكيرهم الإبداعية. لقد غيروا من طريقة عرض المفاوضات".
وتناول فريق "فوكس" تغطيته المتقطعة التي كانت تثير قلق الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية بشكل خلاق. أوضح بادن، "كان هناك حوالي 60 مدينة في الولايات المتحدة، ولم تكن توجد محطة تلفزيونية رابعة نُقيم شراكة معها". وكان مالكو الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية قلقون من حصول "فوكس" على حقوق بث كرة القدم للأربعة أعوام القادمة، لأنه في حال لم تكن حزمة الدوري الأكثر قيمة متاحة في 60 مدينة على الأقل، وكانت تغطية الشبكة ضعيفة في العديد من المدن، فسيؤثر ذلك سلباً على نسبة المشاهدين والأموال الإعلانية والعلامة التجارية.
لكن كان لدى مردوخ خطة، وطلب من بادن حضور الاجتماع مع لجنة البث التلفزيوني للدوري الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية. وأوضح بادن "لم يخبرني مردوخ بما يود قوله. ومثلنا أمام لجنة التلفزيون، وقال مردوخ: خلال 60 يوماً، سيعقد بريستون شراكة ثانوية مع بعض محطات التلفزيون في كل سوق من هذه الأسواق الستين. وكنت على وشك أن أفقد أعصابي". إن الخوف من خسارة بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية بالنسبة إلى شركات الشبكة الرئيسية التابعة، وإغراء إعادة بثها من جديد عبر شراكة ثانوية مع شبكة "فوكس" سيكون قوياً بالفعل. كما أن التزام "فوكس" بالشراكة الثانوية، والبث عبر أجهزة ذات التردد العالي جداً، مقابل البث الذي يعمل بالتردد فوق العالي، كان بمثابة ضمان كبير للمدراء التنفيذيين ومالكي الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية.
ومن المؤكد أن "فوكس" درست الوضع المالي بشكل جيد. إذ رغم العناصر الأخرى الجذابة في نهجه، خلص مردوخ إلى أن "فوكس" ستحتاج أيضاً إلى تقديم مبلغ ضخم من المال بشكل صادم، ويكون بمثابة "عرض الضربة القاضية"، بحيث لا تتذرع شبكة "سي بي إس" بحقوق بثها للمباريات. وأوضح بادن التفكير التقليدي حول تحديد مقدار عروض المناقصة بقوله "اجتمع كل من مسؤولي الحسابات المالية ومندوبي المبيعات في الشبكة معاً، وتباحثوا في المبلغ الذي يمكنهم دفعه مقابل هذه الحقوق. وأجروا تحليلاً لنوع الإعلانات التي يمكنهم بيعها وتوصلوا إلى أكبر عدد ممكن من نقاط التعادل. ثم جاء مردوخ بكل ثقة إلى الغرفة وقال "ما مقدار عرضنا؟ وأخبرناه بالرقم. ثم قال: هذا لا يكفي. إن الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية لا يريد حقاً بث مبارياته على شبكتنا. إنهم يقومون باستغلالنا فقط للمزايدة على شبكة "سي بي إس". يجب أن أقدم عرضاً أُقصي فيه شبكة "سي بي إس" عن دائرة المفاوضات".
وأضاف نائب الرئيس التنفيذي لشبكة "فوكس" تشيس كاري "يجب أن تعرض رقماً يجعلهم يختنقون، ولا أملك حقيقة أي كلمة للتعبير عن ذلك بشكل أفضل". وحدد مردوخ هذا الرقم القاتل: ستراهن شبكة "فوكس" بمبلغ 1.6 مليار دولار للفوز بحقوق بث مباريات الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية على مدى أربع سنوات. ووضع برايان كورتيس في اعتباره مبلغ 400 مليون دولار سنوياً من شركة "فوكس" مقابل عرض 300 مليون دولار أميركي تقريباً في العام من شبكة "سي بي إس" وقال "كان الرقم مذهلاً في عام 1993".
هل كان العرض الأعلى وحده كافياً لتنتصر "فوكس"؟ أجاب الجانبان بالنفي. وقال مردوخ "لا شك أنه لو كانت شبكة "سي بي إس" أقل بمقدار 20 مليون دولار من شبكة فوكس، لكان الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية قد اختار شبكة "سي بي إس"". وأعلن جونز المثل بقوله "لقد منحت شبكة "سي بي إس" الدوري 38 عاماً من خدمة البث التلفزيوني وتقليداً رائعاً، وكنا لنفضلها على المنافسين الآخرين. لقد كنا عقبة في وجه شبكة "فوكس". كان عليهم أن يكونوا أفضل بكثير. ولكنهم كانوا أفضل بكثير بالفعل. كان نوع الالتزام الذي قدموه وشعرنا به يتجاوز الدولارات".
8) إذا كنت صاحب منصب حالي، وسنحت لك فرصة استباق منافس جبار، فيجب عليك التصرف سريعاً.
قام رئيس قناة "سي بي إس" الرياضية نيل بلسون بمحاصرة بول تاجليابو قبل أسبوع من الموعد النهائي، وضغط على المفوض للحصول على معلومات "طلبت من بول الخروج من الاستوديو لمدة دقيقة. وسألته، كم المبلغ يا بول؟ ماذا علينا أن نفعل هنا؟ ما هو الرقم الذي يجب علينا بذله للحصول على هذه الصفقة؟" وقال "295 مليون دولار. أعتقد أنه لو قدمنا عرضنا مع 295 مليون دولار إضافي في بداية الأسبوع لكانت القضية قد حُسمت. إن هذا بمثابة مأساة حقيقية. لقد كنا نمتلك هذا الرقم طوال الأسبوع. كل ما كان علينا فعله هو قول نعم".
كان من الممكن أن يكون مبلغ 295 مليون دولار لقاء باقة المؤتمر الوطني لكرة القدم الرئيسية ليوم الأحد، وليس باقة مؤتمر كرة القدم الأميركية الأقل قيمة. وأشار جاي روزنشتاين، نائب رئيس برامج شبكة "سي بي إس" الرياضية إلى المفارقة المؤلمة لهذا الخيار "... بعد أربع سنوات، دفعت إدارة شبكة "سي بي إس" الجديدة التي استلمت إدارة القناة بعد تيش مبلغ 500 مليون دولار لقاء الباقة الأضعف".
وقد لخصت نائبة رئيس التسويق لشركة "فوكس"، تريسي دولغن، المخاطر الحقيقية وقالت "من المؤكد أنه لو لم يقم مردوخ بهذا الرهان على الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية، لما وُجدت إمبراطورية الكابل المتمثلة بقناة "فوكس نيوز، و"إف إكس"، و"ناشيونال جيوغرافيك"". لست متأكدة أن هذه الإمبراطورية بأكملها لم تكن لتوجد الآن، وذلك كله يرجع إلى هذا الرهان الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات، للحصول على حقوق الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية. لقد كانت حقوق بث الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية الشيء الوحيد الذي كان سيجعله يحصل على محطات جديدة، لقد باع لتوه استوديوهات الأفلام والتلفزيون الخاصة بشركة "فوكس" وشبكات "كابل إف إكس" وغيرها من العقارات، باستثناء "فوكس نيوز" و"فوكس تي في" إلى "والت ديزني" لقاء 70 مليار دولار. أعتقد أنها كانت أفضل 400 مليون دولار أنفقها في حياته".
حقيقتان بسيطتان عن التفاوض
رغم أني عرضت هذه الدروس في سياق روبرت مردوخ و"فوكس" وشبكة "سي بي إس" والدوري الوطني لكرة القدم الأميركية، توجد حقيقتان ثابتتان يتردد صداهما مع تجارب المفاوضين الأقوياء الآخرين الذين عملت معهم ودرستهم أو كتبت عنهم.
اقرأ أيضاً: مهارات المستمع الجيد
أولاً، تُعزز هذه القصة التكاليف الفادحة المحتملة للفشل في سبر مصالح الأطراف الأخرى بعمق، وعدم أخذ هذه المصالح على محمل الجد في نهجك. كما أن عدم تحديد الحواجز الحقيقية التي تعترض سبيل الصفقة وعدم تخصيص نهجك للتغلب عليها، سيجعل احتمالات نجاحك منخفضة. وينطبق هذا التحذير بشكل خاص عندما يتجاهل أحد الأطراف المنافسة بثقة مفرطة، ويؤكد على التكتيكات، وعلى المدى القصير، بينما يكون الطرف الآخر مفاوضاً استراتيجياً، ويدرس نظراءه بعناية، مع التركيز على الجهات الفاعلة الجديدة، والظروف المتغيرة، والمرور بكل خطوات اللعبة.
وأخيراً، هناك حقيقة ثانية ثابتة: رغم أن نجاح مردوخ كان يعتمد على استراتيجيته التفاوضية وتكتيكاته المثيرة للإعجاب، إلا أن نهجه لم ينجح إلا في ظل قناعته وفهمه العميق والفريد تقريباً للقيمة طويلة الأجل لكرة القدم الاحترافية في بناء شبكة "فوكس". بينما لا يمكن أن تنجح تكتيكات الخبير في خدمة الفهم الخاطئ للقيمة المطروحة.
يقوم بعض المفاوضين "بتوسيع مجال الرؤية" على الاستراتيجية وعلى المدى الطويل، كدليل يقودهم في تنفيذ نهجهم، ولكن قد يكونون أقل مهارة في التعاملات المباشرة. بينما قد "يركز" الآخرون على الأشخاص، مع تمتعهم بمهارات شخصية رائعة، إلا أنهم قد يفتقرون إلى التركيز على النظرة الأشمل. وتسلط قصة صفقة الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية المحورية في حياة مردوخ الضوء على كيفية موازنة أفضل مفاوضي القمة بين المنظورَين، والتركيز على الاستراتيجية الأوسع وعلى نظرائهم، على حد سواء. وقد رأيت في عملي، بمجال التدريس والاستشارات، أن هذا النهج يُحدث اختلافات كبيرة باستمرار في المفاوضات. ولهذا يجب علينا الاستفادة من فن التفاوض عند روبرت مردوخ.
اقرأ أيضاً: