يجب أن يكون الرئيس الجديد للولايات المتحدة مفاوضاً فعالاً لأقصى حد. فبانتظاره نزاعات مسلحة وجمود سياسي وأزمات دبلوماسية كثيرة. الرئيس مدعوٌ لإيجاد حل في سورية، وإدارة العلاقات المعقدة مع روسيا وإيران، والتعامل مع مناطق التوتر في كوريا الشمالية وليبيا وأوكرانيا، والتوترات السلبية التنافسية مع الصين، وإنعاش الحد الأدنى من التعاون بين الحزبين في "الكونغرس"، فكيف هي علاقة دونالد ترامب بعلم التفاوض؟
من المفارقات أن المرشح الرئاسي الوحيد الذي ما فتئ يشدد على بسالته كمفاوض عظيم لا يملك إلا الغرائز والخبرات الخطأ للتعامل مع أنواع النزاعات التي سيواجهها الرئيس. لن يكون الأسلوب "الدونالد ترامبي" في التفاوض غير فعال فقط، بل سيكون كارثياً أيضاً - ولذلك أسباب واضحة جداً، وأهمها افتقاده لـ مهارة التفاوض.
كان أحد الكاتبين كبير المفاوضين البريطانيين إلى أيرلندا الشمالية، وساعد في التوصل وتنفيذ اتفاق الجمعة العظيمة التاريخي الذي وضع نهاية لسنوات من العنف بين الكاثوليك والبروتستانت. أما الآخر فقد قدّم المشورة في مختلف أرجاء العالم حول عدد من الصفقات بملايين الدولارات، وهو مؤلف كتاب جديد بعنوان "التفاوض على المستحيل" (Negotiating the Impossible). كما عمل كِلانا وراء الكواليس في تقديم النصح لقادة الدول في التفاوض حول النزاعات المسلحة والمآزق السياسية.
الفروقات بين أهداف التفاوض
هناك سؤال يتكرر طرحه علينا: ما الفارق بين التفاوض في نطاق الأعمال، والتفاوض عبر قنوات خلفية في مناطق الحروب مع شركاء متحالفين متمردين وفي ظل استفحال للعداء وانعدام للثقة؟ يكمنُ أحد الفوارق الجوهرية في الهدف. عندما تُفاوض على صفقة عمل فإن مهمتك هي استكشاف كم من المال يمكنك استخراجه من هذه الصفقة، والأخذ بالاعتبار كل الطرق الممكنة لبناء الصفقة والتوصل لتوافق يُمكنِّك من الاستفادة من جزء أكبر أو من معظم القيمة التي قد تَنتجُ عن الصفقة.
لكن الأمور لا تسير على هذا المنوال عند التفاوض في نزاعات على درجة عالية من الخطورة طال أمدها وتعددت الأطراف المنخرطة فيها، بحيث تم تصعيدها إلى مستويات أقرب إلى المُدمِّرة. لن يكون أمامك حلول عديدة للاختيار منها. ستكون محظوظاً إن وجدت صفقة واحدة يستطيع الجميع التعايش معها - حتى ولو أتت مع عدد لا حصر له من العقبات في طريق إنجازها. ليس عملك إقناع أو تهديد الطرف الآخر ليقبل الحل المفضّل لديك، بل استخدام كل ما تحت تصرفك من أدوات لتذليل الصعاب التي تجعل النزاع غير قابل للحل. وفي أغلب الحالات، أنت لن تحاول قهر الطرف الآخر؛ ستحاول، بالتعاون بينك وبينه، التوصل إلى الصفقة الواحدة والوحيدة التي يمكنها منع الكارثة.
الخصائص الخمس التي تميّز التفاوض على المسرح العالمي
هناك آثار جديّة على نوع المفاوض الذي يجب أن يكون عليه الرئيس، تنتج عن الفارق بين شراء العقارات، مثلاً، وإنهاء الحروب، وبناء الشراكات، وهيكلة الاتفاقيات العالمية، والموازنة بين وسائل الضغط العسكرية والدبلوماسية. تمعّن في هذه الخصائص الخمس التي تميّز التفاوض على المسرح العالمي واسأل نفسك إن كان ما نعرفه عن أسلوب ترامب ومزاجه مناسباً للنجاة (ناهيك عن النجاح) في هذه الظروف:
التهديدات والشروط المسبقة فكرة سيئة عادةً
مهما بدت لك مطالبك منطقية فإن طرحها كإنذارات أو شروط مسبقة للتفاوض سيخلق في معظم الحالات عوائق أنت بغنىً عنها - وقد يؤدي في حالات أسوأ إلى تصعيد مدمّر. كان للشرط المسبق الذي وضعه ترامب للمشاركة في مناظرة الحزب الجمهوري في شهر يناير/كانون الثاني على قناة "فوكس نيوز"، عندما طالب بعزل مديرة الحوار ميغن كيلي، عواقب عديدة لم يكن أي منها عوناً له في هدفه: أصرّ المدراء التنفيذيون في قناة "فوكس" على موقفهم، وأُجبر ترامب على تفويت المناظرة ليخسر بعدها بثلاث أيام أمام تيد كروز في لجان ولاية أيوا، واضطر للاعتراف بأن عدم حضوره المناظرة كلّفه انتصاره. كان قد سبق لترامب القول إنه كان سيتعامل مع إيران بنفس الطريقة التي تعامل بها مع "فوكس نيوز" – بمعنى الانسحاب من المفاوضاتب مع البلد الذي رفض شروطه المسبقة للمحادثات النووية - ناسياً أنه عاد ليظهر في "فوكس نيوز" في المناظرة التالية التي أدارتها ميغن كيلي نفسها.
ما تحتاجه ليس صفقة عظيمة، بل صفقة قابلة للتطبيق
إن فتّشنا في كل تنظيرات ترامب عن الصفقة النووية مع إيران، من الصعب إيجاد تنازل أميركي واحد كان ترامب سيوافق عليه. هو يرى أنه كان علينا استخلاص صفقة أفضل دون تقديم شيء بالمقابل. قد يكون لديه أمثلة عن صفقات تجارية جرى فيها الأمر على هذا الشكل لكن، وعلى خلاف مفاوضات الأعمال، لا ينتهي التفاوض حول الصفقات الدولية والنزاعات عند تحقيق اختراق يوصل لاتفاق، فهذه ليست إلا البداية. اتفاقية "الجمعة العظيمة" تبعها 9 سنوات أخرى من المفاوضات قبل أن يتم تطبيقها. تماماً كما للصفقة السيئة نتائج سلبية، كذلك للصفقة "العظيمة" التي لا يقبلها الطرف الآخر إلا على مضض أو تحت الإكراه نفس النتائج، الصفقة لا تدوم إن لم يراها الطرف الآخر على أنها عادلة.
خسارتهم لا تعني فوزك
يقول لنا ترامب: "سأُبرِح الصين ضرباً على الدوام"، ويَعِدُ "بضرب المكسيك" و"ضرب اليابان"، وهكذا. الاعتقاد المُضمَر بأن التفاوض لعبة ربح وخسارة يفوز فيها طرف واحد فقط هو اعتقاد خطير في غير محلِّه في سياق الصراعات الطويلة الأمد والصفقات الدولية المعقدة الجاري ترتيبها. مثلاً، عندما تفاوض على صفقة أمنية أو تجارية مع أفراد منتخبين حديثاً، فأنت لست خصماً لهم فقط، بل شريكهم أيضاً، ويقتضي واجبك الآن مساعدتهم على التفكير بشكل أكثر ابتكاراً وإرساء الثقة لديهم، والأهم من هذا مساعدتهم في إقناع ناخبيهم بالاتفاق. قد يكون ترامب قد توصل إلى صفقات تجارية كان فيها هو "الفائز" لأن الطرف الآخر كان ببساطة قليل الخبرة أو مفاوضاً سيئاً. لكن أي صفقة مع إيران أو روسيا أو الصين أو أي قضية مرتقبة لن تخلو من المصالح المتبادلة بيننا وبينهم، ولن يكون ممكناً في أي تفاوض معهم الحكم على مدى نجاح الولايات المتحدة من منظور كم "نضرب" الطرف الآخر.
عليك مساعدتهم لحفظ ماء الوجه
حتى أكثر عروضك سخاء قد تُرفَض إن كان قبولها سيجعل الآخرين يفقدون اعتبارهم. قد تُرفض صفقتك إن لم يتمكن الجانب الآخر من تسويقها على أنها انتصار، حتى ولو كانت الوحيدة التي تساعدهم على تجنب الكارثة العسكرية أو الاقتصادية. من الواضح، ومن خلال آراء ترامب الأكثر تفصيلاً حول السياسة الخارجية أنه لا يعي هذه الديناميكيات، فقد قال إنه يريد بناء سور على الحدود مع المكسيك وجعل الحكومة المكسيكية تتحمل تكاليفه. جاءت ردة الفعل على هذا الموقف عنيفة بإعلان الرئيس المكسيكي السابق فينسنت فوكس بقوة وبعبارات نابية أن المكسيك لن تدفع أبداً لبناء مثل هذا الجدار. ماذا كان رد ترامب؟ "زاد للتو ارتفاع الحائط 10 أقدام"، وكأنها طريقته للقول "إن رفضت عرضي الأول السخيف، فسوف أصعّد الأمور أكثر بفرض مطالب أكثر سخافة". لم يمرّ علينا يوماً أي عمل تجاري شرعي نجح فيه هذا التكتيك (ولو أنه قد يؤتي ثماره في لعب البوكر أو في فيلم العراب).
عليك التحلي بالشجاعة لإخبار داعميك بما لا يحبون سماعه
تُظهر التسجيلات بوضوح تغيراً جذرياً عبر السنوات في آراء ترامب التي صرّح بها حول جميع القضايا الرئيسية تقريباً، بما فيها ضبط السلاح والرعاية الصحية والإجهاض والضرائب. ومع أنه لا يُظهر أي تردد عند التفوه بأشياء تحريضية، فهذا لا يعود لشجاعته في التعبير عن معتقداته، بل لدهائه في الانقياد وراء آراء أحدث المنضمين لمعسكره. هذا الأسلوب لا يصلح لرئيس سيتعامل مع دول ومؤسسات تعتبر خطرة أو شريرة، ومُطالبٌ بتهيئة الأرضية للانخراط في القضايا وإقناع المشرعين الغاضبين أو المشككين. إن لم تتخذ في حياتك موقفاً يخالف ما يحب داعموك سماعه، فلن يكون بإمكانك التفاوض -أو القيادة- بفعالية عندما يكون هناك حاجة ماسة لذلك.
لطالما نجح الأميركيون عبر التاريخ بتسليم زمام الأمور إلى أفرادٍ يتمتعون بحكم ومزاج رشيد في التعامل مع الأزمات الكبرى. قاد الرئيس أبراهام لينكولن حملة عسكرية شرسة على الكونفدرالية للحفاظ على الاتحاد، لا لرغبة منه بالثأر ودون أي تسامح مع من يعتزم الانتقام بعد النصر. يعود، جزئياً، نجاح الرئيس جون كينيدي في نزع فتيل أزمة الصواريخ الكوبية إلى اعتماده التوعد العسكري مع التركيز أكثر على التفهم العميق لوجهات النظر والعقبات التي تواجه الرئيس السوفييتي السابق نيكيتا خروتشوف. كذلك وقف الرئيس دونالد ريغان في وجه ما اُعتبِر حينها "إمبراطورية الشر" لكنه مع هذا كان مستعداً للعمل والتعاون والتفاوض مع ميخائيل غورباتشوف سعياً لتحقيق المصالح المتبادلة.
لقد فهمَ هؤلاء الرؤساء، من الجمهوريين والديمقراطيين، أن التفاوض الفعال لا يتطلب فقط القوة والشدة لكنه يتطلب أيضاً التواضع والتعاطف والصبر للتوصل للحلول، وبناء التحالفات والحفاظ عليها، وتخفيف حدة النزاعات، وتحقيق الأهداف الاقتصادية والعسكرية.
ما ينتظرنا ليس صفقة عقارية أو قرار توظيف أو طرد في برنامج تلفزيوني. سيكون على الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر علم التفاوض مواجهة عالم من المشاكل العالمية المعقدة وقضايا حياة أو موت. في هذا العالم، تقود الإهانة إلى التصعيد. وتقود التهديدات إلى طريق مسدود. والإفلاس يعني موت الناس. نحتاج رئيساً يفهم هذا.
اقرأ أيضاً: