في ظل الوتيرة المتسارعة للتغيرات الاقتصادية، وسباق تنافسي محتدم، يظهر الابتكار كمحرك أساسي للاقتصاد في القرن الحادي والعشرين، ما يدفع الأطراف الفاعلة في المشهد الاقتصادي، سواء الحكومة أو الشركات أو الجامعات إلى ضرورة منح مجال "البحث والتطوير" الأولوية أكثر من أي وقت مضى. ولكن طرفاً واحداً لن يستطيع بمفرده تحقيق تعزيز الابتكار بالشكل الذي يدعم النمو الاقتصادي، وإنما يتطلب الأمر تعاوناً ثلاثياً من الأطراف الثلاثة كي تصل المنطقة إلى مكانة أكثر تقدماً في السباق.
العلاقة بين الجامعات والقطاع الصناعي
في عصر "اقتصاد المعرفة"؛ أي: الاقتصاد القائم على المعلومات والتقنية والابتكار، باتت التنافسية العالمية مرتبطة إلى درجة كبيرة بمرحلتين، الأولى هي رعاية الحكومة لعملية توليد المعرفة، وهي المهمة التي تُسند إلى الجامعة بشكل رئيسي، باعتبارها المؤسسة المنوط بها وضع القواعد المعرفية واكتشاف الأفكار الجديدة، إضافة إلى تقديم التعليم الأفضل لرواد الأعمال وقادة المستقبل. وتتجسد المرحلة الثانية في تطبيق هذه المعرفة لخدمة المجتمع لتحقيق النمو الاقتصادي، وهي مهمة تضطلع بها الشركات، التي تدرك حاجتها إلى الحلول الابتكارية ليس فقط لتعزيز قاعدة معارفها، لكن أيضاً لاكتساب ميزة تنافسية، ما يدفعها إلى القيام ببعض المهمات البحثية، أو إنشاء مراكز بحثية تابعة لها، مثل "جوجل"، و"سبيس إكس".
لكن، حينما يعمل كل طرف بمعزل عن البقية، فإنه يواجه بعض العراقيل التي تقف في طريق "تحقيق تعزيز الابتكار"، فمثلاً تُتهم الجامعات بأن نتائج أبحاثها بعيدة عن الواقع والتطبيق، وتتكبد الشركات تكاليف إضافية، ووقتاً أطول نظراً لقيامها بمهمات بحثية متكررة لتقييم كل منتج أو خدمة.
مراحل تطور التعاون الصناعي الأكاديمي
ظهرت مساعِ لتعزيز التعاون بين الصناعة والأوساط الأكاديمية، والمعروف باسم "التعاون الصناعي الأكاديميط (UIC)، الذي لن يعزز النمو الاقتصادي للدولة من خلال زيادة الابتكار فحسب، وإنما سيساعد الأطراف المشاركة لتحقيق مصالحها. فبالنسبة للوسط الأكاديمي، سيساعد الجامعات على جعل نتائج أبحاثها أكثر صلة بالمجتمع، وسيكون فعالاً في مساعدة الباحثين على معالجة الأسئلة البحثية الصعبة من خلال تطبيقها، واكتساب مهارات جديدة. وبالنسبة للشركات، سيمكّنها من تحسين أدائها من خلال تطوير تكنولوجيات جديدة، وتقليل مخاطر الاستثمار في البحث، وتوسيع القدرات والخبرات المتاحة للشركة.
وأدركت الشركات بالفعل، على مدار السنوات، أهمية تعزيز ذلك التعاون، إذ اتخذ أشكالاً مختلفة بعضها رسمي، وآخر غير رسمي. فقد يكون التعاون على شكل تمويل الشركات لبعض الأبحاث العلمية التي تقع في دائرة اهتمامها، وقد يكون بإتاحة الشركات معاملها للباحثين وهي أفضل بكثير من معامل الجامعة. وهناك نموذج آخر ورد في مقال "لماذا ينبغي على الشركات والجامعات إبرام عقود تعاون طويلة الأمد؟" يتمثل في تمويل الشركات للأبحاث التي تدرس المشكلات العلمية المستعصية أو تبحث في مجالات تكنولوجية جديدة تصب في خانة اهتمامات الشركة، مع مساهمة علماء الشركة ومهندسيها في الإشراف على الباحثين بالشراكة مع أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات.
ولكن هذه الشراكات الفردية لتنفيذ مشاريع منفردة ولمرة واحدة أصبحت مرهقة، لذا يسعى الطرفان إلى عقد شراكات تعاونية طويلة الأمد حتى لا يضطرون إلى خوض التفاوض في كل مرة تجري فيها دراسة مشروع بحثي جديد. لذلك ظهرت الدعوات إلى تأسيس المراكز والاتحادات التي تسعى الشركات من خلالها إلى رعاية مؤسسات وليس فقط أفراداً باحثين، ويخرج منها علاقة تعاونية مستدامة تبقي الشركات على اتصال دائم بالبحوث في مراحلها الأولى، وتسرّع ترجمة هذه البحوث إلى منتجات من شأنها دفع النمو الاقتصادي قدماً.
فعلى سبيل المثال، تعقد شركة "ريد هات" (RedHat)، وهي شركة رائدة عالمياً في مجال حلول المصادر المفتوحة، شراكة مع جامعة "بوسطن"، بقيمة 5 ملايين دولار أميركي، لدعم الأبحاث في مجال حلول المصادر المفتوحة والتكنولوجيا الجديدة. إضافة إلى افتتاحها "مختبر الإبداع المفتوح" في مدينة بوسطن.
تدخل الحكومة كعامل مهم في الاتحاد
تدخل الحكومة في بعض هذه الشراكات، ويدعى "اتحاد حكومي صناعي أكاديمي" (GIA)، وتتعدد أدوارها في ذلك الاتحاد، فأحياناً تقود هي التحالف من خلال تحديد الأهداف ووضع قيود على التفاعل بين الجامعات والشركات، وأحياناً يكون دورها تمويلياً للأبحاث بمشاركة القطاع الخاص، وأحياناً يصبح دورها محفزاً ومشرفاً لتحديد حدود مشاركة جميع الأطراف من حيث الموارد والمسؤولية، ما يحمي الأوساط الأكاديمية من خطر فقدان الشرعية، إذا تدهورت سمعة شريكه التجاري نتيجة لسوء السلوك الاجتماعي أو البيئي.
عوامل ضمان تأسيس تعاون طويل الأجل
بالطبع هناك الكثير من المشكلات التي تعيق سلاسة التعاون، خاصة مع وجود مخاوف واختلافات في ثقافة كل من الطرفين، فبينما تركز الشركات على الربح المادي، تولي الجامعات اهتماماً لتطوير المعارف وتأهيل الجيل المقبل من العلماء من دون حساب للربح.
ولكن، هناك عوامل أساسية لا بد أن توضع في الاعتبار يمكنها الحفاظ شراكة بحثية مستدامة. وقد رصد ثلاثة باحثين في دراسة بعنوان "مراجعة منهجية لنقل المعرفة المستدامة في اتحاد الحكومة والصناعة والأوساط الأكاديمية" المنشورة عام 2017، ستة عوامل لتحقيق تعاون مستدام وطويل الأجل، مقسمين إلى ثلاثة عوامل داخلية، وثلاثة عوامل خارجية:
1- عقد التعاون
لا بد أن يكون عقد التعاون حازماً، وشاملاً لكافة البنود المتعلقة بتحديد الأدوار والحقوق والواجبات، خاصة أن الاتحاد الواحد قد يضم شركات متنافسة في سوق واحد، لذلك، فإن كفاءة العقود في التعاون البحثي تحد أي سلوك انتهازي للمنافسين.
2- الشفافية السلوكية
قد يشارك أحد الأطراف في مشكلة ما، كأن تلحق بشركة سمعة سيئة فيما يتعلق بسلوك مخالف للمجتمع أو البيئة، ما سيورط بقية الأطراف الأخرى في التعاون، وقد يقود إلى إنهاء التعاون مع الأطراف غير الموثوق بهم، أو المضي قدماً في تعاون غير مستقر مع ضمانات عالية من أجل حماية أنفسهم من المخاطر المحتملة. وبيد أن الطريق الأكثر فعالية لتجنب هذه المشكلة هو التواصل والشفافية التامة بين كافة الأطراف.
3- دعم مصلحة جميع الأطراف
على الرغم من أن التعاون الحكومي الصناعي الأكاديمي يعزز اقتصاد البلاد، ويرتقي بالمجتمع، فإن كل طرف في الاتحاد يملك مصالح شخصية من هذا التعاون، وإلا لما اضطر إلى المشاركة به. وإن شعر أحدهم أن الاتحاد يراعي مصالح أطراف أخرى دونه، سينسحب على الفور. لذلك، فإن دعم جميع الأطراف وتحقيق مصالحهم وأهدافه يضمن استمرار التعاون بكافة عناصره.
4- القدرة التنافسية
تهتم الشركات على نحو خاص بمجال البحث والابتكار لأنه يمنحها ميزة تنافسية، فنجد أن شركة "بروكتر آند غامبل" (Procter & Gamble) تنفق نحو ملياري دولار على البحث والتطوير سنوياً. الأمر ذاته بالنسبة للجامعات التي تسعى للوصول إلى مراكز متقدمة بين الجامعات العالمية. لذلك تعد المنافسة من أهم دوافع المشاركين في الاتحاد. ويظهر دور مهم للاتحاد في تعزيز القدرات التنافسية لأطرافه، وهو استغلال التعاون بين أطراف متعددة، لتقاسم التكاليف والمخاطر بينهم، بمعنى إتاحة الموارد الخاصة بكل طرف بما يحقق مصلحة الجميع في النهاية، مثل الدعم المالي المباشر، أو المعامل والأجهزة المتقدمة، أو الباحثين المتميزين، أو الدورات والبرامج التعليمية المناسبة، وغيرها.
5- الملاءمة
هذه الأطراف غير المتجانسة، التي يملك كل منها دوراً مختلفاً عن الآخر، لا بد أن تكون قادرة في النهاية على مواءمة كل النتائج المختلفة من كل طرف، لاستخدامها بالشكل المطلوب، وهو الهدف من التعاون في النهاية.
6- التعقيد التكنولوجي
العامل الأخير الذي سيساعد على استدامة التعاون البحثي، هو الأخذ في الاعتبار الطبيعة الابتكارية لهذا التعاون. إذ يؤثر التعقيد التكنولوجي على نحو كبير في الشركات ذات الصلة بالابتكار أكثر من غيرها. وهنا يأتي دور الاتحاد بالتخفيف من مخاطر الفشل المحتملة.
لم تعد هذه الشراكة أمراً اختيارياً، بل أصبحت مهمة واجبة لكل دولة ترغب في تحقيق تعزيز الابتكار وترغب في أن يكون لها مكان في القرن الحادي والعشرين، فلن يتحقق الابتكار المطلوب دون التعاون بين الأطراف الثلاثة الفاعلة، الذي من شأنه تسريع وتيرة الابتكارات الثورية التي تغير العالم من حولنا.