لطالما اهتمت ممارسات الحوكمة المؤسسية بطريقة بناء نظام حوكمة متكامل وبتحديد السلوكيات التي تصب في مصلحة العمل، وحث القادة على اتخاذ القرارات الأخلاقية. تعتمد العديد من ممارسات الحوكمة الحالية على الضوابط الرسمية مثل التشريعات والأنظمة والعقود الملزمة قانونياً لتحسين الإجراءات وتقليل تضارب المصالح الذي يمكن أن ينشأ بين مدراء المؤسسات والمساهمين.
اقرأ أيضاً: كيف تؤثر قوانين حماية المستثمرين والحوكمة في التنافس على الاستثمار
هدفنا في هذا البحث وضع إطار موحد للحوكمة يساعد على فهم السلوك الإداري وعملية صنع القرار في المؤسسات، وذلك من خلال التقييم النفسي لعملية صنع القرار، ومراقبة السلوكيات المصاحبة، وكذلك التركيز على مشاعر الثقة والفخر والكبرياء لدى متخذي القرار.
الثقة والحوكمة
إن عامل الثقة عند القادة ذو بنية معقدة وأبعاد متعددة، ففي حين يمكن النظر إليه كنتيجة أنشطة ترتبط بالنفس البشرية، إلا أنه يمكن أيضاً ربطه بعدد كبير من العوامل الأخرى غير النفسية مثل السياق التنظيمي والكفاءة والمعرفة. وفي حين أن بعض أنواع الثقة تكون مدفوعة بجانب عاطفي كالثقة القائمة على التأثير أو الإحسان، فإن أشكالاً أخرى من الثقة تكون على جانب كبير من العقلانية كتلك القائمة على الكفاءة والمعرفة. ونظراً إلى هذا التشعب في مفهوم الثقة في عالم الأعمال، فإنه من الصعوبة بمكان تعريفها بشكل واضح ومحدد، ولكن من أكثر التعاريف شيوعاً تلك التي تنظر إلى الثقة بأنها حالة نفسية تتوقع أن أفعال الآخرين ستكون إيجابية أو على الأقل غير ضارة بمصالح الشخص.
للثقة فوائد إيجابية متعددة فهي تعزز الأداء من خلال تقليل التكاليف، حيث يقضي الشركاء وقتاً أقل في متابعة ومراجعة إجراءات بعضهم البعض للتأكد من إنفاذ الالتزامات التعاقدية، كذلك تساعد الثقة بين الشركاء على نقل المعرفة وخصوصاً المعارف الضمنية بشكل سلس، هذا بالإضافة إلى الحد من المخاطر الناشئة عن علاقات العمل أو الشراكة.
ويمكن أن يثار تساؤل عن مدى قدرة الثقة باعتبارها من ممارسات الحوكمة القائمة على العلاقات بين الأطراف على الحلول مكان ممارسات الحوكمة الرسمية مثل العقود، وقد أظهرت مراجعاتنا للعديد من الأبحاث والدراسات في هذا الخصوص عدم وجود إجماع لغاية الآن حول هذا الموضوع، فالبعض ينظر إلى الثقة على أنها مكملة لممارسات الحوكمة الأخرى، والبعض يراها بديل عنها. ولكن من الثابت أن وجود الثقة داخل المؤسسة يمكن أن يساعد على تحسين ممارسات الحوكمة وعمليات اتخاذ القرار.
الفخر والحوكمة
إن شعور الموظفين بالفخر والكبرياء له تأثير إيجابي على رضاهم الوظيفي، وكذلك على حالتهم النفسية التي تمدهم بالطاقة لتحقيق أهداف المؤسسة بشكل أفضل، كذلك من شأن الفخر أن يساعد على تحسين سلوك المواطنة التنظيمية لدى الموظفين. والجدير بالذكر أن الشعور بالفخر هو ثنائي الأبعاد حيث يمتلك جانباً مشرقاً وآخر مظلماً، والجانب المظلم للفخر يسمى الغطرسة والذي عادةً ما ينشأ بسبب التركيز المفرط للإدارة العليا على التأثير في الآخرين وعدم قدرتها على كبح القوة والسلطة التي تمتلكها، إن المدراء الذين يمتلكون شعوراً أصيلاً بالفخر يكونون أكثر مراعاة لآراء الآخرين وعلى استعداد للاعتراف بمساهمات الآخرين في نجاح المؤسسة، إن المستوى الصحي من الثقة بالنفس والفخر تساعد القادة على الإحساس الدقيق بالواقع مع الحفاظ على كم مناسب من السيطرة على عواطفهم، كما أنهم يسعون إلى تبني مواقف الآخرين عند الانخراط في أداء مهام استراتيجية.
إن فاعلية فريق الإدارة العليا في المؤسسة ذو بنية ثنائية الأبعاد، بحيث يمكن أن تكون مرتكزة على الأداء المهني أو على أمور أخرى غير مهنية، وهذا الأمر سيؤدي حكماً إلى تحقيق نتائج عالية أو منخفضة على التوالي. وسيكون من المفيد اختيار المدراء بناءً على ما يتمتعون به من صفات إيجابية كالثقة والفخر أو عند عدم امتلاكهم صفات سلبية كالغطرسة.
الفرق بين الثقة والفخر حسب تأثيرهم على بناء نظام حوكمة متكامل
هناك عدة اختلافات بين ما قمنا بالتأسيس له لمفهومي الثقة والفخر، فالثقة من جهة ترتبط بالعاطفة ولكنها عقلانية ومنطقية، بينما الفخر مرتبط بمشاعر الوعي الذاتي، وكذلك فإن أبعاد الثقة تكون ما بين الثقة، عدم الثقة، أو المزج بينهما بنسب مختلفة. أما بالنسبة إلى الفخر فهو ذو بعدين فقط إما مشاعر الفخر والكبرياء الإيجابية أو المتضخمة منها والتي تصل إلى درجة الغطرسة. تركز الثقة على العلاقة مع الآخرين وتكون آثارها على الشخص الذي يمنح الثقة، بينما الفخر مرتكز على الشخص نفسه ولكن آثاره تكون على الأشخاص المحيطين. من جهة أخرى يمكن توظيف كل من مشاعر الثقة وعدم الثقة في إجراءات الحوكمة المؤسسية، بينما يمكن فقط الاعتماد على مشاعر الفخر ولا يوجد مكان للغطرسة في أدبيات الحوكمة.
نموذج الحوكمة المقترح
اعتمدنا في اقتراح هذا النموذج على نظرية الاستدلال الأخلاقي كونها توفر إطاراً ملائماً لإظهار أهمية مشاعر الثقة والفخر كآليات للحوكمة داخل المؤسسات، وعلى اعتبار أن اتخاذ القرارات الأخلاقية يكون مدفوعاً بالخصائص الفردية للأفراد، وأن الشخص يمر بثلاثة مستويات من التطور الأخلاقي.
اقرأ أيضاً: صناعات الغانم.. تطور الحوكمة عبر 150 عاماً
المستوى الأول عند بناء نظام حوكمة متكامل:
ويكون عند الأشخاص ذوي المستوى الأخلاقي ما قبل التقليدي، يعمل هؤلاء المدراء لمنفعتهم الشخصية بالدرجة الأولى، ويتجنبون أي إجراء أو نشاط يمكن أن يمس بثرواتهم الشخصية، فمفهوم الخطأ والصواب غير واضح بالنسبة لهم ويكون تركيزهم على تجنب العقوبة، ومفهوم الحوكمة لدى هذه الفئة مرتبط بالالتزام بالتعليمات الرسمية والآليات الرقابية التي تفرضها السلطات، لذلك نجد أنهم يجهدون في بناء هيكل حوكمة في مؤسساتهم يعتمد بشكل أساسي على الضوابط والقوانين واللوائح الرسمية.
المستوى الثاني:
وهم القادة الذين وصلوا إلى المستوى التقليدي من التفكير الأخلاقي، حيث ينشغلون بالحفاظ على مركزهم الاجتماعي والارتباط الفعّال بالآخرين. وهذه الفئة لا تمتلك التحفيز الذاتي وإنما تسترشد باحتياجات الناس في محيطها المباشر مثل المجالات العامة والخاصة. المدراء في هذا المستوى من التطور الأخلاقي يقدّرون المعاملة بالمثل، ويشجعون الارتباط بالآخرين، ولديهم شعور جيد بالانتماء والحاجة إلى حماية العلاقات المجزية للطرفين. لذلك فإنهم يلجؤون إلى بناء أنظمة الحوكمة في مؤسساتهم باستخدام الأدوات التي تعتمد التواصل بين الأشخاص مثل تلك القائمة على الثقة.
المستوى الثالث:
يعمل المدراء الذين وصلوا المستوى المنطقي أو المبدئي في التفكير الأخلاقي وفق مبادئهم الأخلاقية ومعتقداتهم الجوهرية، ويتخذون قراراتهم الأخلاقية على أساس قناعاتهم الشخصية وقيمهم المتأصلة. نظراً لأن التركيز هو الذات، فإن قادة الشركات من هذه الفئة يبنون أجهزة الحوكمة الدقيقة التي تسمح لهم بتنظيم أنفسهم ويعتمدون على آليات المراقبة الذاتية مثل الفخر والكبرياء الأصيلين.
المستوى الرابع:
كما رأينا في المستويات الثلاثة السابقة، كلما ارتفع مستوى التفكير الأخلاقي زادت احتمالية تفعيل القادة لآليات التحكم الذاتي، وتحويل التركيز من الحكم الكلي إلى الحكم الدقيق، وعلى العكس كلما انخفض مستوى المنطق الأخلاقي، زاد الميل إلى السعي وراء المصالح الفردية.
لا ينبغي النظر إلى هذه المستويات على أنها حصرية، ولكن كمجموعات تراكمية من أدوات الحوكمة التي تتطور مع المدير عندما ينتقل على سلم التفكير الأخلاقي. ولا يمكن أن تحل هذه الأدوات محل بعضها البعض فوصول صانعي القرار إلى المستوى المبدئي للحكم الأخلاقي، لا يلغي الحاجة إلى رعاية علاقاتهم الشخصية وطاعة السلطة التنظيمية. وبالتالي فالقائد المبدئي يحتاج سمات السيطرة الرسمية، وتلك القائمة على العلاقات، والتنظيمية الذاتية التي من المرجح أن تكون بمثابة مكملات لتعزيز نظام الحوكمة.
اقرأ أيضاً: هل ثقافة الحوكمة فطريّة أم مكتسبة.. مؤشرات للدول العربية
وفي نهاية الحديث عن بناء نظام حوكمة متكامل بطريقة صحيحة، يمكن للمدراء ومجالس الإدارة الاستفادة من نموذج الحوكمة الذي قمنا باقتراحه في هذا البحث، وخصوصاً لجهة أهمية المزج الواعي بين الأدوات المستخدمة لبناء نموذج الحوكمة داخل المؤسسات، والاستفادة من المستويات المختلفة للنضج الأخلاقي للوصول إلى حوكمة متكاملة ورصينة.
اقرأ أيضاً: هل يختلف الرجال عن النساء في نهج كلٍّ منهما تجاه الحوكمة الأخلاقية للشركات؟