على الصعيد الشخصي، نجد القادة يلاحظون البحوث التجريبية التي توثق قدرة التأمل على تقليل التوتر وخفض ضغط الدم وتحسين التنظيم الانفعالي (العاطفي). وقد تبين أن اليقظة الذهنية، وهي ممارسة يصب فيها المتمرن اهتمامَه بتعمد وتركيز على اللحظة الراهنة، وتعتبر طريقة ناجحة لاستحضار التركيز وإظهار صدق النية لممارسة القيادة. وصف المساهمان في هارفارد بزنس ريفيو دانيال غولمان وبيل جورج اليقظة الذهنية بأنها وسيلة للاستماع بعمق أكبر، وأداة لتوجيه أفعالنا من خلال وجود نية واضحة تديرها، بدلاً من أن تتلاطمها أمواج نزواتنا العاطفية أو أنماط ردود أفعالنا.
وفي عصر تتعرض فيه الشركات الكبرى والمؤسسات العامة لهجوم متزايد لوصفها بالتفكير قصير المدى والرؤية الضحلة وردود الفعل اللامبالية تجاه المحفزات السريعة، يجدر بنا هنا طرح السؤال التالي: هل بإمكان اليقظة الذهنية مساعدة المؤسسات، لا القادة الأفراد فحسب، على التصرف بأسلوب تتحدد فيه الغايات والمقاصد بشكل أكثر وعياً؟ أي، من الناحية العملية، هل يمكن للقيادات التنظيمية دمج ممارسات اليقظة الذهنية في عمليات التخطيط الاستراتيجي؟
اليقظة الذهنية تساعد المؤسسات والأفراد
قبل أكثر من سبعين عاماً، قام الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل بتسليط بعض الضوء على هذا السؤال الذي أصبح يدرس كلاسيكياً الآن. وكتب في عام 1946: "هنالك مساحة بين المثير والاستجابة، وفي تلك المساحة تكمن قوتنا لاختيار استجابتنا. وفي استجابتنا يكمن نمونا وحريتنا".
إن اليقظة الذهنية، وهي ممارسة يراقب فيها المتمرن تنفّسه وينتبه إلى أفكاره وأحاسيسه، وتعتبر في جوهرها ممارسة عملية لإيجاد هذا النوع من المساحة. يتعلق الأمر بإدراك الطريقة التي تعمل بها مختلف المنبهات الداخلية والخارجية التي نتعرض لها على تحفيز استجابات تلقائية وفورية ولا واعية في أفكارنا وعواطفنا وأفعالنا. وكما جادل تيموثي ويلسون، أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة فيرجينيا، مؤكداً أن أدمغتنا ليست مهيئة للتعامل مع أكثر من 11 مليون جزء من المعلومات التي يمكن أن تصل في أي لحظة. ومن أجل تحقيق الكفاءة، نميل إلى اتخاذ قراراتنا الجديدة استناداً إلى أطرنا القديمة أو ذكرياتنا أو تجاربنا. من خلال ممارسة اليقظة الذهنية، يمكن للشخص أن يلاحظ كيف يتفاعل العقل مع الأفكار والأحاسيس والمعلومات، متجاهلاً القصص القديمة والأنماط المعتادة التي توجه السلوك على نحو لا إرادي. يخلق هذا مساحة تمكننا من أن نختار عمداً أسلوب كلامنا وتصرفاتنا.
والمؤسسات، كما الحال لدى الأفراد، تحتاج إلى هذه المساحة.
ذكر ريتشارد روميلت، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA) وهو خبير بارز في التخطيط الاستراتيجي، موضحاً في كتابه الذي يحمل عنوان "استراتيجية جيدة، استراتيجية سيئة" (Good Strategy, Bad Strategy) أن أحد المكونات الأساسية للاستراتيجية الجيدة هو القدرة على اتخاذ خطوة خارج إطار الأسلوب المعتاد والعمل على تغيير وجهات النظر. وذكر أيضاً: "إن إعادة صياغة موقف تنافسي بعد تفحصه بتعمق يمكنه أن يخلق أنماطاً جديدة كلياً من المزايا الإيجابية والسلبية. والاستراتيجيات الأقوى تنشأ من هكذا رؤى ثاقبة مغيرة لقواعد اللعبة".
لصياغة الاستراتيجية بالاعتماد على ما أسماه ريتشارد تشيت، الأستاذ في جامعة هارفارد، وغيره من العلماء بوصفه التفكير المنتِج، أو التفكير الاستراتيجي نجد أنه ليس من الضروري تحديد مجموعة متناسقة من السياسات أو الإجراءات استجابة إلى مشكلة أو فرصة ما فحسب، بل من الضروري أيضاً توضيح المدى الكامل للقيم والافتراضات والعوامل الخارجية التي تؤثر في موقف صناعة القرار. من الضروري أيضاً التراجع خطوة إلى الوراء، والتساؤل ليس فقط حول إذا ما كان الفريق قد تمكن من تحديد الخطط أو الحلول المناسبة فحسب، ولكن أيضاً إذا كان قد حدد الأسئلة والمشكلات ذات الصلة في المقام الأول. كل ذلك يتطلب مساحة بين المثير والاستجابة.
إذاً، كيف يمكن للمؤسسات أن توفر مساحة إضافية من أجل التخطيط الاستراتيجي؟ هل الإجابة ببساطة هي تعيين قادة وأعضاء مجلس إدارة ممن يمارسون التأمل؟
لا ضرر في ذلك. إليكم مثلاً ستيف جوبز الذي كان يمارس التأمل بانتظام، استفاد من ممارسة اليقظة الذهنية في تحدي فرضيات الإدارة في شركة "آبل" وتعزيز الرؤية الإبداعية في التخطيط. وهناك أيضاً راي داليو مؤسس شركة "بريدج ووتر أسوشيتس" (Bridgewater Associates) الذي استخدم كذلك اليقظة الذهنية ليس بوصفها أداة لزيادة الإنتاجية فحسب، ولكن لتعزيز الوعي تجاه المواقف المختلفة بالنسبة له كخبير استراتيجي.
لكن يمكن أيضاً إدراج اليقظة الذهنية مباشرة أثناء خوض جلسات التخطيط.
طرق إدراج ممارسة اليقظة الذهنية في معتكف التخطيط الاستراتيجي
لقد سنحت الفرصة لأحدنا مؤخراً لاختبار مفهوم الاستراتيجية الواعية مع مجموعة من مدراء الإدارة الوسطى وكبار المسؤولين التنفيذيين في منطقة خليج سان فرانسيسكو من قطاعات تنوعت بين القانونية والإعلانية والمالية وغير الربحية. منحتنا هذه التجربة فهماً عملياً أوضح للنجاح الذي يتحقق عند إدراج ممارسة اليقظة الذهنية في معتكف التخطيط الاستراتيجي.
1- خصص لحظات لليقظة الذهنية: أحد السبل البسيطة التي يمكن انتهاجها هي دمج أنشطة اليقظة الذهنية مباشرة في الاجتماعات والمعتكفات. فمن خلال إجراء عمليات التخطيط بطريقة يتخللها أوقات مستقطعة عمداً يقوم فيها الحضور بالتركيز على تنفسهم وإدراك المشتتات غير الضرورية، يتمكن المنظمون من تهيئة الظروف الملائمة لرفع سوية الحدس والفطنة لدى المجتمعين. وكما كتب راسموس هوغارد وجاكلين كارتر في موقع هارفارد بزنس ريفيو في شهر آذار/مارس من العام 2016، أنه من الممكن دمج ممارسات بسيطة للتركيز والوعي طوال يوم العمل. وبالمثل، طوّر تشيد مينغ تان في جوجل العشرات من وحدات التأمل في مكان العمل التي يمكن أن تلائم تماماً معتكفات التخطيط.
2- استكشف سيناريوهات بديلة: يمكن أيضاً إضافة إحدى ممارسات اليقظة الذهنية دون الحاجة لإجراء التأمل على الإطلاق. ارسم مساراً تجري ضمنه تمارين التخطيط، ضع مثلاً صانعي القرار أمام مجموعة وافرة من "أحداث المستقبل" البديلة والمعقولة التي تتحدى بطبيعتها الافتراضات القائمة والعقلية السائدة. قامت شركات كبرى مثل "شل" (Shell)، وبعض الحكومات مثل حكومة سنغافورة باستخدام ممارسات كهذه، أولاً وقبل كل شيء لأنها ذات قيمة استكشافية، وحققت نجاحاً ملحوظاً على مدى عقود. إن ممارسة عملية التقييم لاحتمالات مستقبلية مختلفة ومنطقية دون إطلاق أحكام مسبقة يشبه إلى حد كبير عملية التأمل، وتعتبر طريقة عملية لتسليط الضوء على أنماط فكرية قديمة غير متفحصة، كما يفسح المجال أمام بزوغ أفكار جديدة.
3- تصوَّر النتائج الإيجابية: كما ذكر دانييل غولمان: الإيجابية جزء لا يتجزأ من الاهتمام المركز. وكتب: "يحدُّ التشاؤم من تركيزنا، في حين أن المشاعر الإيجابية تزيد من اهتمامنا وتقبّلنا لما هو جديد وغير متوقع". يمكن للقيادات التنظيمية الاستفادة من تخيل "الأوضاع النهائية" للمؤسسة خلال جلسات التخطيط الاستراتيجي. يمكن أن يتم ذلك ببساطة عبر طرح صيغة مختلفة للسؤال الذي اقترحه غولمان: "إذا كان كل شيء يجري على ما يرام في مؤسستنا، فما الذي علينا فعله في غضون عشر سنوات؟" ثم خذ وقتك للنظر في الأمر.
يمكن لممارسات اليقظة الذهنية هذه مساعدة القادة والمؤسسات على تحديد الأفكار والتطلعات الضرورية لنجاح المؤسسة والافتراضات التي يمكن أن تحد من نمو المؤسسات. تكمن الفائدة من هذه الممارسات ليس في تحقيق الاستنارة والوعي فحسب، بل أيضاً في إضفاء معنى على هذا العالم المتغير.