ملخص: ثمة اعتقاد شائع أنك لا تستطيع التعبير عن شغفك إلا عبر سلوكيات اجتماعية صاخبة، لكن هذا الاعتقاد غير صحيح. خلصت دراسة حديثة لمؤلفي هذه المقالة إلى أن الموظفين المنفتحين اجتماعياً يعتبرون أكثر حماسة من نظرائهم الانطوائيين، بغض النظر عن مستوى حماستهم الحقيقية. ويؤدي ذلك الاعتقاد إلى خلق تفاوتات كبيرة في مكان العمل، إذ أظهرت الدراسات أن الموظفين الذين يُعتبرون أكثر حماسة يحصلون على تقدير أكبر من مدرائهم، ويُنظر إليهم على أنهم ذوو مكانة أفضل وإمكانيات أعلى، ويرتفع احتمال تلقيهم للموارد المالية والأشكال الأخرى من الدعم. يناقش المؤلفون أسباب هذا الاعتقاد (الخاطئ غالباً) حول حماسة الموظفين، ويقدمون استراتيجيات للمدراء والموظفين لضمان تمييز الحماسة الحقيقية وتقديرها بعيداً عن السلوك الاجتماعي النشط.
لنتخيل الموقف الآتي، تطلب من اثنين من مرؤوسيك المباشرين تولي مشروعين مهمين لفريقك، منتظراً منهما أن يبديا حماستهما للفرصة، فيُظهر أحدهما حماسة واضحة، وتملؤه الحيوية والنشاط في أثناء مناقشة أفكاره وتراه يتحدث مع زملائه عن المهمة في استراحة الغداء. أما الآخر فيبدي حماسة أقل من زميله ويبقى هادئاً ويحتفظ بأفكاره لنفسه. فمن برأيك أكثر حماسة لمهمته؟
ليس غريباً أن تختار الموظف الأول. من الشائع أن نعتقد أن تصرفات الناس البادية للعيان تتوافق مع مشاعرهم الداخلية، ولكن هذا الاعتقاد ليس صحيحاً دائماً كما تشير أبحاثنا الأخيرة.
على العكس تماماً، اكتشفنا أن الموظفين المنفتحين (أي الأكثر نشاطاً في التفاعلات الاجتماعية) يُعتبرون أكثر حماسة من الموظفين الانطوائيين (الذين يزداد نشاطهم في العزلة) بغض النظر عن مستوى حماستهم الحقيقي. كما يمكن أن يؤدي ذلك الاعتقاد إلى خلق تفاوتات كبيرة في مكان العمل، إذ أظهرت الدراسات أن الموظفين الذين يُعتبرون أكثر حماسة يحصلون على تقدير أكبر من مدرائهم، ويُنظر إليهم على أنهم ذوو مكانة أفضل وإمكانيات أعلى، ويرتفع احتمال تلقيهم للموارد المالية والأشكال الأخرى من الدعم.
إذاً، ما أسباب هذا الاعتقاد (الخاطئ غالباً) حول حماسة الموظفين؟ وماذا بوسع المدراء والموظفين فعله لضمان تمييز الحماسة الحقيقية وتقديرها بعيداً عن ملاحظة السلوك الاجتماعي النشط؟
فهم التصورات عن الحماسة في العمل
للبحث في هذه التساؤلات، أجرينا سلسلة من الدراسات على أكثر من 1,800 موظف بالغ في الولايات المتحدة. في دراستنا الأولى، شكلنا 165 فريقاً ثنائياً يضم موظفاً ومديراً، وطلبنا من كل فرد تقييم مستوى حماسة شريكه والإبلاغ ذاتياً عن مستوى حماسته، كما استخدمنا تقييماً قياسياً للشخصية بهدف تقييم درجة الانفتاح أو الانطوائية لدى المشاركين. وجدنا أن المدراء صنفوا الموظفين الأكثر انفتاحاً على أنهم أكثر حماسة من الموظفين الأكثر انطواءً، بغض النظر عن مستوى حماسة الموظفين الحقيقي.
أحد الأسباب التي تفسر ذلك هو أن الموظفين الأكثر انفتاحاً أبدوا كثيراً من السلوكيات المرتبطة عموماً بالحماسة، مثل حركة الجسد النشطة والتحدث بنبرة متحمسة وحيوية. يتفق ذلك تماماً مع ما أظهرته الأبحاث السابقة، التي تشير إلى أن الأفراد المنفتحين يظهرون حالاتهم العاطفية الداخلية بطريقة تثير انتباه الآخرين. على سبيل المثال، عندما يشعر شخص منفتح بالفرح، يضحك بصوت عالٍ، في المقابل يعبّر الشخص الانطوائي عن العاطفة نفسها بابتسامة هادئة؛ مثلما تتوافق الصورة التقليدية للإنسان السعيد مع المنفتح أكثر من الانطوائي، تتوافق الصورة التقليدية للإنسان المتحمس مع المنفتح بدرجة أكبر.
على سبيل المثال، إذا حاولت تصور شخص متحمس، فقد تتذكر توم كروز وهو يقفز على أريكة أوبرا وينفري ليعبر عن حبه لكاتي هولمز، أو خطابات ونستون تشرشل المفعمة بالقوة والحماسة، أو خطابات ألكساندريا أوكاسيو كورتيز الحماسية الناريّة في الكونغرس الأميركي. على الرغم من أن الحماسة -تلك النار المتأججة داخل النفس- عاطفة داخلية أساساً، فأبحاثنا كشفت أن درجة انفتاح الموظفين تُؤثر في طريقة التعبير عن هذه العاطفة، وبالتالي على نظرة الآخرين إليهم.
بالإضافة إلى ذلك، وجدنا أن تصورات المدراء عن درجة حماسة الموظفين لها تبعات حقيقية وملموسة، إذ يظهر المدراء تقديراً أعلى لإمكانات الموظفين المنفتحين بسبب تعبيرهم الأكثر حيوية عن حماستهم، ما ثبت ارتباطه بتفضيلهم على غيرهم في المعاملة وزيادة فرصهم في الترقية والزيادة في الرواتب وغيرها من المزايا.
بالتأكيد يشعر الانطوائيون بالحماسة بالقدر نفسه، لكنهم يعبّرون عنها بطرق مختلفة. في دراساتنا اللاحقة، استطلعنا آراء أكثر من 1,300 موظف بدوام كامل حول طرقهم الاعتيادية للتعبير عن حماستهم للآخرين، وأجابوا بمجموعة واسعة من السلوكيات. وفي حين أشار البعض إلى سلوكيات تعبيرية تُنسب عادةً إلى المنفتحين، مثل التحدث بصوت عالٍ أو تفاعل اجتماعي أكبر، وصف الكثيرون سلوكيات أقل وضوحاً مثل تعزيز جودة الأداء وقضاء المزيد من الوقت في العمل والانغماس فيه والتركيز عليه بدرجة أكبر. على سبيل المثال، وصف أحد الموظفين كيف تجلت حماسته في سلوكه عبر كلامه الحماسي وحركات يديه المجنونة وضحكاته، وأخبرنا آخر أنه في لحظة حماسة خاصة لم يتحدث أو يمزح مع زملائه بشأن أمور أخرى، بل دفعته حماسته إلى التركيز على المهمة التي كانت بين يديه.
قد يتبادر إلى الذهن أشخاص مثل توم كروز وونستون تشرشل عندما نتخيل التعبير عن الحماسة، لكن ثمة العديد من الأمثلة على التعبير الأقل حيوية (لكن لها الأثر نفسه). فمثلاً أظهرت روزا باركس شجاعة استثنائية في كفاحها لتحقيق العدالة الاجتماعية على الرغم من أنها توصف غالباً بأنها خجولة وقليلة الكلام. ولاعب كرة السلة الشهير ستيفن كاري، الذي تُحفز "حماسته الهادئة" نجاحه، أو المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ الذي عاش حماسته في عزلة وقال: "بدلاً من تكوين الصداقات، كنت أعود إلى منزلي وأكتب نصوصي وأُخرج أفلامي"؛ ورجل الأعمال الشهير وارن بافيت المعروف بانطوائيته، كلهم يحملون حماسة هادئة.
نظراً لمعرفة الناس بالكثير من الانطوائيين المفعمين بالحماسة (بالإضافة إلى الكم الهائل من الأبحاث التي تُظهر أن الموظفين الأكثر حماسة يعملون ساعات أطول وبجدية أكبر ويهتمون أكثر بجودة عملهم، بغض النظر عن الطريقة التي يُعبرون بها عن حماستهم، سواء بطريقة انطوائية نمطية أو اجتماعية نشطة)، لماذا يُصرّ العديد منا على افتراض أن سلوكيات المنفتحين اجتماعياً هي الدليل الوحيد على الحماسة؟
ألقت دراستنا الأخيرة بعض الضوء على ذلك، إذ طلبنا من 200 موظف آخرين بدوام كامل اخترناهم من مجموعة واسعة من القطاعات إخبارنا عن طرق تعبيرهم عن حماستهم كل يوم مدة 10 أيام، ووجدنا أن المنفتحين لم يعبروا عن حماستهم عبر سلوكيات يمكن للآخرين ملاحظتها فحسب، بل عبر مجموعة متنوعة من السلوكيات المختلفة وبوتيرة عالية. بعبارة أخرى، كان المنفتحون أقدر على التعبير عن الحماسة التي تعمل بداخلهم للآخرين، ما جعل سلوكياتهم التي تعبّر عن الحماسة أوضح للعيان من سلوكيات الانطوائيين المتحمسين بالدرجة نفسها (الأمر الذي يرفع احتمالات نيل المنفتحين التقدير).
إدارة الانطوائيين المتحمسين
في ضوء هذه النتائج، بات من الواضح أن المدراء قد يخطئون في تفسير الانفتاح على أنه حماسة، لأن تعبير المنفتحين عن الحماسة أوضح بكثير من تعبير الانطوائيين عنه. لكن من الضروري أن يتخذ المدراء خطوات استباقية لمعالجة هذا التحيز ومنعه من الإضرار بموظفيهم الانطوائيين. وتحديداً، يجب على المدراء اتخاذ الخطوات العملية الآتية:
1. معرفة كيف يعبّر موظفوك عن حماستهم
أولاً، يجب على المدراء التواصل بصراحة مع موظفيهم، ودعوتهم للحديث عن الطريقة التي يفضلونها للتعبير عن حماستهم. لا تفترض أن أفراد فريقك يعبرون عن حماستهم بالطريقة نفسها، بل خذ الوقت الكافي للتعرف على السلوكيات وطرق التعبير الطبيعية لكل منهم.
ومن المهم تجنب إطلاق الأحكام في تلك المحادثات، فقد يبدو أسلوب موظفيك غريباً بالنسبة إليك، لكنك مديرهم ومهمتك فهم طرق تعبيرهم عن أنفسهم وعن حماستهم بغض النظر عن توافقها مع توقعاتك النمطية.
2. التعاون للتعرف على طرق جديدة للتعبير عن الحماسة
بعد بذل الجهد اللازم لمعرفة طرق تعبير أفراد فريقك عن حماستهم، تعاون معهم لتصحيح أي سوء فهم لديك بشأنها؛ خذ مثلاً موظفاً يُفصح لك أنه لا يحب التعبير عن حماسته بطريقة صاخبة علنية، فلعلّه يستطيع إظهار التزامه وتفانيه من خلال وسائل تواصل بديلة، مثل التقارير المكتوبة أو المناقشات الفردية.
كما بوسعك التعاون مع أفراد فريقك لتحديد أساليب العمل التي من شأنها أن تُهيّئ سبل النجاح لك ولهم. ففي حال كان لديك موظف انطوائي، يمكنك تقليل عدد الاجتماعات أو المحادثات غير المخطط لها، لكي تُتيح له العمل فترات زمنية طويلة بتركيز واستقلالية ودون انقطاع. ويجب على المدير ألا يملي على موظفيه مواصفات الموظف المتحمس في نظره، بل أن يتعاون معهم للعثور على طرق التعبير التي تناسب كل فرد منهم.
3. تقدير الأداء الحماسي لا مظاهر الحماسة
بعد معرفة الطرق التي يعبّر بها فريقك عن حماسته، عليك تقدير الحماسة الحقيقية وليس الوقوع ضحية للافتراض المتحيز بأن السلوكيات المنفتحة هي الطريقة الوحيدة لإظهار الحماسة. يجب على المدراء تقدير عمل الموظفين بناءً على معايير الأداء المستندة إلى الجدارة، سواء كان الأمر يتعلق بتقييمات الأداء أو توزيع المهام المرغوبة أو الترقيات أو الزيادات أو المكافآت.
ولذلك أهمية كبيرة لأن تشجيع مظاهر الحماسة لا يعطي الأفضلية للمنفتحين فحسب، ففي بعض الحالات تسبب السلوكيات التي تبدو وكأنها تعبّر عن الحماسة ضارة بالموظفين ومؤسساتهم. على سبيل المثال، اعتبر العديد من الموظفين في دراساتنا أن العمل ساعات طويلة وبذل جهود استثنائية يعدان من مؤشرات الحماسة، في حين أظهرت أبحاثنا السابقة أن هذه السلوكيات تؤدي إلى الاحتراق الوظيفي والإرهاق. لذلك من المهم أن يتجنب المدراء دفع موظفيهم نحو هذه الممارسات التي تؤدي إلى نتائج عكسية، وأن يقدّروا السلوك الذي يعبر عن الحماسة الحقيقية التي تعزز الأداء.
تعبير الانطوائيين عن الحماسة
من المحتمل أن يخفق المدراء في التغلب تماماً على افتراضاتهم اللاواعية حول السلوكيات التي تشير إلى الحماسة، كما هي الحال في العديد من التحيزات. فما الذي يمكن أن يفعله الموظفون الانطوائيون للتكيف والنجاح على الرغم من ذلك التحيز المتجذر في اللاوعي؟
تشير أبحاثنا إلى أن الانطوائيين يمكنهم اتخاذ خطوات عملية لجَسر الفجوة بين شعورهم الداخلي بالحماسة وطرق التعبير عنها المعروفة من خلال النشاط الاجتماعي. إذ يمكن للانطوائيين إظهار حماستهم للآخرين من خلال تعمد تبني السلوكيات المنفتحة البعيدة عن طبيعتهم، مثل التحدث أكثر في الاجتماعات أو اتباع أسلوب تواصل أكثر نشاطاً. على سبيل المثال، أشار ستيفن سبيلبرغ إلى أنه يبذل قصارى جهده لبناء صورة عامة تعكس أنه ليس خجولاً.
وفي الوقت نفسه، قد يكون لهذا النوع من التحكم بالتعبير ضريبته، إذ أظهرت الأبحاث أن مشاركة الأفراد الأكثر انطوائية في أنشطة منفتحة يرهقهم عاطفياً، ما يضر بأدائهم ورفاههم على المدى الطويل. كما أشار تحليلنا إلى أن التعبير الظاهري عن الحماسة على نحو مكثف مرهق عاطفياً، وبالتالي يحتاج الموظفون الانطوائيون إلى موازنة كلفة هذا الأسلوب وفوائده بعناية، والتعبير المنفتح عن الحماسة فقط عندما يمتلكون الطاقة الكافية لذلك.
وُصِف أحد أفضل اللاعبين على الإطلاق في الرابطة الوطنية لكرة السلة، تيم دنكن، بأنه "شخص انطوائي منعزل" و"لا يحب إظهار حماسته للعالم". لكن حماسته للعب كرة السلة والفوز لا تحتاج إلى دليل، فقد فاز فريقه في بطولة الرابطة الوطنية لكرة السلة خمس مرات، واختير أحد أفضل اللاعبين في الدوري 15 مرة. ومع ذلك، فقد وصفه المعلقون الرياضيون بأنه "النجم الأقل تقديراً في تاريخ الرابطة الوطنية لكرة السلة".
ثمة اعتقاد شائع أنك لا تستطيع التعبير عن شغفك إلا عبر سلوكيات اجتماعية صاخبة، لكن هذا الاعتقاد غير صحيح. إذ تشير نتائج أبحاثنا إلى العكس، فالانطوائية والحماسة بعيدتان كل البعد عن التناقض. من المهم أن ندرك أن الحماسة ليس لها مظاهر جلية دائماً، وأن ذلك لا يعني أنها لا تشتعل في نفس صاحبها.