ملخص: تشكّل المصداقية عنصراً مهماً في العمل، ولكن قد يكون تعريفها على وجه الدقة والحفاظ عليها صعباً في بعض الأحيان. بالإضافة إلى ذلك، ماذا لو كانت المشاعر الحقيقية التي تحس بها تتعارض مع الرسالة التي تحاول نقلها إلى الزملاء أو الموظفين؟ ومتى يكون من المفيد أن تتحرّى المصداقية، ومتى يكون من الأفضل أن تتبنى استراتيجية عدم المصداقية في الواقع؟ تم إجراء بحث حول رأي الناس في المصداقية عند التواصل من خلال المحادثات الشخصية والبريد الإلكتروني والهاتف، وسلَّط هذا البحث بعض الضوء على كيفية التعامل مع هذه المشكلة، لا سيما في خضم العمل الهجين. وتوصلت نتائج البحث إلى إجابة مفادها باختصار أنك إذا أردت تحري المصداقية في التواصل مع أحدهم، فحاول التحدث معه شخصياً. وإذا كنت بحاجة إلى كبح مشاعرك، ففكر في استخدام الهاتف أو أيٍّ من وسائل التواصل الصوتية الأخرى. وإذا كنت بحاجة إلى استخدام البريد الإلكتروني، فاحرص على أن توضّح للطرف الآخر أنك اخترت هذه الطريقة لأن الطرق الأخرى غير متاحة في الوقت الحالي.
تعتبر كلمة "المصداقية" من أكثر الكلمات الطنّانة شيوعاً في مجال القيادة بين المسؤولين التنفيذيين والأكاديميين. فقد شدّدت رئيسة العمليات في شركة "ميتا"، شيريل ساندبيرغ، على أنه "ينبغي للقادة السعي لتحري المصداقية أكثر من سعيهم لتحقيق الكمال"، في حين أشار هوارد شولتز، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "ستاربكس"، إلى أن "الشركات التي تحافظ على وجودها في السوق هي تلك التي تحرص على المصداقية". وأكدت الدراسات البحثية في الواقع أهمية المصداقية أيضاً كعنصر رئيسي يؤثر في نتائج العمل بالنسبة للجميع، بدايةً من العاملين في الخطوط الأمامية وانتهاءً بالقادة. كما ثبت أيضاً أن المؤسسة التي يُنظر إليها باعتبارها مؤسسة تفتقر إلى المصداقية لا تجني سوى تدمير ثقة الآخرين فيها وإفساد علاقاتها معهم وخسارة ولاء عملائها وتدني مستوى تقييمات أدائها وتقليل أرباحها.
لكن، وعلى الرغم من أهمية المصداقية، فقد يكون من الصعب اكتسابها والحفاظ عليها. ولك أن تنظر مثلاً إلى التواصل، ففي حين يُنظر إلى المصداقية باعتبارها أمراً مثالياً، فإن التصرف بمصداقية دائماً قد يؤدي إلى وقوع كوارث محققة. تخيّل مديرة تُنهي إجراءات تسريح أحد الموظفين، وفي هذه الأثناء تعبر عن سعادتها الدفينة لأن خطيبها عرض عليها صباح هذا اليوم الزواج رسمياً. أو تخيّل مسؤولاً تنفيذياً يرسل رسالة حول مبادرة جديدة للتنوع في الشركة، ولكنه يكتب كلماتها بلهجة تشي بالحزن لأن ابنه قرر ترك دراسته الجامعية للتو.
قد يكون التخلي عن المصداقية في هذه الحالات من خلال إخفاء المشاعر الحقيقية الدفينة ذا دافع اجتماعي نبيل يهدف إلى مراعاة مشاعر الآخرين، مع إدراك أن المصداقية الحقيقية قد لا تكون مناسبة للسياق. قد يؤدي هذا إلى الوقوع في مأزق حقيقي، لأن القادة غالباً ما يضطرون إلى الاختيار بين أمرين: أ) إما إظهار مشاعر قد لا يشعرون بها في الحقيقة، بسبب الواجبات التي تمليها عليهم وظائفهم أو كوسيلة لمراعاة مشاعر الآخرين، ومن ثم المخاطرة بالتعرُّض للعقاب عند اكتشاف أنهم كانوا يخفون مشاعرهم الحقيقية، أو ب) إظهار مشاعرهم الحقيقية والمخاطرة بالتعرُّض للعقاب لإظهارهم مشاعر غير لائقة. فكيف يمكن للقادة التعامل مع هذا الموقف الصعب، لا سيما في بيئة العمل الهجينة؟
عندما يتسبب تضارب المشاعر في صعوبة تحري المصداقية
بغض النظر عن دوافع الفرد، من المهم أولاً إدراك أنه على الرغم من جهوده المضنية في إخفائها، فغالباً ما تنكشف المشاعر الحقيقية الدفينة، ما يؤدي إلى تضارب المشاعر بطريقة قد تجعلها تبدو فاقدة للمصداقية. وهناك 3 أسباب رئيسية وراء هذه الظاهرة:
1) تضارب المواقف
قد يكون من الصعب في كثير من المواقف إظهار المشاعر المطلوبة بسبب التحديات الماثلة أو تضارب العوامل المرتبطة مباشرة بالموقف. على سبيل المثال: حتى إذا كانت واجبات الوظيفة تملي على الفرد إظهار مشاعر معينة، فقد يكون من المستحيل تقريباً أن "ترسم ابتسامة صادقة على شفتيك" إذا كان العميل يصرخ في وجهك، أو أن تُظهر دعمك العاطفي لأحد مرؤوسيك الذي تسبب سوء مستوى أدائه مؤخراً في إرهاقك وإضافة المزيد من أعباء العمل على كاهلك.
2) تأثير التداعيات غير المباشرة
حتى إذا لم تكن هناك تحديات شعورية ترتبط بالموقف نفسه، فغالباً ما تتأثر المشاعر في موقف معين بما حدث في موقف آخر. إذ لا تختفي المشاعر السيئة المتولّدة عن موقف سابق تلقائياً بمجرد تعرُّضك لموقف آخر. ونتيجة لذلك، قد تستمر المشاعر في سياقات لم تعد مناسبة لها. على سبيل المثال: قد يرغب مدير في التعبير عن حماسته بشأن استغلال فرصة عمل مرتقبة، لكنه قد يشعر بالتوتر لسبب غير ذي صلة بالموضوع (كشعوره بالضيق، مثلاً، خلال مشواره في الطريق إلى مقر الشركة).
3) صعوبات قنوات التواصل
حتى إذا كانت مشاعر الفرد صادقة تماماً، فإن وسائل التواصل التكنولوجية تتسبب الآن في ظهور بعض المعوِّقات التي قد تحول دون النظر إلى هذه المشاعر باعتبارها مشاعر صادقة. ونظراً للتغيُّرات التي طرأت على حيز العمل في الآونة الأخيرة بسبب الظروف المصاحبة لتفشي جائحة كورونا، فإن الكثير من تفاعلات العمل تتم الآن عن بُعد. ومع ذلك فقد أثبتت الأبحاث أن التواصل الافتراضي قد يدمر القدرة على إظهار المشاعر الحقيقية.
فكيف تتجنب الظهور بمظهر الشخص الفاقد للمصداقية في هذه المواقف؟ توصلت الأبحاث السابقة إلى نتيجة واضحة: يكمن الحل المثالي في محاولة الانتباه لمشاعرك الحالية وتلك التي يتطلبها الموقف، ثم محاولة إيجاد طريقة لتغيير مشاعرك الدفينة بطريقة تتناسب مع الموقف بشكل صادق. لكن لو كانت السيطرة على المشاعر بهذه السهولة، لتحوّل معظم المعالجين النفسيين إلى عاطلين عن العمل.
كيفية اختيار طريقة للتواصل تسهم في زيادة المصداقية
نشرتُ مؤخراً ورقة بحثية في مجلة "علم النفس التطبيقي"، حاولت من خلالها استكشاف ما إذا كان من الممكن تحويل التواصل الافتراضي باعتباره أحد العوائق المحتملة أمام المصداقية الشعورية إلى أداة يمكن الاستفادة منها بشكل إيجابي لمعالجة هذه المشكلة. ونظراً لأن الكثير من التفاعلات في مكان العمل يتم عن بُعد في الآونة الحالية، فغالباً ما تتاح أمام الفرد إمكانية اختيار طريقة التواصل التي يفضِّل استخدامها، بدايةً من البريد الإلكتروني وانتهاءً بمؤتمرات الفيديو المباشرة وجهاً لوجه. وإذا كان من الممكن أن تؤدي بعض طرق التواصل إلى سوء تفسير المشاعر أو غموضها، فهل يمكن استخدامها بشكل استراتيجي لجعل المشاعر الزائفة تبدو أكثر مصداقية؟ بعبارة أخرى، ما هي أفضل وسيلة تواصل تتيح للفرد الظهور بمظهر شخص صادق المشاعر، حتى إذا كان التواصل نفسه يفتقر إلى المصداقية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، سعيتُ أولاً إلى فهم حدس الإنسان حول أفضل وسائل التواصل. وأجريتُ استقصاءً تجريبياً بمشاركة 234 متخصصاً في الشؤون المالية في الفرع الأسترالي لإحدى كبرى شركات المحاسبة في العالم، حيث أعطيتهم سيناريوهات مختلفة تتضمن الحاجة إلى التواصل بطريقة تعكس مشاعرهم الحقيقية أو غير الحقيقية، وذلك لمعرفة وسائل التواصل التي سيختارونها. بالإضافة إلى ذلك، فقد سألتهم عن تصوراتهم لمختلف وسائل التواصل. ووجدت أنهم كانوا يميلون إلى اختيار وسائل تواصل أكثر ثراءً (مثل الهاتف أو التواصل المباشر وجهاً لوجه) في المواقف التي كانوا يعكسون فيها مشاعرهم الحقيقية. لكن عندما كان الموقف يستلزم الحاجة إلى توصيل مشاعر غير حقيقية، كان هناك تحوّل كبير، فقد اختار المشاركون البريد الإلكتروني لأنهم رأوا أنه أفضل طريقة لإخفاء المشاعر الدفينة.
وفيما يخص مشروعي الرئيسي، فقد أجريتُ بعد ذلك 3 دراسات على 1,029 فرداً لتجاوز مسألة الحدس والتعرّف على أفضل الوسائل المتاحة فعلياً لإظهار المصداقية الشعورية. تضمنت هذه الدراسات مجموعة من العاملين الأميركيين الذين يشغلون مناصب مختلفة ويتجاوبون مع الغضب الزائف من الطرف الآخر في المفاوضات، ومدراء يتجاوبون مع مشاعر السعادة الزائفة المحتملة من أحد مرؤوسيهم، وأولياء أمور من مجموعة من المدارس الدولية الخاصة في فيتنام يقيّمون المصداقية العاطفية لمعلمي أطفالهم. وتناولت الدراسات كيفية إظهار المشاعر من خلال التواصل الشخصي أو عبر الفيديو أو الهاتف أو البريد الإلكتروني، وأثرها في تغيُّر تصورات الطرف الآخر حول مصداقية المسؤول عن التواصل.
وكان أول ما توصلت إليه هو أن مسؤولي الشؤون المالية المشاركين في دراستي التجريبية كانوا محقين، جزئياً: عندما تكون المشاعر حقيقية، فيفضَّل استخدام أكثر وسائل التواصل المتاحة ثراءً، مثل التواصل المباشر وجهاً لوجه أو عبر الفيديو. وعلى الرغم من ذلك، فعند الحاجة إلى التواصل بطريقة تعكس مشاعر غير حقيقية، كان هناك اختلاف مفاجئ. إذ لم يكن التواصل عبر البريد الإلكتروني هو الخيار الأفضل، ولكن التواصل المباشر وجهاً لوجه لم يكن أفضل خيار متاح أيضاً. وقد اتضح على مدار الكثير من التفاعلات أن التواصل من خلال أدوات التواصل "متوسطة الثراء"، مثل الهاتف أو أجهزة الاتصال الصوتية، يؤدي على الأرجح إلى جعل المشاعر غير الصادقة تبدو الأكثر مصداقية.
وعلى الرغم من أن البريد الإلكتروني في الواقع يخفي ظهور المشاعر الدفينة والإشارات الموحية بعدم المصداقية بشكل أفضل من أي وسيلة أخرى، فإنه استخدامها كانت له آثار سلبية. وفي المواقف التي يتمتع فيها الطرف الأول بالقدرة على اختيار وسيط التواصل، بغض النظر عما إذا كانت مشاعره الدفينة التي يعكسها صادقة أو لا، كان الطرف الثاني ينظر إلى المشاعر التي يتم توصيلها عبر البريد الإلكتروني على أنها غير صادقة للغاية. ونظراً لسهولة "تزييف" المشاعر في البريد الإلكتروني (على سبيل المثال: تعد كتابة رمز تعبيري أسهل بكثير من رسم ابتسام حقيقي على وجهك)، ولأن البريد الإلكتروني كان يُنظر إليه باعتباره استسهالاً في الاختيار، كان المتلقون يشككون في مصداقية الطرف الأول الذي اختار البريد الإلكتروني للتعبير عن مشاعره. فقد افترض المتلقون ببساطة أن اختيار الطرف الأول للبريد الإلكتروني يعني أن مشاعره التي يحاول إظهارها كانت أقل مصداقية.
نتيجة لهذه الآثار السلبية للبريد الإلكتروني، انتهى الأمر بجعل التواصل عبر الهاتف وأجهزة الاتصال الصوتية الأسلوب المثالي لجعل المشاعر الزائفة تبدو أكثر مصداقية. ويرجع هذا إلى أن الاتصال الهاتفي يستبعد إشارات عدم المصداقية الدفينة أكثر بكثير من التفاعلات المباشرة وجهاً لوجه (حيث يتم التخلص من كافة السلوكات المادية غير اللفظية)، وعلى الرغم من ذلك لا يُنظر إلى الهاتف باعتباره وسيلة تفتقر إلى المصداقية، بخلاف البريد الإلكتروني.
خلاصة القول، إليك 3 نصائح رئيسية يمكنك استخدامها في حياتك العملية:
- إذا كنت تتواصل بطريقة تعكس مشاعرك الحقيقية، فحاول استخدام أكثر وسائل التواصل المتاحة ثراءً (مثل وسائل التواصل المباشرة وجهاً لوجه أو مؤتمرات الفيديو).
- إذا كنت تتواصل بطريقة تعكس مشاعرك غير الحقيقية (كأن تحتاج مثلاً إلى كبح مشاعر غير مناسبة للموقف)، فقد يكون من الأفضل في أغلب الأحيان أن تستخدم الاتصالات الهاتفية أو الصوتية لكي تبدو أكثر مصداقية.
- إذا كان عليك استخدام البريد الإلكتروني لنقل مشاعر تريد أن يُنظر إليها على أنها مشاعر صادقة، فابحث عن طريقة لتوضيح أنك لم تتعمّد اختيار وسيلة التواصل، أو أن اختيار هذه الوسيلة كان لسبب وجيه، وذلك للمساعدة على تقليل احتمالات اتهامك بالاستسهال والكسل. حيث تشير النتائج التي توصلت إليها دراساتي إلى أن استخدام البريد الإلكتروني ليس هو ما يجعل المشاعر تبدو غير صادقة في حد ذاته، بل آثاره السلبية القائمة على اعتقاد المتلقي أنك اخترت استخدام البريد الإلكتروني. على سبيل المثال: إذا كنت تهنئ شخصاً ما بمناسبة حصوله على ترقية كبيرة، فيمكنك إخباره بأنك لم تستطع الانتظار للاحتفال بترقيته شخصياً، ولكنك أردت تهنئته في اللحظة التي سمعت فيها بخبر الترقية.
وثمة قضية أخرى يتناولها هذا البحث بالنسبة للمدراء، وهي أنك إذا كنت ترغب في تقليل إجهاد الاجتماعات الافتراضية لدى موظفيك، ففكر جدياً في السماح لهم بوقف تشغيل كاميرات الويب على أجهزتهم. فقد يكون الوجود أمام الكاميرا مُتعِباً ومرهقاً للموظفين، وذلك لأنهم سيحاولون إخفاء التوتر الذي قد يشعرون به بسبب الجائحة والعزلة وغيرهما من الأسباب ذات الصلة. ويتيح وقف تشغيل كاميرات الويب للأفراد تقليل مشاعر القلق التي قد تعتريهم، ويسمح لهم بدلاً من ذلك بالتركيز ببساطة على المهمة الأساسية التي بين أيديهم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا البحث قد توصّل إلى نتيجة مهمة: غالباً ما تعكس وسائل التواصل مشاعرنا بطريقة تفوق إدراكنا، سواء كان ذلك بسبب تسرب الإشارات الموحية بحقيقة مشاعرنا أو بسبب تقييم المتلقين لنا استناداً إلى اختيارنا لوسيلة التواصل. ونظراً لتزايد التفاعل في مكان العمل من خلال وسائل التواصل الافتراضية، فقد بات من المهم أكثر من أي وقت مضى أن تدرك أثر اختيارنا لوسائل التواصل وعواقبه المحتملة غير المقصودة.