لدى إدارة الرئيس ترامب فرصة للبدء في التعاون مع 164 دولة أخرى لوضع "قوانين الطريق" بغية الحيلولة دون إمداد الصين للشركات الوطنية الكبرى بالتمويل الحكومي. فهذه المؤسسات المملوكة للدولة أو الصناعات المدعومة من الدولة - ومثال عليها صناعات الصلب والألمنيوم وألواح الطاقة الشمسية - أغرقت الأسواق العالمية وخفضت الأسعار وأدت حرفياً إلى إفلاس المئات من شركات الألواح الشمسية الأميركية الناشئة.
يجتمع وزراء التجارة التابعون لـ "منظمة التجارة العالمية" في الفترة من 11 إلى 13 ديسمبر/ كانون الأول، في بوينس آيرس، لحضور مؤتمرهم الحادي عشر لمراجعة التقدم الذي تم إحرازه ووضع جدول أعمال لمفاوضات التجارة العالمية. ومن المقرر أن تطالب الولايات المتحدة الدول الأعضاء الأخرى البالغ عددها 163 دولة بالبدء في محادثات أحكام "الشفافية" الجديدة - التي تستهدف الصين، لكنها تسري على جميع الأعضاء - ويراد منها تسليط الضوء على الأعمال الغامضة للإعانات الحكومية. وتفرض قوانين منظمة التجارة العالمية الحالية على جميع الدول الأعضاء إشعار المنظمة فور تخصيص إعانات تفضّل بعض الصناعات المحلية على غيرها (على سبيل المثال، قروض من بنوك حكومية بفائدة أقل من معدلات الفائدة في السوق، أو سياسات تنظيمية تفضيلية أو سلع ذات أسعار مخفضة أو غير ذلك من المعلومات الواردة من المؤسسات المملوكة للدولة، ومعدلات الإيجارات المُخفضة للأراضي).
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: مفهوم الميزان التجاري
وفي دولة الحزب الواحد كالصين، تشيع فرص حدوث تفاهمات غير مكتوبة تخص هذا النوع من الدعم. وليس عجيباً أن الصين إما لم تمتثل وإما تلكأت جداً (غالباً بفارق 10 سنوات) في إشعار "منظمة التجارة العالمية" بإعاناتها. ودون الحقائق، لا تستطيع الدول الأعضاء الأخرى وصناعاتها المتضررة الطعن على الإعانات التي تنتهك القوانين. والمقترح الأميركي المقدم إلى مؤتمر وزراء التجارة التابع لـ "منظمة التجارة العالمية" بتغليظ أحكام الشفافية - على سبيل المثال، الجزاءات الإدارية كالحرمان من المشاركة في مفاوضات منظمة التجارة العالمية - يعد خطوة في الاتجاه الصحيح.
لكن هناك إجماعاً أوسع نطاقاً، يتشكل بالفعل بين الدول المتقدمة والفقيرة على حد سواء، على أننا بحاجة إلى قوانين عالمية أقوى بكثير تحكم المؤسسات المملوكة للدولة، تدعمها تسوية ملزمة للنزاعات تسمح بالقصاص حال انتهاك القوانين. وأقرت الولايات المتحدة بالحاجة إلى تلك القوانين منذ 24 عاماً في اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية "نافتا" (NAFTA)، التي نصت على أن المؤسسات المملوكة للدولتين المكسيكية والكندية لا يجوز لها التمييز ضد الشركات الأميركية التي تبيع سلعاً أو خدمات. وتضمنت الاتفاقيات التجارية اللاحقة لأميركا والاتحاد الأوروبي وآسيا والمحيط الهادئ قيوداً متزايدة على المؤسسات المملوكة للدولة.
وهذا دليل على أن الولايات المتحدة ليست وحدها في مخاوفها من الممارسات الصينية. فقد قبلت إحدى عشرة دولة مقترح إدارة الرئيس أوباما بفرض أقوى نظام على الإطلاق على المؤسسات المملوكة للدولة في اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ. (وتتضمن تلك الدول اليابان وكندا وأستراليا وشيلي وبيرو وحتى المكسيك، حيث تتسم المؤسسات المملوكة للدولة بالقوة). وهذه الجهود الناجحة تجعل انسحاب إدارة ترامب من اتفاق الشراكة العابرة للمحيط الهادئ مثيراً للسخرية: فالذين علت أصواتهم بالشكوى أكثر من غيرهم من انتهاكات النظام التجاري العالمي تخلَّوا عن مجموعة من القوانين هي الأكثر تبشيراً بالحيلولة دون تلك الانتهاكات.
على سبيل المثال، تحظر قوانين الشراكة العابرة للمحيط الهادئ إمداد المؤسسات المملوكة للدولة بالإعانات في العديد من الحالات، وتفرض الإفصاح عن جميع المؤسسات المملوكة للدولة على موقع ويب عام، وعن نسبة الأسهم الحكومية في المؤسسات المملوكة للدولة، والمسميات الوظيفية للمسؤولين الحكوميين الذين يعملون موظفين أو أعضاء في مجالس إدارة تلك المؤسسات، والإيرادات السنوية لتلك المؤسسات، والمعلومات المتعلقة بأي سياسة أو برنامج يقدم إعانات. وتفرض هذه القوانين أن تتم عمليات المبيعات والمشتريات التجارية على أساس الاعتبارات التجارية (المحددة بالسعر والجودة والتوافر والنقل وقابلية التسويق). وهذا يعني أن العقود الحكومية تُمنح للجهة صاحبة العطاء الأقل دون تمييز لصالح الشركات المحلية.
والآن، بعد أن انسحبت الولايات المتحدة من الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، تاركةً الدول الإحدى عشرة الأخرى تمضي قدماً دون أميركا، ستستفيد الشركات اليابانية، مثلاً، من القوانين الجديدة الخاصة بالمؤسسات المملوكة للدولة، لكن الشركات الأميركية لن تستفيد منها. وسيكون لذلك وقع كبير عند مزاولة الأعمال في فيتنام وماليزيا والمكسيك، حيث تسيطر المؤسسات المملوكة للدولة على قطاعات كبيرة من الاقتصاد. لو كان الغرض من الانسحاب من الشراكة العابرة للمحيط الهادئ خفض العجز في الميزان التجاري الأميركي، فلا شك في أن تقويض قدرة الشركات الأميركية على منافسة المؤسسات المملوكة للدولة في آسيا وسيلة عجيبة لتحقيق هذا الغرض.
لكن هذه المعركة لم تنتهِ بالهزيمة (بعد). فبوسع الولايات المتحدة، بل ينبغي عليها، جس النبض في مؤتمر وزراء التجارة في بوينس آيرس فيما يتعلق بقوانين "منظمة التجارة العالمية" الخاصة بالمؤسسات المملوكة للدولة، لا فيما يختص بقوانين الشفافية فقط التي التي ليست سوى غيض من فيض. وهذا يعني أن إدارة ترامب سيتعين عليها الكف عن اعتبار "منظمة التجارة العالمية" مصدر تهديد لسيادتها، والبدء في النظر إليها على أنها مكان تُصنع فيه التحالفات لإرغام الصين على احترام القوانين، كما وعدت عندما انضمت إلى "منظمة التجارة العالمية" عام 2001.
كثيراً ما اتفقت الدول الأعضاء في "منظمة التجارة العالمية" على ضم مجالات جديدة إلى لائحة قواعدها بعد أن أثبتت اتفاقيات التجارة أنها عملية. فالقوانين المحورية المهمة لـ "منظمة التجارة العالمية" الخاصة بتجارة الخدمات واحترام الملكية الفكرية، تلقت دَفعة قوية من إلحاقها باتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية. وبالمثل، نجد أن قوانين المؤسسات المملوكة للدولة في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ - والآن أيضاً في اتفاقات التجارة التابعة للاتحاد الأوروبي مع كندا واليابان، من بين دول أخرى - تمثل أيضاً سابقةً مشجعة على إلحاقها بلائحة قوانين "منظمة التجارة العالمية".
لن تلحق هذه القوانين المتعلقة بالمؤسسات المملوكة للدولة بـ "منظمة التجارة العالمية" العام الحالي أو حتى العام التالي. فالأمر سيقتضي سنين من المفاوضات. لكنها رحلة تستحق البدء فيها. ومردودها سيكون عظيماً على كثير من الأمم. وهذا سبب أدعى لأن تتحرك الولايات المتحدة.