إن جوهر الإدارة هو التغيير الدائم، وفي مواجهة التحديات المستمرة التي تواجه قطاع الأعمال، تحتاج الشركات إلى فكر إداري متجدد باستمرار، يُمكّن المدراء والقادة من وضع الأهداف الصعبة وإرساء العمليات لتحقيقها، وتطبيق تلك العمليات والتعلم منها لرسم مسار مستقبلي واضح لعمل الشركة.
وعند البحث في مستقبل الأعمال، يجب الأخذ في الاعتبار مفهوم التنمية المستدامة بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، الذي يحمل في طياته مخاوف حول القدرة على تلبية احتياجات الأجيال المقبلة.
يرى بعض الباحثين أن التنمية المستدامة مفهوم يتعارض مع النمو الاقتصادي، لكن الأمم المتحدة لا تزال تعتمد على قطاع الأعمال لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بصورة فعّالة. وفي الوسط الأكاديمي، هناك دعوات إلى خلق قيمة مشتركة بين عمل الشركات وأهداف التنمية المستدامة، من خلال اتباع استراتيجية مشاركة أصحاب المصلحة في قرارات الشركة وعملياتها التشغيلية.
وكان التسويق المجال الذي يقع عليه اللوم الأكبر بعرقلة الاستدامة في مجال الأعمال، لكنه تطور وانتقل من التركيز على المعاملات القصيرة المدى المتعلقة بتوزيع السلع والخدمات، إلى التركيز على العلاقات المتبادلة بين التسويق وأصحاب المصلحة المجتمعيين، وأخذ أبعاداً جديدة تعكس العلاقة بين قطاع الأعمال والمجتمع.
ومع ذلك، يبقى السؤال: هل يمكن مواءمة أهداف الاستدامة مع النموذج الاجتماعي السائد في الإدارة أم أننا بحاجة إلى نموذج جديد كلياً يركز في جوهره على الاستدامة؟
تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى تحديد التحديات المُلحة التي سوف ترسم شكل العالم خلال العقود المقبلة، والبحث في كيفية تأثيرها على أدبيات الإدارة وإنتاج المعرفة الإدارية. في عام 2019 عملتُ على دراسة بعنوان: "20 اتجاهاً كبيراً تشكل الفكر الإداري عام 2050" لمراجعة الاتجاهات الكبرى التي سوف تشكل المستقبل، وحددتُ 20 اتجاهاً محتملاً سوف تصقل الإنتاج المعرفي الإداري، وطرحت تساؤلات حول دور الاستدامة في الجانب النظري للإدارة وعلاقتها بالنموذج الاجتماعي السائد الذي يسيطر حالياً على الفكر الإداري.
على أي أساس نستقرئ المستقبل؟
حاول الأكاديمي والاقتصادي المصري الراحل جلال أمين في كتابه: "العالم عام 2050" استشراف ما يمكن أن يكون عليه العالم في منتصف القرن الواحد والعشرين، لكن توقعاته كانت مبنية على أسس فلسفية واقتصادية نظرية أكثر من الأدلة العلمية. ومع ذلك، لا يمكن اعتبارها خيالاً لأنها اعتمدت على استقراء الماضي واستخلاص الدروس المستفادة منه.
لكن الاستقراء الحقيقي للمستقبل؛ وتحديداً في عام 2050، يتطلب فهم التوقعات العلمية التي من المحتمل أن تحدث، إذ توقع المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF)، أن تصبح الصين والهند من ضمن الاقتصادات العالمية المهيمنة بدلاً من أميركا، وأن تزدهر دول أخرى اقتصادياً، مثل البرازيل والمكسيك وإيطاليا ومصر، وأن تتفاقم مشاكل نقص المياه والغذاء والتلوث التي تؤدي إلى تزايد الجوع والفقر، ومن المرجح تفاقم الأمراض المرتبطة بالشيخوخة مع ارتفاع متوسط أعمار البشر، وخصوصية أقل في ظل الفضاء الإلكتروني، لتعكس هذه الاتجاهات العالمية مشاكل تغير المناخ والعولمة والتدهور البيئي والرقمنة.
وعلى الجانب الأكثر إيجابية، سوف تنخفض معدلات وفيات الأطفال والفقر المدقع، وسوف يسهل الذكاء الاصطناعي العديد من جوانب الحياة إلى الحد الذي يمكّنه من محاكاة الدماغ البشري، وسوف تزداد إمدادات الطاقة المتجددة.
وبناءً على قراءات جلال أمين وتوقعات المنتدى الاقتصادي العالمي وغيرهما من المصادر، استعرضت في بحثي 20 توجهاً عالمياً من المحتمل أن تشكّل الفكر الإداري في المستقبل:
1. وهم الحرية
إن خلق مساحة حرية أكبر يعني المزيد من المسؤولية، فإتاحة الحرية في اتجاه واحد تولّد حرية أقل في الاتجاهات الأخرى. على سبيل المثال، المزيد من المادية يقود إلى روحانية أقل.
وينطبق هذا على خيارات المستهلكين، فبحسب نظرية خيار المستهلك، كلما زادت الخيارات أمام المستهلك، تمكّن من خفض الأسعار باختيار البديل المناسب لقدرته الشرائية، وبالتالي الشعور بالسعادة. لكن هل نحن حقاً أفضل حالاً؟ هل نمتلك حرية الاختيار خاصة مع ظهور وسائل الإعلام الجديدة؟ تحتاج الإدارة وعلم التسويق إلى التركيز أكثر على معالجة رفاهية المستهلك.
2. النزعة الاستهلاكية
تدفعنا فكرة الخوف من أن يفوتنا شيء ما "فومو" إلى شراء المنتجات على الرغم من عدم احتياجنا الفعلي لها في الوقت الحالي، وذلك حتى لا نخسر الخصومات المحتملة على هذه المنتجات.
تعزز حالة الخوف هذه "النزعة الاستهلاكية" لدى الأشخاص، التي من المتوقع أن تصبح أحد الاتجاهات الكبرى التي ستشكل المستقبل القريب. لذا يجب أن تطرح الأدبيات الإدارية تساؤلات حول: كيف نهرب من حصار المجتمع الاستهلاكي وإعلانات الشركات العملاقة؟ وكيف يمكننا التعامل مع الخلق المستمر للرغبات؟
3. إدارة وقت الفراغ
مع تزايد وتيرة التطور التكنولوجي، أو في حالات الركود الاقتصادي نتيجة انخفاض طلبات العملاء أو توقفها كلياً لفترة، سوف تكون هناك مشكلة مستقبلية في إشغال وقت فراغ الموظفين. لذا يجب البحث في الطرق التي يستطيع من خلالها المستشارون والموظفون والمدربون وغيرهم من المستقلين أو العاملين بدوام كامل، الحفاظ على إنتاجيتهم عندما يظهر لديهم وقت فراغ.
قد يملأ العديد من المهنيين أوقات فراغهم بالقراءة والاطلاع على المواد والموضوعات المتعلقة بمجال عملهم وممارسة الرياضة وقضاء الوقت مع عائلاتهم، لكن يمكن الكشف عن جوانب أخرى يستثمر فيها الموظفون معرفتهم ومهاراتهم بمجالات جديدة وبطريقة أفضل.
4. إضعاف الروابط الأسرية
تكشف الدراسات عن دور التكنولوجيا في إضعاف العلاقات الإنسانية وخاصة العائلية. ليبرز سؤال مهم هنا: هل سوف يؤثر هذا الاتجاه على الشركات العائلية؟
تنظر الأبحاث عادةً في كيف يمكن للشركات العائلية الموازنة بين ضغوط الأسرة والأعمال، وكيف يمكنها الاستمرار والحفاظ على ميزة تنافسية في ظل التغيير المحتمل الناتج من تعاقب الأجيال. لكن قليلة هي الأبحاث التي تنظر في اختيار نمط إدارة أكثر اتساقاً مع المرحلة التي تمر بها الشركة حالياً أو مستقبلاً.
لذا يجب الخوض في قضايا متأصلة مرتبطة بالثقافة التنظيمية للشركات العائلية وطريقة إدارتها وكيفية تخطيط التعاقب فيها.
5. بروز عالم متعدد الثقافات
خلق الفضاء الرقمي عالماً متعدد الثقافات، وباتت فرق العمل تجمع أشخاصاً من خلفيات ثقافية متنوعة، ما ولّد مشاكل إدارية مرتبطة بطبيعة التواصل (مباشر أو غير مباشر) واللهجات وطلاقة الكلام، واختلاف المواقف تجاه التسلسل الهرمي والسلطة، وتعارض معايير اتخاذ القرار.
لذا يجب أن نركز في المستقبل على كيف يمكن للمؤسسات معالجة التنوع في مكان العمل وسد الفجوات الثقافية داخل الفريق؟ وهل تعمل الفرق المتعددة الجنسيات والمتنوعة افتراضياً؟ وكيف سوف يتغير الهيكل التنظيمي وفقاً لذلك؟
6. زيادة أهمية المسؤولية الاجتماعية للشركات
تكتسب الاستدامة ثقلاً أكبر على الصعيد العالمي، ويدرك معظم الرؤساء التنفيذيين الآن أن المسائل البيئية والاجتماعية والحوكمة يجب أخذها بالحسبان في استراتيجيات شركاتهم، وزاد استيعاب المستثمرين لحقيقة مفادها أن أداء الشركة في المجالات البيئية والاجتماعية والحوكمة ذات الصلة يؤثر تأثيراً مباشراً في ربحية الشركة على المدى البعيد.
وعليه، سوف يؤدي تعزيز دور القطاع الخاص في مشاريع التنمية إلى المزيد من الأدبيات حول المسؤولية الاجتماعية للشركات، إذ يمكن أن تتناول هذه الأدبيات مشكلة إصرار مجالس الإدارة على تعظيم القيمة على المدى القصير، والفجوة بين التطلعات وقدرة تلك المجالس والشركات على إنجاز هذه التطلعات، وهو ما يشكّل عقبة صعبة تعترض سبيل الاستدامة.
7. وهم التقدم بسبب التطور التكنولوجي المستمر
يثير التطور التكنولوجي المتسارع تساؤلات مهمة: هل يؤدي التقدم التكنولوجي حتماً إلى تقدم الإنسان وتطوره؟ ما هي عيوب التكنولوجيا في المستقبل؟ كيف سوف تؤثر الرقمنة على مكان العمل؟ وهل سوف تحل الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي محل البشر؟
فالذكاء الاصطناعي يكشف لنا عن عالم أوسع من التفاصيل الفريدة والمتغيرة باستمرار، وبدلاً من الاعتماد على التعميمات التي تتجاهل المعلومات القيّمة، سوف يصبح الاعتماد على التفاصيل والمواصفات والجزئيات الدقيقة المعيار السائد في مجالات الأعمال جميعها تقريباً من الاستراتيجية واختيار القيادات إلى إدارة المواهب وسلاسل التوريد، وسوف يكون القادة الذين يدركون هذا التغيير أكثر قدرة على تسخير الإمكانات.
8. التحول في القوى العالمية
تشير التوقعات إلى أنه خلال خلال العقدين أو الثلاثة المقبلة لن تعود الولايات المتحدة الأميركية هي القوة العالمية الكبرى، وستكون الغلبة لدول مثل الصين والهند بأيديولوجياتها المرتبطة بها. وهذا يعني إضعافاً محتملاً للرأسمالية. فهل سوف تكون دول مثل مصر في موقع منافس وليس في موقع تابع للولايات المتحدة كما توقع جلال أمين؟ وكيف يمكن للقوى العالمية أن توازن علاقاتها لتحقق الرخاء الداخلي؟
9. الشركات تمثّل القوى العالمية الجديدة
لقد أصبح دور الدولة أكثر محدودية مقارنة بدور الشركات المتعددة الجنسيات؛ تلك الكيانات التي تتجاوز الحدود الوطنية والتي كانت نتاج التحرر الاقتصادي. فكيف سوف تعالج أبحاث الإدارة هذه المسألة؟
10. العلاقة المتبادلة بين الأحداث العالمية
لقد كان للأزمة المالية الأخيرة تأثير عالمي على العديد من الدول والمستثمرين والشركات المتعددة الجنسيات. فهل نقترب من عصر "القومية العالمية" بدلاً من القومية المحلية؟ هل سوف تتخذ البحوث الإدارية منظوراً أكثر عالمية لمشاكل العالم بدلاً من السياق المحلي المحدود؟
11. ظهور التخطيط المتعدد الجنسيات
سوف تبدأ الدول بالتخطيط نحو التنمية عبر حدودها الوطنية، ما يتيح المجال لتداول مجالات مثل اقتصادات التنمية والاقتصاد السلوكي في الأدبيات والدراسات الإدارية.
12. العولمة وقياس مؤشرات الثروة
يجري قياس الأداء غالباً في المجالات المختلفة وفقاً للمعايير الدولية، ومع انتشار التكنولوجيا واتساع نطاق العولمة، أصبحت هناك شفافية متزايدة في قياس الأداء. فكيف سوف تتعامل الشركات، خصوصاً المتعددة الجنسيات، مع تزايد الشفافية؟
13. زيادة التعبئة العالمية لرأس المال البشري
عندما ينتقل الفرد إلى بلد آخر، فإن هدفه هو السعي إلى تحسين نوعية الحياة. والسؤال هنا هو: كيف سوف يؤثر ذلك على تماسك الهيكل الاجتماعي للدول النامية والمتقدمة؟ هل يجب أن يكون الدخل مساوياً لحجم مساهمة الموظف في عملية الإنتاج؟ وكيف يعالج مجال مثل الاقتصاد هذه القضية؟
14. ارتفاع أسواق الكفاف المعيشي
مع تزايد الحاجة إلى تحقيق النمو الاقتصادي وبالتوازي مع تسارع التقدم التكنولوجي، سوف تنشأ الحاجة إلى أسواق أوسع نطاقاً، بما في ذلك أسواق الكفاف المعيشي. وبالتالي، هناك زيادة متوقعة في الأدبيات الإدارية التي تدور حول أسواق تلبي احتياجات محدودي الدخل.
15. أهمية المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة
لقد أصبحت المشاكل والتحديات عالمية، ما زاد الحاجة إلى مبادرات عالمية مستمرة لمواجهة هذه المشكلات. فهل سوف تضع الأمم المتحدة أهدافاً جديدة مثل أهداف التنمية المستدامة؟ وكيف يمكن إنتاج فكر إداري مرتبط بالتنمية؟
16. صعود المجتمع المدني
مع تزايد قوة القطاع الخاص، تبرز الحاجة إلى تنمية القطاع الثالث وتطويره من أجل تعزيز الخير في المجتمع وتلبية احتياجات الفقراء والمهمشين والمحرومين. ونتيجة لهذا، قد نشهد زيادة في وتيرة الحديث عن كيفية تقاطع الأعمال مع الأهداف المجتمعية.
17. صعود قوة وسائل الإعلام
لقد أصبحت وسائل الإعلام، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، مصدراً للمعلومات، وصانعاً للرأي، ومعبّئاً للقيم. فكيف سوف تشكل وسائل التواصل الاجتماعي الفكر الإداري في المستقبل؟
18. استخدام العلم في قمع الإرادة البشرية
يزداد العلم قوة أكثر من أي وقت مضى، فإلى أي مدى يمكننا أن نتمتع بالإرادة الحرة أمام تقدم العلوم؟ وهل سوف يتجاهل علم الإدارة الجوانب الإنسانية للحياة؟
19. ارتفاع في الروحانيات
بعد حد معين من تلبية الاحتياجات المادية، سوف يتوق الناس إلى نوع مختلف من الرضا للعثور على السعادة، وهو ما يتجلى في الأمور الروحانية. فهل سوف نشهد انتشاراً لعلوم الإدارة والروحانية والخطاب الديني؟
20. نهضة في الاقتصاد الأخلاقي
يستند الاقتصاد إلى مبدأ الندرة. ولكن ماذا إذا تولد نموذج جديد يقوم على وفرة الموارد؟ وماذا إذا بدأ الناس يشعرون بأن امتلاك المزيد لا يجعلهم أكثر سعادة؟ وماذا إذا لم يتم فصل الفكر الإداري والفكر الاقتصادي عن الأخلاق؟
يدور العديد من المناقشات حول تحقيق الاستدامة لجعل العالم مكاناً أفضل للعيش فيه. ويبقى السؤال المطروح هو: كيف يمكننا معالجة الاتجاهات الكبرى التي من المرجح أن تشكّل عالمنا في المستقبل. ومع هذه التطورات العالمية التي تضع المؤسسات في حالة ضغط مستمرة وديناميكية، هل نهج التعقيد سوف يرشد الفكر الإداري؟ أم يمكننا اعتماد عبارة الاقتصادي البريطاني إرنست شوماخر أن "كل صغير جميل"؟