عندما كنت في التاسعة من عمري، اشترى لي والدي -رحمه الله- لعبة، ولم تكن هذه اللعبة سوى بكرة عرض صور متحركة. كانت على شكل كاميرا تدخل فيها بكرة فيلم يمكنك مشاهدته من خلال العدسة. فتحتها وأدخلت البكرة فيها من أجل مشاهدة صورها المتحركة. لقد كان الانتقال من العالم المادي إلى العالم الذي أخذني إليه الفيلم والصور أمراً رائعاً حقاً.
كان هذا أول تفاعل لي مع الواقع الافتراضي، وبعد ذلك بعقدين من الزمن، زرت "استوديوهات يونيفرسال" في هوليوود، لوس أنجلوس (Universal Studios Hollywood) وأكثر ما أدهشني حينها هو ألعاب الواقع الافتراضي، إذ تم تحويل وإثراء التجربة بشكل استثنائي، وعندما ذهبت برحلة الواقع الافتراضي التي يقدمونها، كان الأمر حقيقياً لدرجة أنني استمتعت بكل جزء من هذه التجربة.
تداخل العالم المادي والافتراضي عبر الحوسبة المكانية
الآن، أود منك أن تطلق العنان لخيالك، تخيل عالماً غامراً وشائقاً، حيث يتداخل العالمان المادي والافتراضي ويترابطان فيما بينهما، ما يمنحك القدرة على الوصول إلى أماكن لم يذهب إليها أحد من قبل، وتستطيع فعل أشياء لم يستطع أحد فعلها من قبل. تخيل منح العلماء القدرة على المشي فوق كوكب المريخ من أجل استكشاف مناطقه وتضاريسه وإجراء أبحاثهم. تخيل جراحاً متخصصاً على جانب من كوكبنا، يجري عملية جراحية معقدة على مريض في الجانب الآخر من الكوكب. تخيل المهندسين يصممون ويبنون الآلات في المصانع، لكنهم يبتعدون عن بعضهم آلاف الكيلومترات، وأخيراً، تخيل أنك جالس على مقعدك وبإيماءة يد واحدة، ستنظم تطبيقات سطح المكتب في حاسوبك الشخصي أو جهاز الجوال الخاص بك، وتتنقل عبر رسائلك، حيث تحذف بعضها، وترد على بعضها الآخر ببساطة عن طريق التفاعل مع كل هذه الأشياء كما لو كانت شيئاً حقيقياً، دون أن تلمس أي شيء. هذا هو عالم الحوسبة المكانية الذي يدمج بين العالمين المادي والافتراضي. دعنا نبحر سوياً في هذا العالم الشائق ونستكشف خباياه.
إن الحوسبة المكانية (Spatial Computing) مصطلح صاغه سيمون غرينوولد من معمل الوسائط بـ "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (إم آي تي) عام 2003. إنه مفهوم التفاعل الكلي بين العالمين الرقمي والمادي ووعيمها، حيث تستخدم الحوسبة المكانية رؤية أجهزة الكمبيوتر للجمع بين العالمين المادي والرقمي.
صحيح أنها تعتمد على مفهوم "التوأم الرقمي"، إلا أن الحوسبة المكانية تذهب إلى مؤشرات أبعد من ذلك. إذ تعتمد الحوسبة المكانية على مفاهيم الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR) والواقع المختلط (MR) والتوأم الرقمي (DT)، وكل هذه المفاهيم تعتمد بدورها على مفهوم "تواصلية العوالم الواقعية والافتراضية" (The Reality-Virtuality Continuum).
مفهوم "تواصلية العوالم الواقعية والافتراضية"
طُرح هذا المفهوم في عام 1994 من قبل بول ميلغرام، أستاذ الهندسة في "جامعة تورنتو"، ومن خلال آلية عمل هذا المفهوم، يتداخل النطاق بين البيئة الحقيقية والبيئة الافتراضية التواصلية الكاملة، وفي أحد طرفي هذه البيئة توجد الكائنات الحقيقية المتعلقة بالعالم المادي من حولنا، أما في الطرف الآخر، فيوجد أي شيء افتراضي تماماً، ويُعرف النطاق بين كلا الطرفين باسم الواقع المختلط، كما يقع الواقع المعزز ووالواقع الافتراضي أيضاً على الطيف المقابل، مع قيام الواقع المختلط بتغطية المساحة الفاصلة بينهما، فما هي أبرز استخدامات هذا المفهوم الفريد؟
دور الحوسبة المكانية في دعم العملية التعليمية
لقد تأثر أكثر من 1.6 مليار طالب بسبب جائحة فيروس كورونا، ومثّل هذا العدد نسبة 91% من الطلاب في جميع أنحاء العالم، وهذا ما أدى إلى ارتفاع معدل تسجيل الطلاب في منصة "كورسيرا" (Coursera) إلى أكثر من 644% خلال 30 يوماً فقط، وعلى الرغم من أن هذه المنصة وفرت للطلاب فرصة مواصلة التعليم، فإن الطريقة التقليدية لتقديم المحتوى من خلال التواصل عبر البعد الواحد أثبت أنه غير فعال وغير قابل للاستمرار، فكيف يمكن للحوسبة المكانية أن تلعب دوراً فعالاً في تحويل هذه العملية وتغيير أبعادها لتصبح ممتعة وشائقة وفعالة في آن معاً؟
سيكون ذلك عبر استخدام الحوسبة المكانية بجميع أبعادها وقدراتها، مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي والواقع المختلط من أجل تشكيل المحتوى التفاعلي المبتكر، وإدخال أنواع اللعب والمرح إلى العملية التعليمية لتصبح متكاملة بشكل أكبر.
وبالطبع، لا يقتصر استخدام الحوسبة المكانية على تنمية العملية التعليمية فحسب، بل يمكن إدماجها في العديد من المجالات.
كيف أحدثت الحوسبة المكانية تحولاً كبيراً في استخدامات الواقع الافتراضي ضمن العديد من المجالات؟
تدريب العاملين وتطويرهم
إذا نظرنا إلى مجال التدريب والتطوير، فسنجد أن العديد من الشركات تستخدم الآن تقنيات الحوسبة المكانية بصورة متكاملة ومبتكرة للتعليم والتدريب والتطوير، مثل تدريب العاملين في الرعاية الصحية والطيران والصناعة وغيرها. كما يعد استخدام سماعات رأس الواقع الافتراضي (VR Headset) التي تعرض محاكاة الواقع بطريقة ممتازة وخالية من المخاطر للمدربين أمراً مهماً لاكتساب المهارات اللازمة لتطوير عملهم.
ولو نظرنا كيف يتم تدريب قائد الطائرة داخل قمرة قيادة افتراضية تحاكي الواقع الفعلي تماماً دون أدنى فرق، سنلاحظ كيف يتم إحداث حالات طوارئ افتراضية كالحرائق أو فقدان المحرك، وكل ذلك من أجل تدريب كباتن الطائرات على كيفية التعامل مع هذه المواقف الحرجة، إن ذلك يتم دون إحداث أي ضرر بالطائرة مع عدم تعريض حياة المتدربين للخطر، وهذه الطريقة هي أعلى مستويات التدريب وبناء المهارات. كما أنها توفر المال وتضمن سلامة المتدربين والعملاء.
مما لا شك فيه أن التدريب والتطوير من خلال الحوسبة المكانية يوفر الكثير من الموارد من أجل اكتساب المهارات اللازمة، ولهذا يستخدم العاملون في "بي أيه إي سيستمز" (BAE Systems) أنظمة دفع البطاريات الكهربائية (Microsoft HoloLens 1 / PTC Vuforia) لخفض أوقات التدريب بنسبة تصل إلى 40%، وذلك بعشر تكلفة جميع البدائل الأخرى، ولهذا فإن استخدام الحوسبة المكانية يضمن الجودة والدقة في التدريب مع توفير الوقت والجهد والمال بشكل ملحوظ.
وبالعودة إلى مجال التعليم، فقد سمحت الحوسبة المكانية بالتحول من طرق التدريس التقليدية إلى طرق أكثر تقدماً وتجريبية، فقد لوحظ في بداية الوباء كيف اضطرت جميع المؤسسات الأكاديمية إلى التحول إلى نهج التعليم عن بعد. على اعتبار أن استخدام الفصول الدراسية الافتراضية هو أحد أهم تطبيقات الواقع الافتراضي، وفي دورات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM Learning) غالباً ما يواجه الطلاب صعوبة في تصور بعض المفاهيم الدقيقة، وبهذا الصدد تقدم الحوسبة المكانية حلاً لذلك من خلال السماح بالتخيل والتعامل مع الكائنات ثلاثية الأبعاد التي تساعد على فهم الأمور المعقدة، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن 88% من الطلاب يفضلون برامج تدريب الواقع الممتد على الأشكال التقليدية للتعلم، وهذا الأمر يفسر أهمية الحوسبة المكانية في استبقاء الطلاب لإتمام العملية التعليمية.
الرعاية الصحية
غيرت الحوسبة المكانية طريقة تشخيص المرضى وعلاجهم ورعايتهم، ولهذا فإن تطبيقات الواقع الافتراضي في مجال الرعاية الصحية لا تعد ولا تحصى. لقد أنشأ الباحثون في "جامعة ألبرتا" (University of Alberta) نظاماً يسمى (ProjectDR) يسمح بعرض الصور الطبية مثل الأشعة المقطعية وبيانات التصوير بالرنين المغناطيسي مباشرة على جسم المريض بطريقة تتحرك كما يفعل المرضى تماماً. يستفيد هذا النظام من الحوسبة المكانية لعرض البيانات لجعلها تتحرك بالنسبة لجسم المريض. إن هذا المثال هو مثال رئيس على استفادة قطاع الرعاية الصحية من الحوسبة المكانية، كما تستخدم هذه الطريقة المبتكرة في تدريب الجراحين من أجل الوصول إلى نتائج أكثر فعالية مع تقليل نسبة المخاطر، ويقترن الجزء المرئي من هذا التدريب بردود فعل لمسيّة تمنح المتدرب الشعور بالتعامل مع جسم بشري حقيقي. هذا النوع من التدريب أكثر كفاءة واقتصادية كما أنه خالٍ من المخاطر، فقد أظهرت الدراسة التي تم تقديمها في الاجتماع السنوي لـ "جمعية جراحة العظام الغربية" (Western Orthopedic Association)، أن طلاب الطب الذين تلقوا التدريب الافتراضي على العمليات الجراحية أكملوا العمليات الفعلية بشكل أسرع بنسبة 20% كما حققوا 38% من الخطوات بشكل صحيح أكثر من الطلاب الذين يتدربون بشكل تقليدي على العمليات.
البيع بالتجزئة
شاهدنا مؤخراً تأثير الحوسبة المكانية على قطاع البيع بالتجزئة وكيف عملت على تغيير الطريقة التي نتسوق بها. إنها تقدم طرقاً جديدة ومبتكرة للعملاء لاختيار المنتجات التي يشترونها، وقد استفادت منافذ البيع بالتجزئة التي تسمح لك بتوجيه كاميرا هاتفك إلى أحد المنتجات والحصول على معلومات حول منتج معين من قوة الحوسبة المكانية، فمثلاً استخدمت شركة "إيكيا" (Ikea) الحوسبة المكانية للسماح للعملاء بتركيب الأثاث في منازلهم عبر استخدام هواتفهم المحمولة. كما استفادت شركة "آتش آند إم" (H&M)، وهي شركة أخرى للبيع بالتجزئة، من قوة الحوسبة المكانية لتحويل تجربة العملاء نحو الأفضل، ففي الإطلاق العالمي لتعاون هذه الشركة مع متجر "موسكينو" (Moschino) عام 2018، تم الحديث أنه يمكن للضيوف حرفياً الدخول إلى مجموعة مادية واستكشاف عناصر من المجموعة، مع التفاعل في الوقت نفسه مع المحتوى الرقمي المرتبط بحملة المجموعة، وسُمح للعملاء أيضاً بالعمل كمصممين من خلال استخدام تقنية (Magic Leap1) لتصميم المطبوعات رقمياً على قماش شركة "آتش آند أم" وطباعتها لأخذها إلى المنزل. هذه مجرد أمثلة قليلة على التأثير الذي تحدثه الحوسبة المكانية على قطاع البيع بالتجزئة.
قد تتساءل لماذا لم تأخذ الحوسبة المكانية إلى اليوم الصدارة التي تستحقها، والسبب هو أنه -كما هو الحال مع جميع التطورات التكنولوجية- يجب أن يقبل الناس الحوسبة المكانية، وتحتاج الشركات إلى التعرف على تطبيقاتها العديدة قبل دمجها في بيئاتها وأنظمتها، لكن هذا لا يعني أنه ليس لديها إمكانات كبيرة وحجم سوق يتزايد بسرعة، إذ من المتوقع أن ينمو حجم سوق الحوسبة المكانية من 21.4 مليار دولار في عام 2021 إلى 254.1 مليار دولار بحلول عام 2027، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 42.4% خلال هذه الأعوام.
لقد دفعت هذه الجائحة المؤسفة التي ضربت العالم في نهاية عام 2019 وانتشرت بسرعة في أوائل عام 2020 البشرية نحو قبول العديد من التطبيقات الافتراضية التي لم تكن مقبولة من قبل، وعندما تم إغلاق غالبية العالم، وتم إيقاف معظم الفصول الدراسية، لجأ الكثيرون إلى التقنية للسماح لهم بمواصلة تعليمهم، فمن التعليم عن بعد، إلى الاستشارات الطبية الافتراضية، إلى غالبية الأشياء التي نحتاجها، اعتمد الجميع على الخدمات الرقمية لمواصلة معيشتهم.
ومن وجهة نظري، فإنه الوقت المناسب للحوسبة المكانية لأن لدينا إمكانات تقنية هائلة وجميع العناصر اللازمة لإنجاحها، وقد لا حظنا كيف استفادت السيارات ذاتية القيادة وشاشات الهولوغرام من القوة الهائلة والكامنة للحوسبة المكانية. إن هذا المفهوم الذي يجمع على سبيل المثال لا الحصر قدرات الواقع الافتراضي والمعزز إضافة إلى الواقع الممتد والمخلط سيجلب المفاهيم المثالية إلى الحياة. ستظهر الحوسبة المكانية الآن وفي المستقبل في مناطق ومجالات لا حصر لها في حياتنا اليومية، فبدءاً من آلة "روومبا" (Roomba) المستخدمة لتنظيف غرفة المعيشة الخاصة بك إلى النظارة الافتراضية المستخدمة في المعامل سنشهد في الأيام القادمة تطبيق الحوسبة المكانية كل يوم وفي كل المجلات، ومن المتوقع أن ينمو حجم سوق الحوسبة المكانية بشكل كبير خلال العقد المقبل.