استبدت بي نوازع الخوف عندما كنت أقف في طابور الكافتيريا في مكان عملي بُعيد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. وصادف حينها أني رأيت موجهاً أعمل تحت إشرافه، وهو بالمناسبة عضو بارز في قسمنا، وبعد أن تبادلنا عبارات الترحيب سرعان ما أخذنا الكلام إلى الحديث عن الأحداث الجارية. أتذكر أنه قال 3 كلمات بسيطة، لكنها مؤثرة: "إنه حدث مخيف". يمكنني القول إن مخاوفي بدأت تهدأ على الفور، وحل محلها إحساس بالترابط الوجداني، فقد أيقنت أنني لست وحدي، وهذا ما أحدث كل الفارق.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: التوجيه الإداري
تعلمنا من واقع خبرتنا المشتركة التي تصل إلى ما يقرب من 50 عاماً في توجيه المتخصصين في الرعاية الصحية قبل أزمة "كوفيد-19" وخلالها مدى أهمية الموجهين، خاصة بالنسبة لأولئك الواقفين على الجبهة في الخطوط الأمامية. فقد ظل الأطباء والممرضون والعاملون في محال البقالة والبريد، وغيرهم، يتعاملون لأشهر طوال مع صنوف المخاطر الصحية والتعقيدات الإجرائية وحالة الغموض المشوبة بالقلق، دون أن يلوح لهم بريق أمل في نهاية النفق المظلم. وهم بحاجة الآن إلى الدعم العاطفي أكثر من أي وقت مضى، لكن لا يسعهم دائماً اللجوء إلى مدرائهم الذين قد يكونون مشغولين بحل المشكلات ومهمومين بالحفاظ على مواصلة تسيير آلة العمل في مؤسساتهم. وقد يخشى العاملون أيضاً أن ينظر مدراؤهم إلى طلب المساعدة كعلامة على وجود نقطة ضعف في أدائهم الوظيفي، لاسيما أن هؤلاء المدراء يمتلكون مفتاح الترقيات في المستقبل. ويمكنك بالتالي أن تلعب دوراً حاسماً بصفتك موجهاً لهم، وتمنحهم الشعور بالاستقرار، أي أن تكون شخصاً يساعدهم على الهدوء عندما يستبد بهم القلق أو ينتابهم الخوف أو يقتلهم الإحساس بالاحتراق الوظيفي أو الشعور بالارتباك، كل ذلك دون أن تبوح بسرهم لأي أحد كان.
إذا كنت تعتبر نفسك موجهاً لشخص ما يقف على جبهة الصراع في الخطوط الأمامية، فإن الخطوة الأولى هي أن تعتني بنفسك لأنك لن تستطيع تقديم الدعم العاطفي للغير إذا لم تكن حصونك العاطفية منيعة. عندئذ فقط يمكنك مساعدة المتعلمين من خلال تقديم الدعم العاطفي بأساليب ملموسة.
حصّن نفسك أولاً
حاول بداية تقييم قدرتك على مساعدة الغير. هل لديك ما يكفي من الوقت، وتمتلك التركيز والطاقة اللازمين لتوجيه المتعلمين؟ إذا كنت أنت نفسك تقف على جبهة الصراع في الخطوط الأمامية، فهذا يعني في الغالب الأعم أنك أنت نفسك تشعر بالإرهاق، وإذا لم تكن قادراً على مساعدة الغير، فيجدر بك قبول الأمر الواقع والرفق بنفسك وهذه أكبر خدمة يمكن أن تقدمها للمتعلمين. وإذا لم يكن لديك الوقت الكافي، ولكنك لا تزال ترغب في تقديم يد العون، فإن أحد الحلول المقترحة في هذا الوضع هو أن تساعد المتعلمين على إنشاء "فريق من الموجهين".
وإذا قررت أن لديك القدرة الكافية على أداء دور الموجه، فاسأل نفسك: ما الذي يمكنني فعله لتحصين نفسي؟ اعتاد الموجهون وضع أنفسهم في ذيل قائمة المساعدات، أو ربما استبعدوا أنفسهم منها بالكلية، بحيث يستثنون أنفسهم من قائمة أولئك الذين يحتاجون إلى تلبية احتياجاتهم. لكن لا يمكنك توفير الرعاية للآخرين إذا كنت مقصراً في حق نفسك. ولكم رأينا زملاء ذوي نوايا طيبة يضغطون على أنفسهم أكثر وأكثر، دون أدنى مراعاة لاعتبارات العناية بالذات لدرجة أنهم اضطروا إلى الابتعاد مؤقتاً لاسترداد عافيتهم.
ومن هنا كان لا بد من الحصول على قسط كاف من النوم والتغذية السليمة وممارسة التمارين الرياضية والأنشطة التي تجدد النشاط والحيوية وتعطي معنى للحياة، مثل التأمل والصلاة والمشي في أحضان الطبيعة والاستماع إلى الموسيقى أو عزفها، فهذه الأشياء ليست من الكماليات بل هي في صميم الضروريات. ويمكنك تجديد حيويتك خلال ساعات اليوم عبر سلوكيات بسيطة، مثل الاحتفاظ بمفكرة تسجل فيها أسعد لحظات يومك وممارسة التنفس العميق ولحظات اليقظة الذهنية، كتذكر استخدام معقم اليدين. ولا تستغرق ممارسة هذه السلوكيات سوى ثوان قليلة أو بضع دقائق. حتى لو خصصت حوالي 15 ثانية فقط من وقتك لممارسة "تأمل عمل الخير"، وواظبت عليه باستمرار، فسوف تعزز تلك الممارسة رفاهتك وتهيئك نفسياً لمساعدة الآخرين بصورة أفضل. ومثلما يستفيد المتعلم من وجودك أنت وغيرك من الموجهين لدعمه، فإنك بحاجة أيضاً إلى بناء شبكة الدعم الخاصة بك، حيث يعتمد القادة الأكفاء على فرق الدعم المكونة من زملائهم القريبين منهم أو البعيدين عنهم، وهو عين ما يفعله الموجهون المتميزون، حيث يرتبون لإجراء مكالمات تفقدية بانتظام مع أصدقائهم أو أفراد أسرهم أو الموجهين الآخرين أو المدربين أو المستشارين الروحيين أو إخصائيي الصحة العقلية. قد يبدو لك أن التوجيه وظيفة يضطلع بها الفرد وحده، خاصة في الأزمات، ولست وحدك من يظن هذا.
اقرأ أيضاً: ما هي اليقظة الذهنية؟
واعلم أيضاً أن علاقتك مع المتعلم لا تسير في اتجاه واحد، فقد يكون الانفتاح على الاستفادة من المتعلمين مصدراً للطاقة الإيجابية لكليكما، إذ يمكن أن يعود عليك التوجيه العكسي بمكاسب كبيرة، من الناحيتين العاطفية والعملية، لاسيما في العالم الافتراضي المتغير باستمرار الذي يمتلك فيه المواطنون الرقميون الكثير لتعليمه لبقية الناس. وقد تعلم أحدنا مثلاً استخدام ألواح الكتابة الافتراضية من أحد المتعلمين، وهو ما زاد من قدرتنا على التدريس وإشراك الجماهير بشكل فاعل. ويمكن أن يؤدي التعبير أيضاً عن تقديرك للحظات تبادل المعرفة هذه إلى توطيد دعائم علاقتك وإبراز جانبها المرتبط بالدعم العاطفي للمتعلم.
قد يجد الموجهون صعوبة في تبرير هذا النوع من التعاطف الذاتي والاعتناء بالذات، لكنه سيساعدك على أن تكون موجهاً أفضل. وتعد نمذجة هذه السلوكيات أعظم هدية تقدمها للمتعلمين.
اهتم بالرفاهة العاطفية لموجهك
قد تحدثك نفسك خلال توجيه المتعلمين بالتركيز على إكسابهم مهارات جديدة أو إسدائهم النصائح حول كيفية حل مشاكل تقنية معينة، ولكن العاملين في الخطوط الأمامية أشد ما يكونون حاجة إلى تلقي الدعم العاطفي منك، لذا من الأهمية بمكان أن تجعل رفاهتهم محور تركيز أي مناقشة توجيهية. فاحرص على تشجيع المتعلم على الإفصاح عما يشعر به وطمأنته، واعرض عليه استراتيجيات الحفاظ على الحيوية والسعادة، وعزز نقاط قوته.
ابدأ بالاستماع، واسأل المتعلم أكثر من مرة: "كيف حالك بصدق؟" وتوقع أن تسمع منه عبارات تنم عن مزيج من الحزن والقلق والخوف. شجعه على التحدث عن هذه المشاعر: ذلك أن تسمية الانفعالات العاطفية تساعدنا على الإحساس بها، وتسمح لها بالتدفق من خلالنا، وهو ما يؤدي بدوره إلى تحول مفيد في نشاط الدماغ وتصوره. توقع أيضاً أن تنطوي اجتماعات التوجيه على شحنة عاطفية أكثر من المعتاد، حتى إنك قد ترى دموع المتعلم تسيل على خديه. ساعد المتعلم على معرفة أنه ليس بمفرده، كأن تقول شيئاً على غرار: "لقد بكيتُ أنا أيضاً" أو "لقد مررت بالظروف ذاتها". قد يؤدي هذا إلى التخفيف عنه في أحزانه وتهدئة استجابة جهازه العصبي، علاوة على تقوية علاقتكما.
وإذا ساورك القلق بخصوص الكلمات التي يجب استخدامها مع المتعلمين، فاعلم أن الاستماع التأملي في حد ذاته داعم للغاية، وهو لا يستلزم سوى أخذ جوهر ما قاله المتعلم وتكراره عليه من جديد كنوع من التأكيد على أنك كنت تنصت إلى كلامه بعناية وتتفهمه بدقة. فإذا كان المتعلم، مثلاً، يصف مدى التوتر في العمل، فيمكنك أن تقول: "أسمع أنه مرهِق حقاً، ومن الصعب معرفة ما يجب فعله مع ما هو غير متوقع". وإذا أردت التعمق أكثر، فيمكنك أن تسأله: "ما التحدي الأكبر الذي تواجهه الآن؟ وكيف أساعدك على الخروج من هذا المأزق؟ ما الذي يسير على ما يرام، أو لا يزال يسير على ما يرام، في عالمك؟" قد يكون توضيح الأمور الأكثر أهمية بالنسبة للمتعلمين أكبر هدية تقدمها لهم على الإطلاق خلال الأوقات المشحونة بالتوتر، وبذلك تساعدهم على تقدير الأشياء التي تضفي معنى وهدفاً على حياتهم والتركيز عليها.
ثانياً: احرص على طمأنتهم واعرض عليهم فرص التواصل. ناقش خفض سقف التوقعات في هذه الأوقات المشوبة بالغموض، موضحاً أنه ينبغي لهم ألا يشعروا بضرورة تخطي حدود قدراتهم الحالية، وعبر في الوقت نفسه عن تقديرك لنقاط قوتهم. قد يكون مجرد تسميتها مفيداً بشكل مدهش، كأن تقول مثلاً: "أكثر ما يعجبني فيك حب الاستطلاع ورغبتك الشديدة في التعلم". أو: "سيتحول فيروس كورونا إلى صفحة في كتب التاريخ، وأنت تسهم في انتشالنا من هذه الأزمة، فشكراً لك".
أخيراً: أطلعهم على بعض الأساليب لدعم رفاهتهم العاطفية. شجع المتعلمين على تشكيل فريق خاص بهم لدعمهم والحد من مشاهدة وسائل الإعلام. قدّم لهم معلومة أو اثنتين عن فريق الدعم الخاص بك وكيفية الاستفادة منه، واسألهم عن الفريق الذي يحبون الاستعانة به، فحتى مجرد الحديث عن موارد الصحة العقلية يساعد على القبول بها. وقد استعان كل منا إما بمدرب أو طبيب نفسي أو معالج أو مستشار روحي، وأطلع المتعلمين على هذه الحقيقة في لحظة أو أخرى حسبما اقتضت الظروف.
قد يكون هذا مفيداً أيضاً لكل من الموجهين والمتعلمين لتنشيط العلاقات الخاملة، إذ يمكن أن تسهم مكالمة "تفقدية" أو رسالة البريد الإلكتروني في تعزيز العلاقة حتى بعد مرور سنوات منذ آخر اتصال بينكما. وثمة أدلة تدعم كفاءة التوجيه أو الإرشاد الافتراضي، على الرغم من أنه قد لا يكون مرضياً مثل التوجيه والإرشاد الشخصي. فبمقدور شخص واحد أن يُحدث فرقاً دائماً من عدة نواح، وقد يدوم أثر بضع كلمات مدى الحياة، حتى وإن كانت مذكورة بشكل عابر.