الإنتاجية البطيئة: دعوة للتمهل في عالم متسارع

5 دقيقة
shutterstock.com/Andrii Yalanskyi

هل تمنيت مرة لو أن لديك "وقتاً مفتوحاً" لإتمام مشاريعك بالجودة التي تستحقها؟

وهل تحدثك نفسك من وقت لآخر بمصارحة مديرك بأهمية "تقليل" عدد المهام التي يسندها إليك (أو يتوقع العميل إنجازها) لأنك ترى أن لكل مهمة "حقاً زمنياً"، ثم تتراجع خوفاً من اتهامك بالكسل وانخفاض الهمة؟

إذا كانت هذه حالك، فلدي بشرى سارة لك! بينما كنت أتصفح موقع أمازون، ظهر أمامي آخر كتاب (صدر العام الماضي) للباحث والمؤلف الشهير كال نيوبورت، بعنوان "الإنتاجية البطيئة: الفن المفقود للإنجاز دون احتراق". ولأن موضوع الإنتاجية موضوع شغوف به، وقد تناولته في مقالين سابقين هنا، قررت قراءة الكتاب، وكانت المفاجأة أني وجدت نفسي أمام طرح ثوري يدعو إلى التمهل في زمن يتفاخر بالسرعة، ويواجه مباشرة ثقافة العمل المفرط التي نمارسها ونمجدها يومياً، دون أن نسأل: "هل ما ننجزه حقاً يستحق هذا الإنهاك؟".

معضلة تعريف الإنتاجية 

لفهم السياق الذي يعالجه نيوبورت، من المفيد أن نعود قليلاً إلى جذور مفهوم "الإنتاجية". في العصور الزراعية، كانت الإنتاجية تقاس بكمية المحصول الناتج عن قطعة أرض معينة. ثم تطور المفهوم في الثورة الصناعية ليركز على عدد المنتجات التي يمكن للمصنع إنتاجها خلال فترة زمنية محددة مثل يوم أو سنة. كان هذا التعريف الكمي البسيط كافياً آنذاك لفهم المطلوب عمله، لأنه ساعد على تحسين الآلات وتطوير العمليات، ما أدى إلى قفزات كبيرة في الزراعة والصناعة.

ولكن مع دخولنا عصر المعلومات والحوسبة في النصف الثاني من القرن العشرين، تغيرت طبيعة العمل، وبدأ ميزان القوى يتحول من المصانع إلى المكاتب. وظهر ما يعرف اليوم بـ "عمال المعرفة" -أولئك الذين يؤدون أعمالاً فكرية وتحليلية وإبداعية- وهنا بدأت المعضلة: كيف نقيس إنتاجية من يبتكر، يخطط، يحلل، يكتب، يراجع؟ المهام باتت متنوعة وغير متكررة، ونتائجها ليست قريبة. ولم يعد بالإمكان تطبيق المقاييس القديمة على هذه الأدوار الجديدة.

خذ على سبيل المثال يوماً من حياتي بصفتي عامل معرفة في مجال صناعة المحتوى والترجمة، قد أتنقل خلال ساعات العمل بين مجموعة من المهام الذهنية المتنوعة:

  • وضع مخطط عرض تقديمي لأحد المنتجات.
  • المشاركة في اجتماع مطول حول سياسة التسويق الجديدة للشركة.
  • ترجمة بيان صحفي حول شراكة مع حليف تجاري جديد.
  • كتابة رسالة ترويجية تستهدف عملاءنا في سوق محددة وباللهجة المحلية.
  • تدقيق مقال جديد كتبه أحد الزملاء قبل نشره على مدونة موقعنا الإلكتروني.

وقد تتغير هذه المهام من يوم لآخر نوعاً وكماً، فكيف يمكنك قياس إنتاجيتي؟

كان عالم الإدارة الراحل ومنظرها الكبير، بيتر دراكر، من أوائل من تنبهوا إلى هذه المعضلة الناشئة فكتب عنها في ورقة بحثية قيمة عام 1999 بعنوان "إنتاجية عامل المعرفة: التحدي الأعظم"، غير أنه اكتفى بتقديم مبادئ عامة لضمان تلك الإنتاجية وليس لقياسها، وهذا يؤكد ما أقره في كتاب سابق بأنه "لا يمكن تطبيق الإدارة التفصيلية على عامل المعرفة، يمكن مساعدته فحسب، لكن عليه هو أن يدير ذاته".

الدخول في دوامة الانشغال المستمر 

في ظل غياب أدوات فعالة لقياس إنتاجية عمال المعرفة، بدأ الاعتماد على المظاهر الخارجية دليلاً على انخراط الموظف في عمله. فأصبحت سرعة الرد على المحادثات والرسائل الإلكترونية وكثرة التفاعل على الشاشات، مؤشرات سطحية على الإنتاجية. وهذا التحول صنع بدوره بيئة يحكمها "النشاط الظاهري" أكثر من العمل العميق المؤدي إلى نتائج حقيقية. وكلنا رأى ذاك المشهد: موظف يهرع إلى لوحة مفاتيحه وينكب على جهازه ما إن يسمع خطوات المدير القادم من بعيد، لإعطاء الانطباع بالانشغال في أمور العمل.

ومع انتشار ثقافة "الانشغال الدائم والتقلب المستمر بين المهام"، بات الكثيرون يفضلون إنجاز المهام الصغيرة والسريعة التي تلاحظ وتحتسب، على حساب المهام المعقدة والصعبة التي تبني مستقبل الشركة ولكن لا تظهر سريعاً في لوحة الإنجاز، وهو ما أطلق عليه نيوبورت "الإنتاجية الزائفة"؛ أي إنجاز بلا أثر حقيقي.

في المقابل، الموظفون الذين يغوصون في أعمال ذات مغزى، يجدون أنفسهم في موقف دفاع دائم: مهامهم غير قابلة للعد، ونتائجهم لا تظهر فوراً. وهو ما يدفعهم إلى العمل لساعات إضافية فقط لإثبات قيمتهم، ما يفتح الباب واسعاً أمام الاحتراق الوظيفي.

استدعاء الماضي لمواجهة الحاضر

على الرغم من محاولة نيوبورت إنجاز اختراق في التعامل مع مشكلة معاصرة بامتياز، فإنه يمهد لنظريته من خلال استدعاء عدد من الأمثلة التاريخية على جودة العمل والإنتاجية العالية حين لم تكن هناك أجهزة كمبيوتر، ولا اجتماعات زوم متلاحقة، ولا ثقافة عمل مفرط تجبر الشخص على العمل 12 ساعة في اليوم لأسبوع متواصل.

  • عالم الرياضيات والفيزيائي المعروف، إسحاق نيوتون، قضى ما يقرب من 20 عاماً في بلورة أفكاره التي جمعها في كتابه العظيم "المبادئ" (The Prinicipa).
  • عالم الطبيعة والأحياء، تشارلز داروين، قضى عقوداً في الملاحظة والتأمل والترحال قبل أن يخرج بكتابه المشهور "عن أصل الأنواع".
  • رائدة الرواية الإنجليزية، جين أوستين، أمضت 10 سنوات قبل أن تبدأ بنشر رواياتها الست التي احتفى بها النقاد والأدباء فيما بعد.

لم يكن هؤلاء الأشخاص يسعون خلف تسليمات أسبوعية أو إنجازات مرئية، بل عملوا بوتيرة تسمح بالنضج الفكري والعمق. وانطلاقاً من ذلك، صاغ نيوبورت نظريته في "الإنتاجية البطيئة" مرتكزاً على 3 دعائم رئيسية، تمثل تحولاً جذرياً في نظرتنا إلى العمل:

  • أداء مهمات أقل: لأن كثرة المهام تشتت التركيز وتفتت الانتباه، بينما القليل المنسق يفتح المجال للإتقان والتعمق.
  • العمل بالسرعة الطبيعية: ليس الهدف هو أن نسابق الزمن، بل أن نمنح كل عمل ما يستحقه من وقت ودقة.
  • التركيز على الجودة: لا على عدد المهام أو سرعة الإنجاز، لأن القيمة الحقيقية تكمن في الأثر لا في الكم.

وفي هذا السياق، يحذر نيوبورت من الانخراط في سباق لا نهاية له من المهام المتراكمة والمشاريع المتتالية، إذ يرى أن هذا السباق المحموم لا يقود إلا إلى تآكل جودة العمل واستنزاف طاقة الموظفين. بل قد يجد الكثيرون أنفسهم مضطرين إلى تصنع مظاهر الإنجاز خوفاً من التقييم السلبي أو الاستبعاد، ما يرسخ مفهوم "الإنتاجية الزائفة"، ويؤدي إلى ثقافة عمل غير صحية وغير مستدامة تضر بالموظف والمؤسسة معاً.

وهذا ليس نداء للاسترخاء ولا انسحاباً من عالم الكفاءة، بل هو دعوة للتفكير العميق وإعادة بناء العلاقة بين الوقت والعمل. فالإنتاجية البطيئة، على عكس ما قد يتبادر إلى الذهن، ليست تضحية بالمكاسب الاقتصادية مقابل الراحة النفسية والذهنية لعمال المعرفة (على أهميتها)، بل هي رهان على مخرجات ذات قيمة أعلى وأكثر تأثيراً من خلال:

  • إعادة النظر في أولويات المشاريع والمهام المطلوب تنفيذها، ثم تصنيفها وفق جدول زمني متباعد يراعي قيمتها الاستراتيجية وتوفر الموارد اللازمة لتحقيقها.
  • إعادة الاعتبار لقيمة التركيز والعمل العميق مصدراً أساسياً لجودة المخرجات، واتخاذ تدابير جدية في بيئة العمل تقلل من المشتتات (مثلاً: ساعات محددة خالية من التواصل، يوم بلا اجتماعات، السماح بالعمل من المنزل).
  • التحرر من ذهنية "التقييم الكمي" عند التعامل مع عمال المعرفة، لأن طبيعة عملهم لا تخضع لقوالب ثابتة ولا تقاس بمسطرة عددية، بل تتأثر بظروف ذهنية ومعرفية لا يمكن محاكاتها آلياً.

تساؤلات حول إمكانية التطبيق

مع كل الاحتفاء بما يطرحه نيوبورت من خلال اللقاءات المصورة والمقالات التحليلية في الصحف العالمية، لم تغب أصوات النقد. فقد رأى بعض المؤلفين والمفكرين أن أفكاره قد تكون صالحة فقط لفئات محددة مثل المستقلين أو الأكاديميين الذين يتمتعون بهامش واسع من الحرية في إدارة وقتهم، بينما يجد غالبية الموظفين أنفسهم في منظومات مترابطة تلزمهم بمهام مشتركة، وتقيد قدرتهم على التمهل أو تقليص عدد المسؤوليات باسم الجودة.

لكن أليس من الظلم أن نتخلى عن فكرة لمجرد عدم تطبيقها بالكامل؟ إن الإنتاجية البطيئة ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة عقلانية، يمكن أن تنجح حين تصبح ثقافة جماعية يتبناها الفريق والإدارة معاً، لا مجرد اجتهاد فردي في معزل عن المؤسسة. فعند الاتفاق على أن الجودة أولوية، يصبح من الممكن إعادة جدولة المهام، والتفاوض بمرونة حول الأولويات، وخلق بيئة عمل تعترف بقيمة الوقت لا بكثرة الإنجاز.

أما أنا، فبعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب، شعرت براحة غير مسبوقة. إذ أدركت أن مشاريعي التي تمضي ببطء لا تسير عكس التيار، بل تمضي بثبات نحو غاية تستحق. وحتى إن تأخرت في الإثمار، فإنها تنمو بجذور راسخة، وقد يكون لبعضها مستقبل يفوق التوقعات، وذلك في الوقت المناسب.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي