ثمّة اعتقاد ضمني راسخ في مجال ممارسة الأعمال (البزنس) ودراستها بأنّ هناك ما يمسى بمفهوم علم الإدارة وأنّ الإدارة هي علم، وبأنّ القرارات في عالم الأعمال يجب أن تستند إلى تحليل صارم للبيانات. وقد عزّز انفجار البيانات الضخمة (Big Data) هذه الفكرة. وفي بحث حديث لشركة إرنست آند يونغ (EY)، تبيّن بأنّ 81% من المدراء التنفيذيين كانوا قد قالوا بأنهم يؤمنون بأنّ "البيانات يجب أن تكون في صلب كل عمليات اتخاذ القرارات"، الأمر الذي قاد (EY) إلى المناداة بأنّ "البيانات الضخمة قادرة على القضاء على الاعتماد على آلية اتخاذ القرارات المبنيّة على "الإحساس الداخلي"".
يجد المدراء هذا المفهوم جذّاباً. فالعديد منهم لديه خلفية في مجال العلوم التطبيقية. وحتى لو كانوا لا يمتلكون تلك الخلفية، إلا أن هناك احتمالاً كبيراً بأن تكون لديهم شهادة الماجستير في إدارة الأعمال (MBA) – وهي شهادة تعود أصولها إلى مطلع القرن العشرين، عندما كان فريدريك وينسلو تايلور قد طرح موضوع "الإدارة العلمية".
وها هي برامج الماجستير في إدارة الأعمال تُغرِقُ عالم الأعمال بالخريجين، حيث يصل عددهم إلى أكثر من 150 ألفاً سنويّاً في الولايات المتحدة الأميركية لوحدها. وقد كانت هذه البرامج تحاول تحويل الإدارة إلى علم الإدارة مادي طوال العقود الستّة الماضية تقريباً. وجاء انطلاق هذه الجهود إلى حدّ كبير استجابة للتقارير الساخرة التي صدرت عن مؤسستي فورد وكارنيغي في العام 1959 وتضمّنت وصفاً لحالة تعليم الأعمال في الولايات المتّحدة. فبحسب وجهة نظر معدّي التقارير –وكلّهم من الاقتصاديين – فإن برامج تدريس الأعمال كانت مُتخمة بالطلاب الذين لا يتمتّعون بالمؤهلات الكافية، والذين كان أساتذتهم يقاومون الصرامة المنهجية للعلوم المادية التي كانت العلوم الاجتماعية الأخرى قد تبنّتها. باختصار، لم يكن تعليم الأعمال علمياً بما يكفي.
وفي مسعى كان يهدف جزئياً إلى معالجة هذا الخلل، دعمت مؤسسة فورد إصدار مجلات علمية أكاديمية، وموّلت إنشاء برامج للدكتوراه في كلية هارفارد للأعمال، ومعهد كارنيغي للتكنولوجيا (الذي تحوّل لاحقاً إلى كارنيغي ميلون)، وكولومبيا، وجامعة شيكاغو.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
عزّزت ثورة البيانات الضخمة الاعتقاد السائد بأنّ التوصّل إلى جميع القرارات في عالم الأعمال (البزنس) يجب أن يكون عبر التحليل العلمي. لكنّ هذه المقاربة تتّصف بالمحدودية والقيود، وهي تميل إلى تضييق الخيارات الاستراتيجية وتعويق الابتكار.
لماذا تحصل؟
إنّ المنهج العلمي مصمّم لفهم الظواهر الطبيعية التي لا يمكن تغييرها، فالشمس ستظل تشرق غداً. وهو ليس طريقة فعّالة لتقويم الأشياء غير الموجودة بعد.
الحل
إذا أراد المدراء اتّخاذ قرار بخصوص ما يمكن أن يحصل، يجب عليهم صياغة سرديات بخصوص الاحتمالات المستقبلية، وتطبيق أدوات مثل الاستعارة، والمنطق والعاطفة والتي كان أرسطو أوّل من وصفها. وينبغي عليهم بعد ذلك وضع فرضية بخصوص ما يجب أن يكون صحيحاً لكي تتحقق هذه السرديات، وأن يتثبّتوا من صحّة هذه الفرضيات عبر النماذج التجريبية.
هل صحيح أنّ هناك ما يسمى بمفهوم علم الإدارة حقاً؟ وهل من الصواب أن نساوي بين الصرامة الفكرية وتحليل البيانات؟ إذا كانت الإجابتان عن هذين السؤالين هي كلا وكلا – كما سنشير في الصفحات التالية – فكيف سيتوصّل المدراء إلى اتّخاذ قراراتهم إذاً؟ سوف نطرح مقاربة بديلة لعملية وضع الاستراتيجية والابتكار – وهي مقاربة تعتمد اعتماداً أقل على تحليل البيانات، واعتماداً أكبر على الخيال والتجريب والتواصل.
لكن دعونا أولاً نلقي نظرة على المكان الذي بدأ علم الإدارة فيه – أو بالأحرى من بدأ علم الإدارة معه.
هل الأعمال (البزنس) هي علم الإدارة حقاً؟
بدأ العلم كما نعرفه اليوم على يد أرسطو، الذي كان تلميذاً عند أفلاطون. فقد كان أول من كتب عن السبب والنتيجة (السببية أو العلية كما تسمّى) ومنهجية إظهار هذه العلاقة. وهذا ما جعل "الإظهار" أو الإثبات هدف العلم والمعيار النهائي لـ "الحقيقة". وعلى هذا النحو، كان أرسطو هو الأب الروحي لمقاربة الاستكشاف العلمي، التي منحها غاليليو غاليلي، وفرانسيس بيكون، ورينيه ديكارت، وإسحاق نيوتن شكلها الرسمي كـ "منهج علمي" بعد 2000 عام.
مهما حاولنا فإننا لا نبالغ إذا قلنا بأنّ أثر العلم على المجتمع كان هائلاً. فالاكتشافات العلمية لعصر الأنوار – وهي ضاربة الجذور في المنهج الأرسطوي – أفضت إلى الثورة الصناعية والتقدّم الاقتصادي الذي تلاها، حيث أسهم العلم في حلّ المشاكل وفي جعل العالم مكاناً أفضل. فلا عجب في أننا وصلنا إلى حدّ اعتبار العلماء العظام من قبيل ألبرت أينشتاين بمثابة قدّيسي العصر الحديث. ولا عجب أيضاً بأننا بتنا ننظر إلى المنهج العلمي بوصفه النموذج الأساسي للأشكال الأخرى من الاستقصاء، كما أصبحنا نتحدّث عن "العلوم الاجتماعية" وليس عن "الدراسات الاجتماعية".
لكنّ أرسطو ربما قد يتساءل ما إذا كنّا قد سمحنا بالمبالغة في تطبيقنا للمنهج العلمي. فعندما عرّف مقاربته، وضع حدوداً واضحة تؤطر استعمالاتها، التي تتمثل في فهم الظاهرة الطبيعية التي "لا يمكن أن تكون إلا ما هي عليه". لماذا تشرق الشمس كل صباح، ولماذا يحصل خسوف القمر عندما يحصل، ولماذا تسقط الأشياء دوماً على الأرض؟ تقع هذه الأمور خارج نطاق سيطرة أي إنسان، والعلم هو دراسة سبب حصولها.
لكنّ أرسطو لم يزعم قط بأنّ جميع الأحداث كانت حتمية. بل على العكس من ذلك، كان يؤمن بالإرادة الحرّة وقوّة العقل البشري وقدرته على اتخاذ خيارات يمكن أن تغيّر الأوضاع تغييراً جذرياً. بعبارة أخرى، إذا ما مارس الناس فعل الاختيار، فإنّ الكثير من الأشياء في العالم يمكن أن تكون في وضع مختلف عمّا هي عليه. لقد كتب أرسطو قائلاً: "معظم الأشياء التي نتّخذ قرارات بشأنها، والتي نستقصيها نتيجة لذلك، تقدّم لنا احتمالات بديلة... كل أفعالنا تتّسم بأنها ذات طابع مشروط بالظروف، وقلّما يكون أي منها ناجماً عن الضرورة". لقد كان يؤمن بأنّ عالم الاحتمالات الممكنة هذا ليس محكوماً بالتحليل العلمي وإنما بالإبداع الإنساني والإقناع.
نعتقد بأنّ هذا الأمر يصحّ تحديداً في حالة القرارات الخاصة بالاستراتيجية والابتكار في عالم الأعمال. فليس بوسعك أن ترسم مساراً للمستقبل أو أن تحقق التغيير بمجرّد تحليل التاريخ. ونحن نعتقد، على سبيل المثال، بأنّ سلوك الزبائن لن يشهد تحوّلاً على الإطلاق بسبب منتج يستند تصميمه إلى تحليل سلوك هؤلاء الزبائن في الماضي.
ومع ذلك، فإن إحداث تحوّلات في عادات الزبائن وتجاربهم هو ما تقوم به الابتكارات التجارية العظيمة. لقد صنع ستيف جوبز وستيف ووزنياك وغيره من الروّاد في مجال الحوسبة جهازاً جديداً بالكامل أحدث ثورة في طريقة تفاعل الناس مع بعضهم البعض وفي تعاملاتهم التجارية. كما أنّ السكك الحديدية والسيارة والهاتف قادت إلى حصول تحوّلات سلوكية واجتماعية هائلة لم يكن تحليل البيانات السابقة ليكون قادراً على التنبؤ بها.
المؤكد في الأمر هو أنّ المبتكرين غالباً ما يدمجون الاكتشافات العلمية ضمن اختراعاتهم، لكن عبقريتهم الحقيقية تكمن في قدرتهم على تخيّل منتجات أو عمليات لم تكن قائمة من قبل بكل بساطة.
ليس العالم الحقيقي مجرّد محصلة تقرّرها القوانين العلمية الحتمية، وإذا ما تصرّفنا على أساس أنّه كذلك، فإننا ببساطة ننفي إمكانية الابتكار العبقري. كما أنّ المقاربة العلمية لعملية اتخاذ القرارت في قطاع الأعمال فيها شيء من المحدودية والقيود، ويجب على المدراء تحديد مواطن هذه القيود.
ممكن أم غير ممكن؟
تنطوي معظم الأوضاع على عناصر بوسعك تغييرها، وعناصر ليس بمقدورك تغييرها. وتكمن المهارة الأساسية في التمييز بينهما. أنت بحاجة إلى طرح السؤال التالي: ما الذي يسيطر على الوضع هل هو الممكن (أي الأشياء التي نستطيع تغييرها نحو الأفضل) أم الضرورة (أي العناصر التي لا نستطيع تغييرها)؟.
لنفترض جدلاً بأنّك تخطط لبناء خط لتعبئة الزجاجات البلاستيكية بمياه الينابيع. إن الطريقة المعيارية لفعل ذلك تتمثّل في أخذ أنابيب بلاستيكية متناهية الصغر وتسخينها واستعمال ضغط الهواء لتشكيلها على هيئة الزجاجة المطلوبة، ومن ثم تبريدها حتى تصبح قاسية بما يكفي، وبعد ذلك ملؤها بالمياه. وهناك آلاف خطوط تعبئة الزجاجات في أنحاء العالم تعمل بهذه الطريقة.
بعض أجزاء هذه العملية لا يمكن أن يكون إلا كما هو عليه: ما هي درجة الحرارة المطلوبة لكي يتمدّد البلاستيك، وما هو حجم ضغط الهواء المطلوب لتشكيل الزجاجة بالهيئة المرغوبة، وما سرعة ملء الزجاجة بالماء؟ إنّ ما يحكم هذه الأشياء هو قوانين الترموديناميك والجاذبية، التي لا يمكن للمدراء التنفيذيين أن يغيّروا فيها قيد أنملة.
ومع ذلك فإنّ هناك الكثير الكثير من الأشياء الأخرى التي يمكنهم تغييرها. فعلى الرغم من أنّ قوانين العلوم تحكم كل خطوة، لكنّ الخطوات نفسها ليس بالضرورة أن تسير وفق التسلسل الذي هيمن على عملية تعبئة الزجاجات لعقود من الزمن. فقد أثبتت شركة تدعى "ليكويفورم" (LiquiForm) ذلك بعد أن طرحت السؤال التالي: لماذا لا نستطيع جمع خطوتين في خطوة واحدة من خلال تشكيل الزجاجة بالضغط من السائل الذي نسكبه فيها، عوضاً عن استعمال الهواء؟ وقد تبيّن بأنّ هذه الفكرة قابلة للتطبيق تماماً.
يحتاج المدراء التنفيذيون إلى تفكيك كل حالة من حالات اتخاذ القرار إلى الأجزاء "الممكنة" والأجزاء "غير الممكنة" ومن ثمّ اختبار منطقها. فإذا كانت الفرضية الأولية هي أنّ عنصراً معيّناً لا يمكن تغييره، فإن المدير التنفيذي يجب أن يطرح السؤال التالي: ما هي قوانين الطبيعة التي تشير إلى ذلك؟ فإذا كان المنطق القائل بأن الأمر "غير ممكن" مقنعاً، فإنّ أفضل مقاربة هي تطبيق منهجية تسهم في نقل الوضع الراهن إلى الحالة المثالية. في تلك الحالة دع علم الإدارة يقول كلمته واستعمل الأدوات التي يوفّرها لك من البيانات والتحليلات لتستند إليها في خياراتك.
البيانات ليست منطقاً. لا بل في واقع الأمر، تأتي معظم التحرّكات التجارية المربحة جداً من مخالفة البراهين.
وعلى المنوال ذاته، يحتاج المدراء التنفيذيون إلى اختبار المنطق الكامن وراء تصنيف بعض العناصر في خانة "الممكن". ما الذي يشير إلى أن السلوكيات أو المحصلات يمكن أن تكون مختلفة عمّا كانت عليه؟ إذا كان المنطق الداعم قويّاً بما يكفي، دع التصميم والخيال يقولان كلمتيهما واستعمل تحليل البيانات لخدمتهما.
من الأهمية بمكان أن ندرك بأنّ وجود البيانات لا يشكّل دليلاً كافياً على أنّ المحصلات لا يمكن أن تكون مختلفة. فالبيانات ليست منطقاً. لا بل في واقع الأمر، تأتي معظم التحرّكات التجارية المربحة جداً من مخالفة البراهين. ويُعتبرُ رئيس شركة "ليغو" يورغن فيغ كنودستورب مثالاً على هذه النقطة. ففي العام 2008، وعندما كان الرئيس التنفيذي للشركة، كانت بياناتها تشير إلى أن الفتيات أقل اهتماماً من الفتيان بالألعاب التي تأخذ شكل الحجارة القابلة للتركيب: 85% من لاعبي الليغو كانوا من الصبيان، وكانت كل المحاولات الهادفة إلى اجتذاب الفتيات تبوء بالفشل. وبالتالي كان مدراء الشركة مقتنعين بأنّ الفتيات كنّ أقل ميلاً بطبعهن إلى اللعب بالحجارة التركيبية، ووضعوا الأمر في خانة "غير الممكن". لكن كنودستوب لم ينظر إلى الأمر على هذا النحو. لقد كانت المشكلة باعتقاده هي أن ليغو لم تكن قد اكتشفت طريقة لجذب الفتيات للّعب بالحجارة التركيبية. وقد أثمر حدسه عن الإطلاق الناجح لخط "الأصدقاء" (Friends) في العام 2012.
يبيّن هذا المثال من شركة ليغو بأنّ البيانات ليست أكثر من مجرّد برهان أو دليل، ولكن ليس من الواضح دائماً ما هو الشيء الذي تبرهن عليه. وعلاوة على ما سبق، فإنّ غياب البيانات لا يستبعد الاحتمالات الأخرى الممكنة. فإذا ما كنت تتحدّث عن محصلات وسلوكيات جديدة، فمن الطبيعي ألا تكون هناك براهين سابقة. وبالتالي فإن المفكّر الذي يتبنّى منهجية صارمة بحق، لا يجب أن يأخذ بالحسبان ما تشير إليه البيانات فحسب، وإنما ما يمكن أن يحصل أيضاً ضمن نطاق الاحتمالات الممكنة. وهذا يتطلّب إعمال الخيال، وهي عملية تختلف اختلافاً جذرياً عن التحليل.
كما أن الحدّ الفاصل بين "الممكن" و"غير الممكن" أكثر ضبابية مما يعتقد الكثير من الناس. وسوف يدفع المبتكرون هذا الحد الفاصل أكثر من معظم الناس، مُتحدِّين ما هو "غير ممكن".
كسر الإطار
يحتاج تخيّل الاحتمالات الممكنة الجديدة أولاً إلى عملية تفكيك للإطار. فغالباً ما يظهر الأمر الواقع على أنه الطريقة الوحيدة لإنجاز الأشياء، وهو تصوّر من الصعب هزّه.
وقد شهدنا مؤخراً مثالاً جيّداً على "السقوط في فخ الأمر الواقع" أثناء تقديمنا للمشورة لشركة استشارية تعمل مع زبائنها من المنظمات غير الحكومية. وتعاني هذه المنظمات من شح الموارد، حيث أنها تحصل على أموال سخية تغطي التكاليف المباشرة لبرامجها لكنها تكابد الأمرّين في الحصول على الدعم لتكاليفها غير المباشرة. حيث يمكن أن تقوم مؤسسة خاصة كبيرة، على سبيل المثال، بتقديم التمويل الكامل لتوسيع برنامج ناجح جداً لتعليم الفتيات في أميركا اللاتينية تقوم به جمعية خيرية بحيث ينتقل ليغطّي إفريقيا جنوب الصحراء، ومع ذلك، فإن هذا التمويل قد لا يغطّي إلا جزءاً يسيراً من النفقات التشغيلية غير المباشرة المرتبطة بالبرنامج، لا بل حتى تكلفة تطوير البرنامج في المقام الأول. ويعود هذا الأمر إلى أنّ الجهات المانحة عادة ما تحدّد مستويات متدنية واعتباطية للتكاليف غير المباشرة – حيث أنها تسمح غالباً بتخصيص 10% إلى 15% من المنحة لتغطية هذه التكاليف، على الرغم من أنّ التكاليف غير المباشرة تشكّل ما يصل حتّى 40% إلى 60% من التكاليف الإجمالية لمعظم البرامج.
قبلت الشركة الاستشارية هذا التوصيف للمشكلة وكانت تعتقد بأنّ التحدّي الاستراتيجي يتمثّل في إيجاد طريقة لإقناع المانحين بزيادة النسبة المئوية المخصّصة للتكاليف غير المباشرة. وكانت هناك مُسلَّمة ثابتة تقول بأن الجهات المانحة كانت تنظر إلى التكاليف غير المباشرة بوصفها شرّاً لا بدّ منه يبدّد الموارد بعيداً عن المستفيدين.
طلبنا من الشركاء في الشركة بأن يختبروا هذا الاعتقاد من خلال الإصغاء إلى ما قاله المانحون عن التكاليف عوضاً عن محاولة إقناعهم بالحاجة إلى زيادة نسب التعويضات. وقد فوجئ الشركاء بما سمعوه. فالجهات المانحة لم تكن متعامية عن دورة شح الموارد التي تصيب المؤسسات غير الحكومية، بل كانت تكرهها وتتفهّم دورها في التسبب بها. لكنّ المشكلة كانت تكمن في أنّ هذه الجهات المانحة لم تكن تثق في إدارة الحاصلين على المنحة للتكاليف غير المباشرة. وعندما تحرّر الشركاء من معتقدهم الوهمي، سرعان ما توصّلوا إلى مجموعة واسعة من الحلول التي تركّز على العملية، والتي يمكن أن تساعد المنظمات التي لا تتوخّى الربح في بناء كفاءتها في مجال إدارة التكاليف واكتساب ثقة المانحين.
العلوم الطبيعية تفسّر العالم كما هو، لكنّ القصة يمكن أن تصف عالماً غير موجود بعد.
رغم أنّ الإصغاء إلى الجهات المعنية والتعاطف معها قد لا يبدو بصرامة ومنهجية تحليل البيانات المستقاة من مسح رسمي، لكنّه في واقع الأمر طريقة مجرّبة وحقيقية لاستطلاع آراء الناس، وهي مألوفة لدى العاملين في حقل الانثروبولوجيا والإثنوغرافيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغير ذلك من العلوم الاجتماعية. يدرك العديد من قادة قطاع الأعمال، وتحديداً من يطبّقون مقاربة التفكير التصميمي (Design Thinking)، وغيرها من المقاربات التي تركّز على المستخدم في حقل الابتكار، أهمية الأبحاث الكيفية (أي الأبحاث النوعية التي تختلف عن الأبحاث الكمية) والأبحاث القائمة على الملاحظة في فهم السلوك البشري. ففي شركة ليغو، على سبيل المثال، تسبّب تشكيك الرئيس التنفيذي كنودستوب بالافتراضات الجندرية (حول الفتيات والفتيان) في إطلاق مجموعة من الدراسات الإثنوغرافية على مدار أربع سنوات قادت إلى اكتشاف أنّ الفتيات أكثر اهتماماً بكثير باللعب الجماعي من الفتيان، مما دلّ على أنّ أي لعبة جماعية للأحجار التركبيبية يمكن أن تثير اهتمامهن.
لكنّ البحث الإثنوغرافي، وعلى الرغم من كونه أداة قوية، إلا أنه ليس أكثر من نقطة انطلاق لإطار جديد. ففي نهاية المطاف، يجب أن تحدّد الاحتمالات الممكنة، وأن تستقطب الناس لينضمّوا إليك ويدعموا هذه الرؤية. ولكي تفعل ذلك، فإنّك بحاجة إلى سردية جديدة أو خطاب جديد ليحلّ مكان الإطار القديم الذي كان قد قيّد الناس. لكنّ مبادئ عملية صياغة القصّة تختلف اختلافاً جذرياً عن مبادئ العلوم الطبيعية. لأنّ العلوم الطبيعية تفسّر العالم كما هو، لكنّ القصة يمكن أن تصف عالماً غير موجود بعد.
تأليف سردية مقنعة
ربما قد يبدو الأمر غير محتمل، لكنّ أرسطو، وهو الفيلسوف ذاته الذي أهدانا المنهجية العلمية، كان أيضاً قد حدّد طرقاً لصياغة سرديات مقنعة. في كتابه، "فن البلاغة" (The Art of Rhetoric)، يصف أرسطو نظاماً للإقناع يقوم على ثلاثة عناصر:
- الأخلاق (Ethos): امتلاك الإرادة والسمات الشخصية لتغيير الواقع الراهن. فلكي يكون مؤلف السردية فعّالاً، فإنّه يجب أن يتمتّع بالمصداقية والأصالة.
- المنطق (Logos): البنية المنطقية للمحاججة. ويجب أن يوفّر ذلك سبباً مقنعاً صارماً لتحويل المشاكل إلى احتمالات ممكنة، والاحتمالات الممكنة إلى أفكار، والأفكار إلى أفعال.
- العاطفة (Pathos): القدرة على التعاطف. فلكي يكون المؤلف قادراً على إلهام جمهوه بهدف تحقيق تحرّك على نطاق واسع، فإنه يجب أن يفهم هذا الجمهور.
دعونا نأخذ المثال التالي من اندماج شركتي تأمين كبيرتين في صفقة بمليارات الدولارات، والذي يبيّن كيفية استعمال الأخلاق والمنطق والعاطفة. فقد كانت الشركتان في حالة من المنافسة منذ زمن بعيد. وكان هناك خاسرون ورابحون من الصفقة، كما كان الموظفون وعلى كل المستويات يشعرون بالقلق وعدم الاستقرار. وما زاد الطين بلّة وعقّد الأمور، هو أن كلا الشركتين كانتا قد نمتا من خلال الاستحواذ، ممّا يعني عملياً بأننا كنّا أمام اندماج 20 أو 30 ثقافة مختلفة. وكانت هذه المجموعات الموروثة الأصغر حجماً مستقلة وتقاوم أي جهود تُبذل لدمجها بهدف تحقيق قدر أكبر من التآزر في العمل. وإذا لم يكن كل ذلك كافياً، فإن الأزمة المالية العالمية اندلعت بعد الاندماج مباشرة، الأمر الذي قاد إلى حالة من الانكماش في قطاع التأمين بواقع 8%. وبالتالي فقد واجه قادة الشركتين المندمجتين تحدّياً مزدوجاً يتمثّل في تراجع السوق وفي وجود ثقافة مؤسسية مفعمة بحالة من التشكيك.
إنّ المقاربة الطبيعية لعملية التكامل والدمج في مرحلة ما بعد الاندماج هي المقاربة العقلانية والاختزالية، إذ ينبغي تحليل هيكلي التكاليف الحاليين في كلتا الشركتين، وتوحيدهما ضمن هيكل واحد – على أن تُدعم هذه الخطوة بتسريح الموظفين "الفائضين عن الحاجة". لكنّ قائد الشركتين المندمجتين لم يكن يرغب في اتّباع العرف السائد. بل أراد بناء مؤسسة جديدة بالكامل ومن الصفر. وقد استعمل عنصر "الأخلاق" من خلال التعبير عن الهدف المتمثّل في بناء مؤسسة أكبر وأفضل عوضاً عن تحقيق التكامل المعتاد في حالات الاندماج المشابهة.
لكنّه كان بحاجة إلى عنصر "المنطق" – أي المبرر القوي والمقنع لمستقبل سيكون مختلفاً. وقد بنى هذا المنطق باستعمال استعارة أو صورة مجازية هي "المدينة المزدهرة". فكما هو حال المدينة، فإن المؤسسة الجديدة سوف تتضمّن نظاماً متنوّعاً ينمو بطرق متوافقة مع الخطط، وطرق أخرى غير متوافقة مع الخطط. وقال بأنّ الجميع سيكونون جزءاً من النمو وسيقدّمون إسهاماتهم إلى المدينة. لقد أطلق منطق المدينة المزدهرة العنان لخيال الموظفين بما يكفي لكي ينحازوا إلى المهمّة المطلوبة، ويتخيّلوا الاحتمالات الممكنة لهم ولدورهم في المؤسسة.
وقد احتاج هذا المسعى إلى شيء من "التعاطف" أيضاً – أي تكوين رابطة عاطفية تدفع الموظفين إلى الالتزام ببناء المستقبل الجديد معاً. ولكي تحشد المجموعة القيادية في الشركة جهود هؤلاء الموظفين، فقد تبنّت مقاربة جديدة في التواصل. ففي الأحوال المعتادة، يلجأ المدراء التنفيذيون إلى الإبلاغ عن الخطط الخاصّة بمرحلة ما بعد الاندماج عبر الاجتماعات العامّة، والعروض، والرسائل الإلكترونية التي تضع الموظفين في الطرف المتلقي لهذه الرسائل. ولكن عوضاً عن ذلك، لجأت المجموعة القيادية في الشركة إلى إقامة سلسة من الجلسات التعاونية التي شملت حوارت بين مختلف وحدات الشركة، حيث انصبّت هذه الحوارات على استعارة "المدينة المزدهرة" التي استعملتها هذه الوحدات كأداة لاستكشاف التحدّيات وتصميم العمل كلٌ ضمن نطاق اختصاصها. كيف سيبدو قسم المطالبات التأمينية الجديد في المدينة المزدهرة؟ كيف سيكون شكل القسم المالي؟ عملياً، كان الموظفون يؤلفون سردياتهم الصغيرة الخاصّة بهم ضمن السردية الأوسع التي كان القادة قد وضعوها. وقد تطلّبت هذه المقاربة المفعمة بالدعابة والمرح شيئاً من الشجاعة لأنها لم تكن معتادة بالنسبة لهذا النوع من المؤسسات الكبيرة في قطاع يتّصف بأنّه ذو طابع محافظ.
حققت المقاربة نجاحاً باهراً. فخلال ستة أشهر، ارتفعت مؤشرات تفاعل الموظفين من رقم ضعيف لم يتجاوز 48% إلى رقم مذهل بلغ 90%. وقد ترجم ذلك في الأداء: فرغم أنّ قطاع التأمين كان يمرّ بحالة انكماش، إلا أنّ أعمال الشركة نمت بنسبة 8%، في حين ارتفعت معدلات رضى الزبائن من معدّل وسطي بلغ 6 إلى 9 (على مقياس من 1 إلى 10).
تُظهرُ هذه الحالة أهمية أداة بلاغية أخرى ألا وهي وجود استعارة قوية تجسّد جوهر السردية في جملة واحدة. كما أنّ الاستعارة المُصاغة بإتقان تعزّز العناصر الثلاثة للإقناع. فهي تجعل "المنطق" أو المحاججة المنطقية أكثر إقناعاً، وهي تعزّز "العاطفة" من خلال مساعدة الجمهور على الشعور بحالة من التآلف مع المحاججة. وأخيراً، المحاججة الأكثر إقناعاً وإشراكاً للناس تعزّز السلطة الأخلاقية للقائد ومصداقيته، وهذا بالضبط عنصر "الأخلاق".
لماذا تعتبر الاستعارة هامّة؟
نعلم جميعنا بأنّ القصص الجيّدة والمؤثرة لا بدّ أن تستند إلى استعارات قويّة. وقد لاحظ أرسطو نفسه بأنّ "الكلمات العادية لا تنقل إلا المعنى الذي نعرفه أصلاً، لكن الاستعارة هي أفضل طريقة لمنحنا شيئاً جديداً وغير مسبوق". في الحقيقة، كان أرسطو يؤمن بأن إتقان استعمال الاستعارات هو أساس النجاح في البلاغة. فقد كتب قائلاً: "أن تكون مُجيداً في استعمال الاستعارات، فذلك لعمري هو أعظم شيء لا يُضاهى. وهو علامة على العبقرية".
ولعلّ المفارقة تكمن في أنّ هذا الرأي بخصوص مسألة غير علمية أقد أُثبِتَ علمياً. فقد أظهرت الأبحاث في العلوم الإدراكية بأنّ المحرّك الأساسي لعملية التركيب الإبداعي هي الطلاقة الترابطية (associative fluency) – أي القدرة الذهنية على الربط بين مفهومين غير مترابطين عادة ودمجهما ضمن فكرة جديدة. وكلما كانت المفاهيم أكثر تنوّعاً، كلّما كانت الطلاقة الترابطية أقوى، وكلّما كانت الفكرة الجديدة أكثر جدّة.
فعند استعمال استعارة جديدة، بوسعك أن تقارن بين شيئين غير مترابطين عادة. على سبيل المثال، عندما يقول هاملت لروزنكرانتز "الدنمارك هي سجن"، فإنّه يربط بين عنصرين بطريقة غير معتادة. يعلم روزنكرانتز ما الذي تعنيه "الدنمارك"، وهو يعلم ما هو "السجن". لكنّ هاملت يعرض عليه مفهوماً جديداً ليس لا الدنمارك التي يعرفها، ولا السجن الذي يعرفه. وهذا العنصر الثالث هو الفكرة الجديدة المبتكرة أو التركيب الإبداعي الذي أنتجه المزيج غير المعتاد.
عندما يربط الناس بين مفاهيم غير مترابطة، غالباً ما تكون النتيجة على شكل منتجات مُبتكرة. فصامويل كولت كان قد طوّر مسدّسه الشهير ذا البكرة (المخزن الدوّار) بعد أن كان قد عمل في شبابه على متن سفينة حيث افتتن بعجلة المركب وطريقة دورانها وكذلك إمكانية تثبيتها بواسطة القبضة. كما استوحى مهندس سويسري مشبك التثبيت أو المشبك الشريطي من نوع فلكرو (Velcro) من السير في الجبال حيث لاحظ الصفات اللاصقة الاستثنائية لبعض النباتات الشوكية التي كانت تعلق بثيابه.
كما تساعد الاستعارة في تبنّي ابتكار معيّن من خلال مساعدة الزبائن على فهم الابتكار والشعور بالإلفة تجاهه. فالسيارة، على سبيل المثال، وُصِفت في بادئ الأمر على أنها "عربة من دون حصان"، فيما وصفت الدرّاجة النارية بأنّها "درّاجة هوائية بمحرّك". أمّا "لوح التزّلج على الثلج" فهو ببساطة لوح تزلّج خاص بالثلج. أمّا الخطوة الأولى تماماً في التطوّر الذي جعل الهاتف الذكي يتحوّل إلى جهاز واسع الانتشار وأساسي فقد كان إطلاق شركة "ريسيرتش إن موشن" (Research in Motion) عام 1999 لجهاز بلاك بيري 850. وقد جرى بيعه على أساس أنه جهاز الاستدعاء أو المناداة (البيجر) القادر على تلقي الرسائل الإلكترونية وإرسالها – وهي استعارة كانت تبعث على الراحة في نفوس المستخدمين الأوائل لهذا الجهاز.
ولا يحتاج المرء إلا إلى النظر إلى فشل جهاز التنقل والحركة سيغواي (Segway) ليعرف مدى صعوبة صياغة سردية مقنعة دون وجود استعارة قوية. فهذه الآلة التي طوّرها نجم الابتكارات دين كامين ووصفت على نطاق واسع بأنها الاختراع العظيم التالي، حصلت على تمويل بمئات الملايين من رأس المال المغامر (أو ما يسمى برأس المال الجريء). ورغم أنها تطبيق رائع للتكنولوجيا المتقدّمة، إلا أننا قلّما نرى شخصاً يستعملها. ويمكن تقديم الكثير من التفسيرات المنطقية لفشلها – مثل النقطة السعرية المرتفعة، والقيود التنظيمة – لكننا نؤمن بأنّ واحداً من الأسباب الرئيسية هو أن سيغواي لا تشبه شيئاً على الإطلاق. فهي عبارة عن منصّة مدولبة يمكنك الوقوف عليها منتصباً، ودون حراك إلى حدّ كبير، وأنت تسير إلى الأمام. لكنّ الناس لم يكونوا قادرين على التآلف معها. فأنت لا تجلس عليها كما هو الحال في السيارة، ولا تحرّك الدوّاسات كما تفعل على الدراجة الهوائية، كما أنك لا تحرّكها بمقبضين، كما هو الحال في الدرّاجة النارية. فهل تستطيع أن تتذكّر آخر مرّة رأيت فيها شخصاً يستعمل سيغواي؟ لعلّك كنت تشعر بأن راكبها بدا شخصاً غريب الأطوار بل ومضحك حتّى. فعقولنا لا تتقبّل سيغواي لأنّه ليست هناك تجربة إيجابية لنقارنها بها.
نحن لا نقول بأنّ المحاججة الأرسطوية لا يمكن أن تتمّ دون استعارة، وإنما سيكون الأمر أصعب فحسب. وبيع عربة من دون حصان أسهل من بيع سيغواي.
اختيار السردية الصائبة
عندما تواجهك قرارات في عالم الاحتمالات الممكنة، من المفيد تقديم ثلاث أو أربع سرديات مقنعة، على أن تشتمل كل واحدة منها على استعارة قوية، ومن ثمّ تعريضها إلى عملية اختبار سوف تساعد في التوصّل إلى توافق بخصوص السردّية الفضلى بينها. فما هي نتيجة هذه العملية؟ في عالم "غير الممكن" يقود تحليل البيانات إلى القرار المثالي. ولكن في عالم "الممكن"، الذي نسعى فيه إلى إحضار شيئ معيّن إلى عالم الوجود، ليس هناك بيانات لنحللها. ولكي تجري تقويماً لخياراتك، فإنك بحاجة إلى فعل ما يلي:
توضيح شروط علم الإدارة
رغم أننا لا نمتلك طريقة لنثبت بها أنّ تغييراً مقترحاً سيقود إلى الأثر المرغوب، إلا أننا نستطيع أن نحدّد "ما الذي نعتقد بأنه يجب أن يكون صحيحاً بخصوص العالم" لكي ينجح هذا التغيير. وإذا ما أخذ أصحاب الابتكارات ذلك بالحسبان عوضاً عن الدخول في نقاش عمّا هو صحيح بخصوص العالم كما هو، فإنهم يستطيعون شق طريقهم نحو حالة من التوافق. والفكرة هي جعل المجموعة تتفق على ما إذا كانت قادرة على تحويل معظم هذه الشروط إلى واقع – وسوف تتحمّل مسؤولية إنجاز ذلك.
هذه كانت المقاربة التي اتّبعتها شركة مفروشات مكتبية رائدة قبل بضع سنوات عندما كانت قد طوّرت كرسياً جديداً. فرغم أنّ الكرسي كان مصمّماً ليتفوّق على كل الكراسي الأخرى في السوق تفوّقاً كاسحاً، إلا أن صنع هذا الكرسي كان عملية مكلفة للغاية وكان يجب أن يُباع بضعف سعر الكرسي المكتبي العادي. وقد أظهرت الأبحاث السوقية الكمية بأن رد فعل الزبائن تجاه المنتج الجديد كان ضعيفاً. وعوضاً عن أن تستسلم الشركة، طرحت سؤالاً عمّا يجب أن يكون صحيحاً لدفع الزبئان من حالة اللامبالاة إلى حالة الشغف. وقد خلصت إلى نتيجة مفادها بأنّه إذا جرّب الزبائن الكرسي، فإنهم سيختبرون أداءه الخارق وسيتحوّلون إلى محامين يدافعون عنه بحماسة منقطعة النظير. وقد دخلت الشركة إلى السوق باستراتيجية لإطلاق المنتج استناداً إلى تجربة جرت مع الزبائن، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا الكرسي أكثر الكراسي المكتبية تحقيقاً للربحية وشعبية في العالم.
في عالم "الممكن"، البيانات ذات الصلة غير موجودة، لأن المستقبل لم يحصل بعد. ويجب عليك أن تخلق هذه البيانات من خلال وضع نماذج.
سرعان ما طرح مدراء الشركة على أنفسهم السؤال ذاته بخصوص المفهوم الذي سيستند إليه تصميم المكتب الجديد والذي كان قائماً على التخلّص من الحاجة إلى بناء الجدران، وتركيب إمّا أرضيات أو سقوف بهدف إنشاء المساحات المكتبية. لقد كان بالإمكان تركيب هذا المنتج في المساحة المفتوحة للبناء الجديد، الأمر الذي بسّط المساحة المكتبية كثيراً، وخفّض تكاليف بناء المكتب تخفيضاً هائلاً. كما كان واضحاً بأنّ زبائن الشركة، وشاغلي البناء سيُبدون اهتمامهم. ولكن لكي ينجح النظام الجديد، كان يجب على مالكي البناء أن يتبنّوه. المؤسف في الأمر هو أن النظام الجديد كان سيقضي على الإيرادات التي كانوا يحققونها عادة من عمليات البناء، لذلك كان من غير المرجّح أن يتعاونوا في تطبيق هذا المفهوم على الرغم من ميزته بالنسبة لشاغلي البناء. لذلك قضي على المشروع في المهد.
خلق بيانات جديدة في علم الإدارة
إنّ المقاربة المستعملة في التجريب في عالم "الممكن" تختلف اختلافاً جذرياً عن التجربة في عالم "غير الممكن". ففي عالم "غير الممكن" تتمثّل المهمّة في الوصول إلى البيانات ذات الصلة وتجميعها. وفي بعض الأحيان، يشمل ذلك ببساطة البحث عن هذه البيانات – من جدول في قاعدة البيانات الإحصائية لمكتب العمل، على سبيل المثال. وفي أحيان أخرى، هذا الأمر يعني بذل بعض الجهد للكشف عن هذه البيانات، كأن يكون ذلك عن طريق إجراء مسح مثلاً. وقد تكونون مضطرين إلى تطبيق اختبارات إحصائية مقبولة لتقرير ما إذا كانت البيانات المجمّعة تظهر ما إذا كان المقترح صحيحاً أم خاطئاً، مثل القول بأن المستهلكين يفضّلون المنتج الذي يُعمّر طويلاً على المنتج الذي يؤدّي وظائف أكثر.
أمّا في عالم "الممكن"، فإنّ البيانات ذات الصلة غير موجودة لأن المستقبل لم يحصل بعد. ويجب عليك خلق البيانات من خلال وضع النماذج – كإعطاء المستخدمين شيئاً لم يروه من قبل ومراقبة ردود أفعالهم وتسجيلها. فإذا لم يتجاوب المستخدمون بالطريقة التي توقعتها، فإنك ستضطر إلى التعمّق في دراسة الآراء لترى كيف يمكن تحسين النموذج. ومن ثم يجب عليك تكرار العملية حتى تكون قد جمعت البيانات التي تظهر بأنّ ابتكارك سوف ينجح.
بطبيعة الحال، قد تكون بعض الأفكار الموضوعة ضمن نماذج للدراسة سيئة تماماً. وهذا يبيّن أهمية صياغة عدّة سرديات. فإذا تكوّنت لديك رؤية واضحة بخصوص ما يجب أن يكون صحيحاً بالنسبة لكل واحدة منها، وأجريت تمارين على وضع نماذج لها جميعاً، سيكون من الممكن التوصّل إلى توافق في الآراء حول السردية الأكثر إقناعاً عند تطبيقها. كما أنّ إشراك الفريق في هذه العملية سيساعده في الاستعداد لتولّي المسؤولية عن وضع السردية المختارة موضع التطبيق.
خاتمة عن علم الإدارة
إذا كان التحليل العلمي للبيانات قد أسهم في تحسين العالم، فإنّ ذلك لا يعني بأنّه يجب أن يكون الأساس لكل قرار يتّخذ في عالم الأعمال (البزنس). فعندما نواجه سياقاً لا يمكن للأشياء فيه إلا أن تكون كما هي، فيمكننا، ويجب علينا، أن نستخدم المنهج العلمي لفهم ذلك العالم غير القابل للتبدّل في وقت أسرع من منافسينا وبشكل أكثر شمولية. وفي هذا السياق، يعتبر تطوير عملية تحليل أكثر تعقيداً للبيانات والحماسة تجاه البيانات الضخمة (big data) بمثابة نقاط قوّة بحتة.
ولكن عندما نستعمل علم الإدارة في السياقات التي يمكن للأشياء فيها أن تكون خلافاً لما هي عليه، فإننا نقنع أنفسنا باللاشعور بأن التغيير غير ممكن. وهذا الأمر سيُفسح المجال أمام الآخرين لابتكار شيء أفضل – وسوف نراقبهم بشيء من عدم التصديق والذهول، مفترضين أنها حالة شاذّة وستختفي. وفقط عندما يفوت الأوان، سوف ندرك بأنّ المتمرّد قد أظهر لزبائننا السابقين بأنّ الأشياء يمكن أن تكون مختلفة حقّاً. وهذا بالضبط هو ثمن تطبيق عملية تحليل البيانات على عالم الأعمال بأكمله، وليس على الجزء المناسب منه فقط.
اقرأ أيضاً: