قبل سنوات، كنت أعمل خبيراً لدى إحدى الشركات المتخصصة في التنمية الدولية في مدينة واشنطن، وهي شركة كانت تنجز المشاريع في مجالات التنمية الاقتصادية والتربية والصحة والحوكمة والإدارة، وكانت هذه المشاريع ممولة من قبل الحكومة أو القطاع الخاص أو المؤسسات الحكومية أو المتعددة الأطراف، وتعود لصالح دول فقيرة أو دول في طور النمو أو التحول أو في سبيل إعادة الإعمار والاستقرار.
خلال إحدى الاجتماعات السنوية للشركة، اقترح أحد الأشخاص واسمه لاري كولي على رئيس الشركة ونائبة الرئيس مارينا فانينغ اعتماد هيكل تنظيمي معكوس في الشركة، بحيث تصبح القاعدة في النظام في أعلى الرسم البياني، وقمته في الأسفل. وهكذا وضع كولي وفانينغ اسميهما في أسفل الرسم، فيما أصبح مديرو المشاريع على مستوى واشنطن ومديرو العمليات على الأرض حول العالم، هم رأس الحربة في ما يخص الإنجاز والإنتاج، وبات المدراء التقنيون والخبراء المتخصصون ورؤساء الوحدات المالية والتقنية واللوجستية موجودين في وسط الرسم البياني.
اقرأ أيضاً: مفهوم التنظيم
وفي المحصلة، كان الاقتراح مفاجئاً، لكنه في الوقت نفسه، شكّل رؤية جديدة لعمل الشركة، تحول أعضاء الطاقم التنفيذي بموجبها إلى رواد للإنجاز والإنتاج، فيما بات الآخرون من الإدارة العليا والمدراء التقنيين والوحدات المتخصصة عبارة عن مجموعات لدعم عمل من هم في الواجهة يومياً، وبالتالي تولوا إنجاز الصفقات، وتنفيذ المشاريع وتحقيق الأرباح.
والأهم في هذا كله، أنّ الجميع كان متفاجئاً بالطريقة الجديدة للعمل وبالثقافة التنظيمية التي أسست لها هذه المقاربة المتطورة والمتجددة.
ونظراً للنتائج المبهرة التي حققتها هذه الشركة، أصبحت مثل كثير من المهتمين بإدارة الأعمال، من أمثال خبراء الإدارة رون أشكيناس وديف أولريخ وتود جيك وستيف كير، الذين عملوا على تقديم نماذج عن ضرورة تغيير الهياكل التنظيمية للشركات، وبالتالي بتّ مؤمناً أنّ الإدارة الأفقية لها إيجابيات كثيرة على صعيد ريادة الأعمال والشركات التي تريد أن تضمن اندماجاً أكبر بين العاملين، للرفع من الإنتاجية وتحقيق أرباح أكثر. لهذا بتّ أؤكد على أهمية الإدارة الأفقية لإدارة مشاريع الأعمال.
ومن خلال محاضراتي والتدريبات التي أقوم بها لصالح القطاع العام والخاص، أقول إنه على رواد الأعمال أن يضعوا مخططات لعكس الهيكل التنظيمي لتمكين المدراء التنفيذيين من لعب دور ريادي في تحفيز فرق العمل والرفع من الإنتاج.
وفي ما يخص عملية اتخاذ القرار، فإنّ التنظيم العمودي القائم على التراتبية والتسلسل التصاعدي ضروري، خاصة مع وجود شركات كبرى لها إدارة عليا ومدراء تنفيذيين وموظفين ومستخدمين ومستويات متعددة من سلطة اتخاذ القرار. صحيح أنّ مشاريع الأعمال الصغيرة عادة ما تكون أفقية الإدارة لأن الإدارة العليا لا تعتمد على مدراء تنفيذيين، بل تتعامل مباشرة مع العمال والعملاء، وهو ما تؤكد عليه نظرية هوارد ستيفنسون الأستاذ في مدرسة هارفارد للأعمال، ولكن ما أقصده بالإدارة الأفقية المعتمدة على تصور جديد للأدوار هو ما جعل المدراء التنفيذيين على رأس عملية الإنتاج والعلاقة مع العملاء والممولين وغيرهم ممن يهمهم أمر مشاريع الأعمال وما تنتجه. عادة، يتم وضعهم على قاعدة هرم التراتبية على مستوى الهيكل التنظيمي لمشاريع الأعمال. اذا عكسنا هذا المخطط وصارت القاعدة على مستوى أعلى وجعلنا الإدارة العليا في الأسفل، فإنّ المدراء التنفيذيين سيصبحون القلب النابض لعملية الإنتاج. إنّ دور الإدارة العامة والوظائف الأخرى هو مساعدة هؤلاء ودعمهم وتسهيل مهماتهم، وهو ما أكدت عليه الدراسة التي عمل عليها كل من عائشة الزبير وأنيلا كمال، من المعهد الوطني لعلم النفس، جامعة القائد الأعظم في باكستان، حول دور القيادة في إبداع الموظف، والتي أظهرت العلاقة بين شكل النظام وإنتاج الموظفين، وهذا يختلف عما أصبح يصطلح عليه بالهولاكراسي، أي نمط الإدارة الذي يقول إنّ كل عامل أو متعاون شبه مستقل يدير أموره ويأخذ قراراته بنفسه دون الرجوع إلى القيادة العامة. هذا يسرع إنجاز المهمات لأنه يتجنّب مدة الانتظار للحصول على الموافقة من الجهة الأعلى، وهو نمط لا يصلح إلا للأعمال الوظيفية التي تكون المهام في إطارها محددة بشكل دقيق، ولا غبار على نتائجها. حين تكون النماذج واضحة والأهداف محددة فلا حاجة لانتظار القرار من الجهة الأعلى. يمكن للعامل أخذ القرار بنفسه من دون الرجوع إلى الرؤساء، وعلى الرغم من ذلك، قليلة هي مشاريع الأعمال التي قد تنجح في اعتماد نموذج هولاكراسي في الإدراة.
أما بالنسبة إلى الإدارة الأفقية التي تعتمد على قلب الهيكل التنظيمي للأعمال، فإنها تبدو أكثر واقعية وقابلة للتطبيق في معظم الحالات. ولكن هذا الأمر ليس بالسهل تماماً، فقلب النظام رأساً على عقب، يشير إلى أنّ هناك سلطتين متداخلتين: سلطة القرار الاستراتيجي الذي يبقى في يد الإدارة العليا، وسلطة المسؤولين عن الإنتاج والتسويق التي يتولاها المدراء التنفيذيون. وهذا التداخل إذا لم تتم إدارته بإحكام سيولد نوعاً من الحيرة والضبابية لدى العاملين. أضف إلى ذلك أنّ العاملين بشكل عام لا يرضون عن هذه السلطة المكتسبة للمدراء التنفيذيين لأنهم يحبذون التعامل مع الإدارة العليا، لأنها صاحبة القرار في الترقية والتعيين في مناصب عليا. إضافة إلى أنّ الهيكل المعكوس قد يبقى حبراً على ورق بينما واقع الإدارة يبقى متمركزاً في يد القيادة العليا لأنها هي من يتحكم في توزيع الموارد والأرباح والعملية الاستثمارية برمتها.
ومع ذلك، فإنّ مشاريع الأعمال المسيّرة بطريقة أفقية تبقى ناجعة ومحكمة، وهي تخلق الشروط للرفع من الإنتاجية وتشجيع المبادرة الفردية والجماعية على جميع المستويات، كما أنها تتحكم بالزمن بشكل أفضل، لأنها لا تنتظر القرار من الجهة العليا، لهذا يجب على مدراء الأعمال الذين يستشرفون المستقبل بطموح وأمل، التدقيق في كيفية استعمال الهيكل التنظيمي المعكوس لتصبح الإدارة العليا وأصحاب القرار الاستراتيجي مصادر لتسهيل الإنتاج والتسويق وبيع السلع والخدمات. يجب كذلك إعطاء الوسائل والسلطة الكافية للمدراء التنفيذيين لاتخاذ القرارات الحاسمة. كما أنّ عملية تفويض السلطة هذه يجب أن تكون مهيأة بعناية خاصة، حيث يتم اختيار المدراء بحكمة ودعم كفاياتهم وإعطائهم الوسائل وتحديد مؤشرات الإنجاز وإخبار كل العاملين بذلك.
أخيراً، يجب تغليب العمل الجماعي لكي يرى الكل أهمية الإدارة الأفقية، ولكي يساهم الكل في تسهيل جعلها ثقافة سائدة داخل مشاريع الأعمال أو الشركة. إنّ العمل الجماعي يخلق تحديات من حيث تحديد المسؤولية والبطء في اتخاذ القرار ولكنه أساسي في دعم الإدارة الأفقية للأعمال.
في البلدان العربية، قد تبدو الإدارة الأفقية صعبة نظراً لسيادة ثقافة التراتبية والتي تؤمن بسلطة من يمتلك وسائل الإنتاج. ولكن الكثير من مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة والعاملة في مجالات النقل والسياحة والزراعة والخدمات والتجارة هي مسيّرة بطريقة أفقية، حيث يتقاسم المالك الأدوار مع العمال بشكل يجعل القرارت تؤخد بشكل جماعي، ولكن النموذج الغالب على مستوى الشركات الكبرى هو النموذج العمودي مع وجود ممارسات أفقية على مستوى أقسام معينة أو مديريات معينة. ومع ذلك فثقافة الإدارة الأفقية لا مفر منها إذا أراد رائد الأعمال العربي أن يحفز العمال والمتعاونين أكثر ويحسن من مردودية أعماله، ولكن هذا يقتضي ثقة عليا في النفس وقدرة على إدارة الانتقال إلى الإدارة الأفقية وقدرة على التتبع وتصحيح الأخطاء كلما تطلّب الأمر ذلك وهذه كلها كفايات تكتسب ولكن تتطلب التفكير والنقد المستمر والعمل على ردود أفعال المتعاونين لتحسين طرق تنظيم الإدارة الأفقية.
تقدم الإدارة الأفقية نتائج مهمة على مستوى تحفيز العاملين وعملية اتخاذ القرار والرفع من الإنتاج، ولكن الأمر يتطلب مجهوداً مضنياً لرصد الاختلالات والعراقيل وتصويبها، وتدريب العاملين وتتبع الإنجازات وإعادة النظر المستمرة في التنظيم. لهذا فالإدارة الأفقية لا تعني عملاً أقل بالنسبة لرائد الأعمال، إنما تعني عملاً وإدارة من نوع آخر، ولكن مشاكله تزول أمام مزاياه خصوصاً أنّ المستقبل ينذر بأفول طرق التنظيم الشديدة التراتبية ويبشر بظهور أعمال يدير فيها العمال أعمالهم بأنفسهم بطريقة شبه كاملة.