دراسة حديثة تثبت أن اجتماعات الفيديو الافتراضية تعوق توليد الأفكار، فما هو الحل؟

5 دقائق
اجتماعات الفيديو الافتراضية

خلال الأشهر الأولى التي تلت جائحة "كوفيد-19"، اضطرت الشركات إلى تسريع تبني آلية العمل عن بعد وتجربة "اجتماعات الفيديو الافتراضية"، واحتفى كثير منّا بتلك الميزات التي وفرتها لنا آلية العمل الجديدة، وتوفير الوقت والنفقات المرتبطة بالتنقل إلى مكان العمل، ما أتاح لنا أن ننعم بساعات شخصية إضافية، واختيار مكان عمل مناسب وهادئ في المنزل دون ضجة المكتب المعتادة، والتحكم بشكل أفضل في سير اليوم، وحتى تقليل نفقات التشغيل بالنسبة لأصحاب الشركات، لكن سرعان ما تبيّن الوجه الآخر لسياسة العمل الجديدة.

الموظفون شعروا بالانعزالية، والمدراء لاحظوا انخفاضاً في الإنتاجية، وظهرت مشكلات تتعلق بالتواصل والرقابة والتقييم، وعلى الرغم من أن أدوات التواصل الافتراضي تطورّت لحل بعض هذه المشكلات مثل أدوات تعزيز الإنتاجية، وتطبيقات التواصل الافتراضي، فإن مشكلةً ظلت في الأفق سببتها هذه الحلول الافتراضية وهي تقويض الإبداع.

الاجتماعات الافتراضية تقوّض الإبداع بين أفراد الفريق

الحركة تحرر الإبداع، هذا ما اتفق عليه العلماء والباحثون والفلاسفة منذ أكثر من 2000 عاماً، بدايةً من الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي أرسى قواعد "المدرسة المتجولة" (Peripatetic School)، مروراً بأشهر المبدعين على مدار التاريخ الذين اتخذوا من السير أو القفز أو الرياضة عموماً طقوساً يومية لتعزيز إبداعهم، مثل الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز، والشاعر هنري ديفيد ثورو، والموسيقيين تشايكوفسكي وبيتهوفن، وصولاً إلى رواد الأعمال الأشهر ستيف جوبز ومارك زوكربيرج.

لذا، فالأمر ليس مفاجئاً حينما نعلم أن بقاء الموظفين أمام شاشات حواسيبهم لحضور اجتماع عبر "زووم" أو "مايكروسوفت" قد يقوّض قدراتهم الإبداعية. ففي دراسة حديثة، نُشرت في مجلة "ناتشر" (Nature)، وجدوا أن اجتماعات الفيديو الافتراضية تعوق توليد الأفكار، إذ تركز على التواصل عبر الشاشة، فتجبر المتصلين الافتراضيين على تضييق مجالهم البصري من خلال التركيز على الشاشة على حساب المحفزات البصرية الأخرى.

الدراسة التي أجريت عبر خمسة بلدان مختلفة في أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا استقت هذه النتيجة من كلا التجارب المعملية والميدانية، إذ طُلب من المشاركين الذين قُسموا إلى ثنائيات بشكل عشوائي التوصل إلى استخدامات مبتكرة لغلاف فقاعات الهواء (Bubble Wrap)، فوجدوا أن الأزواج المتواصلين عبر "زوم" جاءوا بأفكار إبداعية أقل من الأزواج المتواصلين شخصياً.

لماذا تقوض اجتماعات الفيديو الافتراضية إبداعنا؟

تتجاهل الاجتماعات الافتراضية العديد من محفزات الإبداع، التي كانت تحدث تلقائياً في مكان العمل أو المكتب، مثل التفاعل الاجتماعي، وإرسال الإشارات المرئية بين أعضاء الفريق، والمحادثات العفوية مع الزملاء في الرواق، وحتى عملية الانتقال من المنزل إلى المكتب التي تشمل تغييراً بيئياً وتفاعلات إنسانية بدورها، فكان من الطبيعي أن يصرح 22% من الموظفين المشاركين في أحد استطلاعات الرأي أن قدرة فرقهم على الإبداع تناقصت في الاجتماعات الافتراضية.

هناك العديد من الأسباب العلمية والاجتماعية وحتى الصحية التي تدعم هذه الدراسات التي تؤكد أن الاجتماعات الافتراضية تقوض إبداعنا، نذكر منها:

نطاق بصري ضيق: في الاجتماعات الافتراضية، تركز كل الأنظار على الشاشات فقط، وقد وجد باحثون أن التركيز البصري الضيق على الشاشة فقط دون القدرة على تحريك الرأس عنها لملاحظة مؤثرات بصرية أخرى في المكتب أو صادرة من الزملاء في أثناء الاجتماع تقيد العملية الترابطية الكامنة وراء توليد الفكرة، والتي تتفرع خلالها الأفكار وتنشط المعلومات المتباينة التي يتم دمجها بعد ذلك لتشكيل أفكار جديدة.

الإشارات الجسدية: في الاجتماعات الافتراضية، يتم التغاضي عن مكون رئيسي للخلطة السرية لما يسمى "الذكاء الجماعي" (CI) وهو مشاركة الإشارات المرئية التي تحفز الأفكار، إذ يزداد ذكاء المجموعة وقدرتها الإبداعية بتزامن تعبيرات الوجه والمداخلات الصوتية التي تحد منها اجتماعات الفيديو الافتراضية.

الثبات الإجباري: في أثناء الاجتماعات الشخصية، يمكننا أن ننظر حولنا، ونتجول، ونحرك أطرافنا، أما في اجتماعات الفيديو، فيُطالب أغلبنا بالبقاء ثابتين دون إظهار أي علامة قد توحي بالتشتت أو عدم التركيز أو الانشغال بشيء آخر خلف الشاشات. غير أن الثبات دون الحركة يزيد بالفعل من التشتت ويقلل التركيز ويقوض الإبداع.

الشعور بالانفصال: العديد من المشكلات تصاحب الاجتماعات عبر الفيديو، مثل جودة الاتصال، وضجيج الخلفية، لذا قد يشعر البعض بالانفصال أو الانعزال خاصة الأشخاص الميالين للانطواء، ما يضعف مستوى مشاركتهم. وتتضخم هذه المشاكل، مع زيادة أعداد المشاركين في الاجتماع بسبب ندرة وقت التحدث وعدم التعرف على هوية المتكلمين.

وسائل تعزيز الإبداع خلال الاجتماعات الافتراضية

لم تعد آلية العمل عن بعد استراتيجية مؤقتة ينتظر أصحاب الشركات انتهاء الجائحة لتغييرها، وإنما باتت توجهاً واقعياً في طريقة العمل، ويتزايد تبنيه بشكل مطرد، بسبب توفيره لتكاليف التشغيل واللوجيستات والتنقلات، واعتياد الموظفين عليه لدرجة أنه أصبح أولوية يبحث عنها الموظفون، وعلى استعداد لتقديم استقالاتهم إذا غيرت شركاتهم سياسية العمل عن بعد، أو حتى سياسة العمل الهجين.

لذا، فإن الانتقال إلى الاجتماعات الشخصية وإلغاء الاجتماعات الافتراضية تماماً أمر غير مطروح على الطاولة، وإنما هناك وسائل وحلول يمكنها زيادة الإبداع بين أفراد الفرق في الاجتماعات الافتراضية نذكر منها:

1. جدولة الاجتماعات: لم تكن المقارنة بين الاجتماعات الافتراضية والشخصية في صالح الأخيرة دائماً، فعلى سبيل المثال، أوضحت الدراسة المشار إليها سابقاً، أن الأشخاص قد يكونون أكثر فعالية في خطوة اختيار الأفكار، وهي الخطوة التالية في العصف الذهني، في أثناء الاجتماعات الافتراضية.

وفي دراسة أخرى، قُسم التفكير إلى نوعين، التفكير المتشعب، وهو عملية توليد واستكشاف مجموعة متنوعة من الأفكار الممكنة، والثاني هو التفكير المتقارب، وهو عملية تقييم الأفكار وتحليلها للوصول إلى الإجابة الأفضل أو الأكثر منطقية. وتوصلت الدراسة إلى أن الجلوس أمام الحاسوب يزيد من التفكير المتقارب بنسبة 24%، بينما تؤدي الحركة إلى تحسين التفكير المتشعب 18% تقريباً.

يحتاج الرؤساء إلى أن يكونوا أكثر ذكاءً بشأن كيفية جدولة الاجتماعات، ليختاروا التطبيقات الافتراضية في حال كان الهدف هو إطلاع الفريق على تحديث معين، أو اختيار فكرة بعينها من ضمن أفكار، بينما يجعلون جلسات العصف الذهني وجهاً لوجه إن سمح الأمر، أو حتى مكالمات صوتية ليستطيع الحضور التحرك إذا أرادوا.

2. العصف الذهني الكتابي: في العصف الذهني التقليدي، قد يسيطر أشخاص معينون على الحديث واقتراح الأفكار، ويضيع الوقت في الرد عليهم دون السماح لآخرين بالمشاركة، إلى جانب الجو الصاخب. لذلك يظهر العصف الذهني الكتابي، أو الاجتماعات الصامتة، كحل فعال لتحقيق أقصى استفادة من أفكار جميع الحضور. وقد أثبتت الأبحاث أن الجلسات الصامتة تولّد أفكاراً أكثر عدداً وإبداعاً من جلسات العصف الذهني الصاخبة، بسبب الهدوء، ومشاركة الجميع، وتجنب مشكلات القلق الاجتماعي لدى البعض. ويمكنك قراءة المزيد عن تطبيق هذه الطريقة من مقال "تخلص من الاجتماعات الافتراضية الضخمة".

3. إتاحة الحركة: المشي يعزز الإبداع بنسبة 60%، وفقاً لدراسة من جامعة ستانفورد. وقد آمن العديد من قادة الفكر بالفعل بفضائل الخروج من المكتب كوسيلة للتفكير بشكل مختلف. وكان ستيف جوبز، مؤسس شركة "آبل"، أبرز من طبقوا هذه العادة لفترة طويلة، إذ عُرف عنه التجول أثناء ممارسة العصف الذهني، وغالباً ما شوهد جوبز وكبير المصممين "جوني إيف" يسيرون أثناء قيامهم بعصف ذهني للتصاميم والمفاهيم الجديدة.

واليوم، وعلى الرغم أنه ليس لدينا العديد من الخيارات، لكن المشي مازال أحد الخيارات المتاحة لمعظمنا. لذا، يمكن أن يمنح المدير الخيار للحضور بالتجول سواء في المنزل أو في الحي الذي يسكنون فيه بين مكالمات الفيديو أو أثناء المكالمة الجماعية.

4. غرف المجموعات المنفصلة: في أغلب الاجتماعات الافتراضية، وبشكل خاص كبيرة الحجم، يتضمن معظمها سيطرة مجموعة قليلة على المشاركة، بينما ينشغل آخرون في التسجيل، أو المحادثات الجانبية، أو القيام بمهام أخرى، والابتعاد عن المسار، لذلك يتجلى أحد الحلول، والتي تتيحها أغلب تطبيقات الفيديو، في تقسيم الحضور على غرف منفصلة أصغر حجماً من 3 إلى 5 مثلاً، إذ يستطيع مدير الجلسة إنشاء هذه الغرف والتحكم فيها على نحو أفضل مقارنة بالاجتماعات الكبيرة، وتحديد مدة زمنية لها بحيث ينخرط الجميع فيها، ومن ثم يعودون إلى الغرفة الأكبر ليناقش المدير مشاركات كل فريق، ودراسة المقترحات وإرسال النتائج عبر البريد إلكتروني، أو جدولة اجتماع آخر لمناقشتها إن لزم الأمر.

5. خفف إجهاد الاجتماعات الافتراضية: لا بد أن يراعي المدير أن هذه الاجتماعات مجهدة أكثر من غيرها، وقد تكون مملة وجامدة أيضاً لغياب التواصل كما أشرنا مسبقاً. ففي استطلاع رأي حديث لشركة التوظيف العالمية "روبرت هاف" (Robert Half)، أكد 44% إنهم عانوا من إجهاد مكالمات الفيديو، بينما أشار 15% إلى أن الاجتماعات الافتراضية غير فعالة ومرهقة ويفضلون التواصل عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف.

هناك العديد من الخطوات التي يمكنها التخفيف من إجهاد هذه الاجتماعات ومنحها بعض الحيوية:

  • يجب أن تكون جداول الأعمال أكثر دقة في بيئة افتراضية لضمان فترات الراحة.
  • قدم غرف استراحة صغيرة لضمان أن يتمكن الجميع من مشاركة الأفكار، كما يمكن أن نكون هذه الاجتماعات بديلة عن لقاءات الصدفة.
  • استخدم أدوات المشاركة الرقمية، والألعاب، والأسئلة التفاعلية، وتقنيات مثل التصويت لكسر الجمود في الجلسات.
  • أضف استراحة تمدد في منتصف جلسة العصف الذهني لمنح الأشخاص فرصة للتحرك وإنعاش تفكيرهم.

تبدو الحاجة إلى القدرات الإبداعية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لذا لا ينبغي أن يتضاءل الإبداع في أي شركة يسعى أصحابها إلى البقاء في السوق حتى في ظل بيئة العمل عن بعد، غير أن المدراء بحاجة إلى تبني طرق ووسائل جديدة لتعزيز الإبداع تلائم طريقتنا الجديدة في العمل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي