تهدف مبادرة الأمم المتحدة "عقد من العمل" (2020-2030) إلى دفع عجلة أهداف التنمية المستدامة (2015-2030)، إذ تمثّل فرصة للشركات الناشئة والمستثمرين لإظهار الوجه الاجتماعي مع بلوغهم رتبة شركات "أحادية القرن" أو "يونيكورن"، وذلك بدلاً من التركيز حصراً على التوسع والربحية.
أمامنا اليوم فرصة حقيقية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، لكن ذلك يعتمد على وجود التزام أخلاقي جوهري بالمساهمة مع ولادة كل شركة ناشئة، وبشرط أن تصون كل شركة التزامات الاستدامة الخاصة بها بعد أن تصبح "يونيكورن". وبرز في الآونة الأخيرة الكثير من الشركات الناشئة المبتكرة في المنطقة وخارجها، التي تم تأسيسها وتمويلها ودعمها لتصل قيمة كل شركة منها إلى مليار دولار في غضون سنوات قليلة. فلماذا لا نرى شركات ناشئة تنضم إلى نادي روّاد الأثر الاجتماعي مثلما تنضم إلى نادي الـ "يونيكورن" ضمن نفس المدة الزمنية القصيرة؟
قطاع الشركات الناشئة
لا شك في أن الأهداف الإنمائية للألفية (2000-2015) أحدثت فرقاً. ولكن هل كان ذلك فرقاً كافياً؟ في حين ساعدتنا الإنجازات الناتجة عن هذه الأهداف على تحسين حالة العالم إلى حد ما، للأسف لم ننجح في تحقيق التغيير البيئي والاجتماعي والاقتصادي المنشود، مثل القضاء على الفقر وتحقيق التعليم الأساسي الشامل. ولكي نضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة لنتائج أفضل، يجب أن يسير إجمالي الأثر المستدام للشركات على نفس خطى توسعهم ونموهم في مجال الأعمال التجارية.
من المرجّح أن تساعدنا ريادة الأعمال الاجتماعية أو (بناء شركات ذات غرض اجتماعي متأصل في عملياتها) على معالجة بعض القضايا العالمية الأكثر إلحاحاً. وسيحدد سلوك الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة على مدى السنوات التسع القادمة إلى حد كبير ما إذا كنّا سنستطيع القضاء على بعض مشكلاتنا الكبرى، أو نضطر بنهاية المطاف إلى تحمّل عبئها مجدداً لمدة 15 سنة أخرى.
يشهد اليوم قطاع الشركات الناشئة ازدهاراً أكثر من أي وقت مضى. وينتشر رواد الأعمال في الأسواق النامية مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث هناك وفرة في التمويل نظراً لإمكانات النمو الضخمة. على سبيل المثال، حققت شركة المطابخ السحابية "كيتوبي" (Kitopi) رحلة نمو مذهلة، إذ حظيت مؤخراً بتقييم يتجاوز مليار دولار، الذي يعد الأسرع في المنطقة لشركة ناشئة. ولا تزال شركة "كريم" (Careem) لخدمات النقل مصدر إلهام للكثيرين، وربما أطلقت العنان لموجة شركات الـ "يونيكورن" في المنطقة. وتواصل شركة "سويفل" لحلول النقل الجماعي —أحدث شركة "يونيكورن" في المنطقة— مسيرة نموها وازدهارها بزخم واعد.
وتؤدي كبرى الشركات العالمية ذات الحضور الإقليمي دورها الاجتماعي وتسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. التزمت شركة "أوبر" بأن تصبح منصة تنقّل خالية من الانبعاثات بحلول عام 2040. وتعمل شركة "ديدي" (DiDi) على تقليل انبعاثات الكربون وتقديم المساعدة لسائقيها وعائلاتهم. ولكن بعيداً عن استراتيجيات الربح المرفقة ببرامج المسؤولية الاجتماعية، تفتقد المعادلة المؤسسية لهذه الشركات عنصراً أساسياً، ألا وهو ضرورة ممارسة الأعمال المسؤولة منذ البداية، أو غرس مفهوم المسؤولية الاجتماعية في صميم العمليات التجارية منذ انطلاق الأعمال. بذلك، يمكن تحقيق المزيد من الأثر الاجتماعي والبيئي، وبشكل أسرع، ابتداءً من تأسيس الأعمال ولغاية بلوغ الشركة مرحلة "يونيكورن" وما بعدها.
أمثلة عن شركات تتعامل مع الاستدامة
ومن أبرز الأمثلة التي توضح نموذج العمل الذي يتعامل مع الاستدامة كجزء لا يتجزأ من العمليات التجارية هو شركة "آيون" (ION) لحلول النقل الذكي والمستدام. "آيون" هو مشروع مشترك بين شركة "بيئة" و"الهلال للمشاريع"، إذ تم تأسيسها بناءً على رؤية واضحة تشترط وجود أثر بيئي مُدمج في الجدوى الاقتصادية لأعمال الشركة التجارية.
وتعد "ثروة" (Sarwa) أحد الأمثلة الأخرى لشركات ناشئة تتعامل مع المسؤولية الاجتماعية كجزء من عملياتها نسبياً. تأسست "ثروة" عام 2016 كأول منصة إلكترونية لإدارة استثمارات المحترفين الشباب في الشرق الأوسط، حيث تقدم محافظ الاستثمار المسؤول التي تأخذ بعين الاعتبار كلاً من العائدات المالية والأثر الاجتماعي. وتوفر الشركة للمستثمرين نهجاً استثمارياً يتوافق مع قيمهم، دون تحميلهم أعباء الرسوم الباهظة التي عادة ما تؤدي إلى تآكل العوائد.
وخلافاً للأعمال التجارية التي تتضمن برنامجاً مستقلاً للمسؤولية الاجتماعية، فإن مزاولة الأعمال بمسؤولية أو الاستثمار المسؤول يمنح الشركات إمكانية قياس مدى الأثر الاجتماعي والبيئي التي تخلفه عملياتهم وأعمالهم. ويُنظر للشركات التي تمارس الأعمال المسؤولة على أنها علامات تجارية موثوقة تبدي اهتماماً فعلياً بالمجتمعات التي تعمل ضمنها، وبالتالي تعتبر بمثابة "مواطن مؤسسي صالح" تتميز عن غيرها من الشركات بشكل إيجابي في نظر المستهلك.
إن سياسات المسؤولية الاجتماعية المستقلة عن الأعمال التجارية للشركة؛أي المبادرات التي تطلقها الشركات لعرض مساهمتها الاجتماعية والبيئية بغض النظر عن طبيعة عملياتها، تعد قيّمة وضرورية، لكنها تشكّل نهج استدامة غير متكامل. علاوة على ذلك، يعتمد هذا النهج على استخدام المسؤولية الاجتماعية كأداة تسويق. ووفقاً للميثاق العالمي للأمم المتحدة، يجب على الشركات ممارسة الأعمال التجارية بمسؤولية أولاً، ومن ثم اقتناص الفرص الإضافية في مجال المسؤولية الاجتماعية لحل التحديات الأكثر إلحاحاً.
وبحسب "الهيئة الاتحادية للتنافسية والإحصاء"، بلغت مساهمة الشركات الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات العربية المتحدة نحو 53% في عام 2019، مقارنة بما يقرب من 49% في عام 2018. ووفقاً لوزارة "الاقتصاد" في الإمارات، تمثل الشركات الصغيرة والمتوسطة أيضاً نسبة 95% من مجمل الشركات في الدولة، وتسهم في توظيف 86% من إجمالي القوى العاملة في القطاع الخاص غير النفطي.
هل ستعتمد الموجة التالية من الشركات الناشئة في المنطقة نهج المسؤولية الاجتماعية المنبثقة من عملياتها، منذ إطلاقها وحتى تجاوزها مرحلة الـ "يونيكورن"؟ نظراً للدور الرئيسي الذي يلعبه مجتمع الأعمال وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فإن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد ما إذا كانت البشرية جمعاء ستنجح في القضاء على أغلب مشكلاتنابحلول عام 2030.
ممارسات تساعد روّاد الأعمال والشركات الناشئة على تبنّي البعد الاجتماعي ضمن نموذج أعمالها
الحرص على ضرورة إنشاء نموذج أعمال مستدام في المراحل المبكرة من تأسيس الأعمال: ابتداءً من مرحلة تصوّر الفكرة أو طبيعة العمل التجاري، ودمج العوامل الاجتماعية والبيئية في صميم الأنشطة التجارية. يجب أن تتطابق أولويات ممارسة الأعمال التجارية مع المسؤولية الاجتماعية بديهياً.
التركيز على كيفية حل مشكلة ما للمستهلك، وفي نفس الوقت المساهمة في حل مشكلة اجتماعية أو بيئية: على سبيل المثال، يجب الالتزام باستخدام الموارد المتجددة في صناعة المنتجات عن طريق تجميع مياه الأمطار وأنظمة تسخين المياه بالطاقة الشمسية.
استخدام المنتجات المصنوعة من مواد معاد تدويرها في محيط العمل: مثل اللوازم المكتبية المصنوعة من البلاستيك المعاد تدويره، والأثاث المصنوع من المطاط المعاد تدويره. من الضروري بناء تجربة مثالية للموظفين في المكتب قبل حثهم على تبني نهج مسؤول في ممارسة الأعمال.
تفحُّص جميع الأنشطة التجارية لمعرفة ما إذا كان هناك مجال لضبط أو تغيير العمليات لتصبح صديقة للبيئة: مثل تقليل السفر الجوي لغرض الاجتماعات من خلال عقد المحادثات عبر الفيديو، أو نشر الوعي داخل المؤسسة بأهمية سبل التواصل الإلكتروني كبديل لاستخدام الحبر والورق في الحالات غير الضرورية.
إشراك المواهب ذات الوعي المجتمعي والبيئي: فضلاً عن التنوع والشمول، يجب اعتماد سياسة توظيف مبنية على مدى معرفة الموظفين وإدراكهم بالجوانب الاجتماعية للأعمال، أو إطلاق برنامج استدامة خاص بإشراك الموظفين وتمكينهم من أداء دورهم وأخذ المسؤولية الاجتماعية على محمل الجد في حياتهم اليومية في العمل أو خارجه.
الترحيب بمفهوم التجارب والاختبارات للوصول إلى النتائج والأثر المنشود: تشتمل ثقافة التجريب على تنفيذ أفكار أو حلول اجتماعية وبيئية جديدة عبر أقسام الشركة، وتوسيع نطاق الحلول المجدية منها. ويجب أن تتبنى الشركات هذه العقلية والانفتاح على كافة المستويات، من الموظفين إلى مسؤولي الإدارة العليا.
تنظيم ندوات تثقيفية وتوعوية بالمساهمات الاجتماعية والبيئية: ويكون ذلك ضمن المؤسسة وعلى الصعيد الشخصي، وتبادل الخبرات ذات الصلة عبر القطاعات. أمام المؤسسات فرصة قيمة للاستعانة بخبرات الناشطين في حماية البيئة والمجتمع من مؤسسات غير ربحية وأفراد مناصرين لهذه القضايا.
تحديد الأثر الاقتصادي والاجتماعي والبيئي للأعمال وقياسه: هناك الكثير من الطرق العلمية لقياس الأثر وأبرزها اعتماد مقاييس رأسمالية أصحاب المصلحة التي أطلقها المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام (2021)، التي يمكن من خلالها تحديد الأثر بشكل شامل ومشاركة التوصيات مع مؤسسة المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS) ، ما يسهم بدعم جهودها في تطوير حلول عالمية لإعداد التقارير.
الاستفادة من التكنولوجيا لخلق قيمة مشتركة لكافة أصحاب المصلحة: لا يكفي اعتماد التكنولوجيا والتقنيات الجديدة لأغراض ربحية. بل يجب إدراج الجوانب الاجتماعية والبيئة بشكل متين ضمن رحلة التحول الرقمي للشركات، وذلك من أجل تحقيق نتائج شاملة ترضي جميع أصحاب المصلحة. على سبيل المثال، ومن خلال التزامها بالتكنولوجيا المستدامة، تعمد شركة "كافو" (CAFU) على زراعة مليون شجرة غاف في دولة الإمارات باستخدام تكنولوجيا الطائرات الموجّهة الخاصة بها، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ما سيؤدي إلى تحسين النظام البيئي جذرياً داخل الدولة. ونتيجة لهذه المبادرة التي حققت خلالها الشركة أهداف التنمية المستدامة، فازت "كافو" بجائزة "الابتكار الذهبي في التقنيات المستدامة" في النسخة الرابعة من جوائز الخليج للاستدامة والمسؤولية الاجتماعية للشركات العام الماضي.