قد تتعرض رفاهتنا لمخاطر جسيمة في محال عملنا، ويكفي أن نشير هنا إلى الطلبات الصارمة والتغييرات اللانهائية والسياسات غير العادلة التي تسهم في إصابتنا بالاحتراق الوظيفي، لكن بيئات العمل المشحونة بالتوتر لا تؤدي دائماً إلى الاحتراق الوظيفي، فكلما قرأت تقريراً يتحدث عن أشياء مثل تعرض 42% من موظفي الشركات للاحتراق الوظيفي، أجد نفسي أتساءل: وماذا عن باقي الموظفين البالغة نسبتهم 58%؟ ما الذي يفعلونه لوقاية أنفسهم شر الاحتراق الوظيفي؟ وما الدروس التي نستفيدها من تجربتهم؟
وقد أتاح لي عملي باحثاً متخصصاً في الأبحاث النوعية ومدرباً تنفيذياً الفرصة لإجراء مقابلات شخصية مع مئات الأشخاص وتدريبهم، ما بين ضباط شرطة وممرضين وأطباء ورؤساء شركات ومعلمين، وغيرهم ممن كانوا يجدون أنفسهم يخوضون معركة حامية الوطيس ضد الاحتراق الوظيفي باستمرار. تعلمت من هؤلاء الأبطال 3 أشياء مهمة، وهي: أننا جميعاً نتأثر بالضغوط بأشكال مختلفة، وأن تصوراتنا الذهنية للضغوط تختلف من شخص لآخر، وأن طرق تفاعلنا مع التوتر تتباين أيضاً تبايناً مذهلاً. بعبارة أخرى: يبدو أن البعض يمتلكون القدرة على مقاومة الاحتراق الوظيفي، وأن هناك سلوكيات يمكن أن تساعد الكثيرين منا على النجاة من خطر الوقوع فيما أسميه مزالق التدمير الذاتي.
أولاً: حدد ما إذا كنت معرضاً لخطر الاحتراق الوظيفي، وذلك من خلال إلقاء نظرة فاحصة على أنماطك والتي تُعرف أيضاً باسم السلوكيات الدفاعية. هل لا تنال قسطاً كافياً من النوم؟ هل تشعر بأنك صرت أكثر عصبية؟ هل تفقد قدرتك على التركيز؟ هل تتعاطى الأدوية والعقاقير المهدئة للأعصاب للتخلص من الشعور بالتوتر؟ تعتبر كل هذه السلوكيات مؤشرات على تسلل الاحتراق الوظيفي إليك.
ثم حاول التحقق لمعرفة ما إذا كنت قد وقعت ضحية مزلق أو أكثر من مزالق التدمير الذاتي التي يشيع انتشارها في بيئات العمل، واستخدم الإجراءات المضادة لحماية نفسك من الوقوع فيها، وستلاحظ أن أساليب الوقاية من الاحتراق الوظيفي تتضمن مهارتين مهمتين من مهارات الذكاء العاطفي، حيث سيساعدك الوعي الذاتي في البداية في إلقاء نظرة فاحصة على سلوكياتك الدفاعية، ثم ستساعدك الإدارة الذاتية على البدء في تغيير عاداتك للتخلص من السلوكيات الهدامة واكتساب عادات بنّاءة.
مزالق التدمير الذاتي
مزلق المبالغة في قابلية التأقلم
لا شك أن القدرة على التأقلم مع التغيير والترحيب به تشكل عنصراً مفيداً لك ولمسيرتك المهنة، شريطة عدم المبالغة، ويشيع هذا المزلق بين هؤلاء الذين يُحبون إرضاء الناس، أي أولئك الذين يحاولون بشتى الطرق نيل إعجاب الآخرين أو تحقيق ما يعتبرونه توقعات الآخرين منهم.
اسأل نفسك: "هل قابليتي المبالغ فيها للتأقلم مع المستجدات تنبع من رغبتي في إرضاء الآخرين؟" وإذا كانت الإجابة "نعم"، فاحذر من كُلفة الامتثال لكل ما يُطلَب منك، فقد تكون مرونتك عنصر قوة هائلاً في بعض الحالات، ولكنها ستغدو عبئاً ثقيلاً إذا ضحيت برفاهتك لإرضاء الآخرين.
وإذا كنت معتاداً على قبول كل ما يُطلَب منك لأنك تريد إسعاد الآخرين، فحاول أن تُكثر من الرفض (أعلم أن تطبيق هذه النصيحة ليس سهلاً بالمرة)، لذا يُنصَح بأن تبدأ بمشاريع منخفضة المخاطر. حاول وضع حدود أكثر صرامة لحماية وقتك الشخصي الذي تعيد فيه تجديد طاقتك وحيويتك وكن واضحاً مع نفسك ومديرك بشأن الوقت الذي تكون فيه مستعداً أو غير مستعد للعمل لساعات إضافية.
مزلق الهوس بالكمال
"الهوس بالكمال عدو النجاح". تُنسب هذه المقولة في الغالب إلى ونستون تشرشل. قد يكون الهوس بالكمال عدواً لصحتنا أيضاً. صحيح أن وضع معايير عالية لأنفسنا يشكل عنصراً مهماً للنجاح، لكن المشاكل تبدأ في الظهور عندما تصبح هذه المعايير غير قابلة للتحقيق على نحو متزايد، أو عندما نرفع سقف توقعاتنا أكثر من اللازم في كل جوانب حياتنا. كما نجد أنفسنا محاصرين من كل الجهات عندما نبدأ في الاعتقاد بأن الآخرين من حولنا مثاليون وأننا مطالبون بأن نكون مثلهم (انظر مزلق "متلازمة المحتال" أدناه).
إذا وجدت نفسك معرضاً لخطر الوقوع في مزلق الهوس بالكمال، فاسأل نفسك: "كيف يمكنني إنجاز الأشياء دون أن أضني نفسي بعبء الهوس بالكمال؟" وحاول أن تكون لطيفاً مع نفسك ومتسامحاً معها. من الطبيعي أن نقسو على أنفسنا عندما ندرك أننا ضللنا طريقنا نحو النجاح والرفاه، لكن دعك من لوم نفسك، فلن يزيدك هذا إلا تعاسة فوق تعاستك.
مزلق متلازمة المحتال
قد يؤدي شغل منصب جديد أو الحصول على ترقية أو تولي مسؤولية مشروع جديد إلى إثارة المشاعر الشائعة للغاية التي تصاحب متلازمة المحتال، حيث نضع ضغوطاً إضافية على أنفسنا عندما نجري مقارنات مع الآخرين أو عندما نشعر بأننا غير مؤهلين لمنصبنا الجديد. وإذا اقترن هذا المزلق بمزلق الهوس بالكمال، فسنجد أن الأشخاص الذين يعانون من متلازمة المحتال قد صاروا أكثر عرضة لإرهاق أنفسهم بأعمال إضافية (انظر المزلق التالي: الانخراط المفرط).
ويبدأ التحرر من هذا المزلق بالتعرف على مشاعرك التي قد توهمك بأنك عديم الكفاءة، ثم إعادة صياغة حديثك الذاتي. ولكي تقوي نفسك في مواجهة الاحتراق الوظيفي، حوّل التعاطف الذاتي إلى عادة، دون إرهاقها بالنقد بسبب ودون سبب.
مزلق الانخراط المفرط
حتى الأشخاص الذين يحبون عملهم معرضون لخطر الاحتراق الوظيفي، ذلك أننا نكرس كل وقتنا وجهدنا في الأعمال التي تخلق فينا الشعور بالتفاعل والسعادة، ثم نبدأ التضحية شيئاً فشيئاً بوقتنا الشخصي الذي نجدد من خلاله طاقتنا وحيويتنا، مثل الوقت الذي نقضيه مع الأسرة وفي ممارسة التمارين الرياضية، بل وكثيراً ما نحرم أنفسنا نيل قسط كافٍ من النوم.
ولكي تتخلص من هذا المزلق، فكر أولاً فيما إذا كنت تضغط على نفسك أكثر من اللازم. حاول وضع حدود واضحة عندما تباشر العمل حتى تتمكن من الاستمتاع بمزايا السعي وراء شغفك خارج جدران العمل.
مزلق "لا أستطيع فعل أي شيء حيال ذلك"
أثبتت أبحاث علماء النفس أن الإنسان يتعامل مع الضغوط بطريقتين مختلفتين، حيث يساعدنا التأقلم "المتمحور حول المشكلة" على التعامل مع الضغوط التي نعتقد أننا نسيطر عليها. ويتضمن هذا الأسلوب كلاً من مقدار العمل الإضافي الذي نتحمله عن طيب خاطر والمواعيد النهائية التي يمكننا تغييرها أو التفاوض بشأنها وغيرها من المشكلات المرتبطة بالعمل والتي "يصعب حصرها". فعندما نعتقد أننا لا نملك إلا قدراً يسيراً من السيطرة على الضغوط أو تنعدم سيطرتنا عليها، فعادةً ما ننخرط في التأقلم "المتمحور حول العاطفة". وكثيراً ما نستخدم هذا الأسلوب عندما نثقل كاهلنا بالعمل والمواعيد النهائية وغيرها من الضغوط التي تفتقر إلى المرونة أو الخارجة عن أيدينا، على الرغم من كل محاولاتنا، لكن الأشخاص الذين يستهلكون الكثير من الوقت في التأقلم المتمحور حول العاطفة (أي يتعاملون مع عواطفهم عندما يعتقدون أنهم لا يستطيعون السيطرة على شيء ما) يتعرضون لخطر الاحتراق الوظيفي بقدر أكبر بكثير من غيرهم.
إذا وجدت نفسك معرضاً لخطر الوقوع في هذا المزلق، فحاول أن تتحدى قناعتك بالجوانب التي تملك أو لا تملك السيطرة عليها في واقعك. فكّر في الأشياء التي تسبب لك التوتر تحديداً واسأل نفسك: "هل هذا الموعد النهائي صارم كما أظن؟" ثم اسأل نفسك: "ما الخطوات التي يمكنني اتخاذها للتفاوض على هذا الموعد النهائي؟" ستساعدك أي خطوات تتخذها للإحساس بمزيد من السيطرة على التخلص من الشعور بالاحتراق الوظيفي.
حتى إذا كان العمل يشعرنا بالإنجاز ويتماشى مع إحساسنا الشخصي بأننا نحقق هدفنا الأسمى في الحياة، فإن الوقوع في هذه المزالق قد يسهم في تفاقم إحساسنا بالتوتر والاحتراق الوظيفي. وقد أثبتت دراسة تلو الأخرى أن ممارسة اليقظة الذهنية يمكن أن تساعدنا على مكافحة التوتر. إلا أن الكثيرين منا متهمون بترك حياتهم المليئة بالمشاغل تعرقل قدرتهم على ممارسة اليقظة الذهنية قدر الإمكان أو كما يجب. انتبه جيداً إذا كانت أفكارك ومشاعرك وسلوكياتك تزيد من توترك أو تعرض إحساسك بالسيطرة على حياتك الشخصية والمهنية للخطر.
يجب على المؤسسات بكل تأكيد مواصلة دراسة الأسباب الرئيسية للاحتراق الوظيفي وإصلاحها. ويجب على القادة الاستماع إلى معاناة مرؤوسيهم والاعتراف بها واتخاذ خطوات ملموسة للتخفيف من حدتها، ولكن يمكننا استخدام هذه الاستراتيجيات في تلك الأثناء لتعلم القدرة على التحمل في مواجهة الاحتراق الوظيفي.
اقرأ أيضاً: تدريب اليقظة العقلية