انظر إلى خريطة للعالم مرسومة بطريقة مقلوبة. فهي طريقة جيدة لتحدي افتراضاتك حول الكيفية التي يبدو عليها العالم، خاصة فيما يتعلق بأي القارات والمحيطات أكبر وأيها أصغر حجماً. للنظر إلى عالم الأعمال بالمقلوب تأثير مماثل: ذلك أنه يتحدى افتراضاتك حول خصائص الشركة وما تعنيه بالنسبة إلى المؤسسة. فماذا عن نقاط الضعف في الشركات؟.
نقاط الضعف في الشركات
في عالم الأعمال المقلوب رأساً على عقب، قد تنهار الشركات الكبرى بسبب نقاط قوتها المفترضة، أو ربما يطيح بها منافس لها أصغر منها وأضعف. أما الشركات الصغيرة فقد تجد طرقاً لتحويل أوجه القصور لديها إلى مزايا، أو استغلال النفوذ الكبير والقدرات العالية لمنافسيها وتحويلها ضدهم.
في الوضع الطبيعي في عالمنا هذا، تظل نقاط القوة كما هي مواطن قوة، ونقاط الضعف تبقى مواطن ضعف. ويبدو أن هذا ينطبق فقط على بيئات العمل المستقرة، حيث تكون فيها التقنيات وهياكل السوق ثابتة إلى حد ما. ولكن، كما يدرك عديد من النظريات الاستراتيجية المعروفة، فإن مشهد عالم الأعمال بعيد عن الثبات والركود. في أغلب الأحيان، يكون العالم المقلوب رأساً على عقب هو ذلك العالم الذي نعيش فيه بالفعل.
إعادة التفكير في "سوات" (SWOT)
يمكن لـ "تحليل سوات"، وهو أداة هامة تحظى بتقدير واسع في استراتيجية الأعمال، أن يساعد المسؤولين التنفيذيين في اجتياز هذا الواقع. ففي الوضع التقليدي لهذا الإطار، يمكنك أن تجري فحصاً داخلياً لنقاط القوة ونقاط الضعف، وتستوعب المشهد كله لتحديد الفرص والتهديدات، ثم تجمع العوامل الأربعة معاً في خطة استراتيجية.
أما الجانب السلبي في تحليل "سوات" التقليدي فهو أنه لا يمثل القوى الأكثر ديناميكية في العمل في مجال الأعمال. ولمعالجة ذلك، نحتاج إلى تفكيك النموذج وإعادة بنائه، مثلما في المخطط التالي:
يدرك الإطار المعاد تنظيمه المتعلق بفكرة نقاط الضعف في الشركات أن التهديدات والفرص يمكن أن تأتي من الداخل والخارج أيضاً، وأن قدراتك وأوجه قصورك ليست وحدها المهمة بل أيضاً قدرات وأوجه قصور الجهات الفاعلة الأخرى. لهذا السبب، هناك شركات تفحص عاملين إضافيين: نقاط قوة الآخرين ونقاط ضعفهم. من الأهمية بمكان الإقرار بأن نقاط القوة في المؤسسة قد تشكل بالفعل تهديداً لها، في حين أن نقاط الضعف قد توفر لها الفرص.
نقاط قوتك ونقاط ضعفك
عبّرت دورثي ليونارد بارتون، وهي أستاذ في "كلية هارفارد للأعمال" (Harvard Business School)، بشكل بارز عن فكرة إمكانية تحول نقاط القوة لديك إلى مخاطر، وقدمت أطروحة بأن الكفاءات الأساسية للمؤسسة تقوى في كثير من الأحيان حتى تصير "جموداً أساسياً". وأنه يمكن للخصائص التي أعانت المؤسسة جيداً في الماضي، مثل قيمها ومهاراتها وأنظمتها الإدارية والتقنية، أن تصبح عقبات أمام المشاريع الجديدة.
كما ذكر أندرو غروف الرئيس التنفيذي السابق لشركة "إنتل" (Intel)، في كتابه الصادر عام 1996 "المرتابون هم الناجون دون غيرهم" (Only The Paranoid Survive)، أن أكبر جمود أساسي لشركة ما يكمن في إدارتها العليا. وقال إن هناك عملية تطوّرية يرتقي فيها الأشخاص ذوو المهارات والعقلية المناسبة لبيئة الأعمال السائدة إلى قمة المؤسسة. وعندما تتغير هذه البيئة، كما هي الحال حتماً، قد يصبحون غير مناسبين لقيادة المؤسسة.
يمكن أيضاً أن تتحول نقاط القوة إلى تهديدات على مستوى الصناعة. انظر مثلاً مهنة سائقي سيارات الأجرة. عندما احتكرت السوق في عديد من المدن، بدت أقوى في عام 2009 من أي وقت آخر. وكان ذلك العام هو نفسه الذي تأسست فيه خدمة النقل بحسب الطلب التي تعمل بالهواتف الذكية، وسميت آنذاك "أوبر كاب" (UberCab). على مدار الأعوام القليلة التي تلت ذلك، كشف عديد من أعمال سيارات الأجرة كيف تسببت هيمنتها على السوق في تجاهلها لخدمة الزبائن والتكنولوجيا التي يمكنها ربط الركّاب والسائقين. إنه مثال تقليدي يوضح كيف يمكن لمركز قوي في السوق أن يؤدي إلى نقص الاستثمار في الابتكار، ومن ثم تهديد البقاء.
كمثال على نقاط ضعف مفترضة تحولت إلى ميزة، يمكننا أن نرجع إلى الحرب العالمية الأولى. ساعد ضابط الجيش البريطاني لورانس (الشهير بـ "لورانس العرب") في تنظيم انتفاضة عربية ضد الامبراطورية العثمانية، حليفة ألمانيا، وكانت هذه الإمبراطورية قد حكمت بعد ذلك كثيراً من دول الشرق الأوسط. كانت المؤسسة العسكرية البريطانية متشككة في جدوى تلك الانتفاضة، واعتقدت أن الجيوش العربية البدوية والمجهزة تجهيزاً خفيفاً كانت أضعف من أن تقاوم الأتراك. أدرك لورانس أن هذه الخصائص منحت العرب فرصة بالفعل. فتجنب الحاميات التركية، وقاد هجمات خاطفة وحروباً غير نظامية ناجحة جداً على خط السكة الحديد الرئيس الذي يزود الجيش التركي بالإمدادات.
وبعد مرور قرن من الزمان على هذه الواقعة، تلعب "سبيس إكس" (SpaceX) ببطاقة فرصة نقاط الضعف ضد الجهات الفاعلة العملاقة مثل "بوينغ" (Boeing) و"لوكهيد مارتن" (Lockheed Martin) في تكنولوجيا الفضاء. تفتقر "سبيس إكس" إلى الخبرة والموارد المالية في شاغلي الوظائف. لكن نقاط الضعف الواضحة هذه دفعتها إلى تطوير سلسلة من الابتكارات، مثل استخدام الإلكترونيات الاستهلاكية الأرخص في مكونات الصواريخ الخاصة بها، والتي تقلل إلى حد كبير من تكاليف الإنتاج. سيحتاج شاغلو الوظائف إلى التخلي عن بعض عاداتهم القديمة الراسخة لصنع الصواريخ كما تفعل "سبيس إكس".
نقاط القوة ونقاط الضعف لدى الآخرين
تُعد فكرة تحويل نقاط القوة لدى منافسك إلى فرصة لك، فكرة حاضرة في عديد من الثقافات. يعلّمك فن الجودو الياباني، على سبيل المثال، كيف تحول وزن وقوة خصومك لتستخدمهما ضدهم.
كما استخدمت شركة "بيبسي" (Pepsi)، في أيامها الأولى، هذا النهج لتحدي شركة "كوكاكولا" (Coca-Cola) منافستها الرئيسة في المشروبات الغازية، متبعة مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات التي كرهت كوكاكولا نقلها عنها. شملت الاستراتيجيات كلاً من تخفيض السعر (لا يمكن أن تحذو كوكاكولا حذوها مع قاعدة زبائنها الأكبر حجماً)، والتوزيع في سلاسل محال السوبر ماركت الجديدة (ما خلق نزاعاً مع قنوات كوكاكولا التقليدية آنذاك)، وإعلانات نمط الحياة التي تستهدف الجيل الأصغر سناً (لا يتماشى ذلك مع صورة "المركز الحيوي" الشعار الخاص بكوكاكولا).
واليوم، تبرز على الساحة معركة مماثلة بالنسبة إلى متاجر القهوة. ففي الصين، تحاول شركة "لوكين كوفي" (Luckin Coffee) الناشئة حديثاً، منافسة "ستاربكس" (Starbucks) التي تعمل هناك منذ عام 1999. تملك شركة "لوكين" فعلياً 3 آلاف موقع، ويتصاعد نموها بوتيرة سريعة (في مقابل 4 آلاف موقع تملكها "ستاربكس"). خفّضت "لوكين" الأسعار وأنشأت متاجر بسيطة، معظمها أكشاك صغيرة، من خلال تحسين عملية التبادل غير النقدي، وذلك لمواجهة الحجم والتموضع المميَّز لـ "ستاربكس" وتحويله لصالحها. وردت على ذلك "ستاربكس" بخدمة التوصيل الخاصة بها ونموذج المتجر السريع، مراهنة على إمكانها شغل موضعين مختلفين في السوق بنجاح.
وكان كلايتون كريستنسن الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال، في نظريته الشهيرة الابتكار المزعزِع، قد أشاع المفهوم التكميلي، المتمثل في أن نقاط الضعف المفترضة للخصم قد تشكل تهديداً خطيراً لمؤسستك. افترِض أن عملك يركز على عملائه المهمين. يخترع أحد المنافسين، الذي ربما يكون منافساً جديداً، تقنية أضعف في أبعاد متعددة، ولكنها أقوى في بعدَين مهمين لمجموعة فرعية صغيرة من العملاء. قبل أن تدرك الأمر، تبدأ في فقدان العملاء العاديين الذين صاروا الآن يدركون قيمة الأبعاد الجديدة.
صارت هذه الديناميكية، في السنوات الأخيرة، مثار شد وجذب بين الكليات والجامعات التقليدية من جهة والتعليم عبر الإنترنت من جهة أخرى. تحتوي الدورات التدريبية عبر الإنترنت على نقاط ضعف واضحة: فهي تقدم للطلاب تفاعلاً وتقييماً محدودَين، بلا شهادات معتمدة في كثير من الأحيان. لكن التعليم عبر الإنترنت مفتوح للجميع أيضاً ويكون مجانياً في الغالب. يجذب هذا النوع من التعليم الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في القبول في الكليات والجامعات، أو في دفع المصروفات الدراسية، أو الذهاب إلى القاعات الدراسية في الحرم الجامعي في أوقات محددة من الأسبوع. حتى اليوم، أظهر الموظفون الحاليون بطئاً في الاستجابة، وذلك على الرغم من أنهم بدأوا في عرض بعض الابتكارات، مثل برامج الماجستير عبر الإنترنت. وبشكل تأصيلي، أنشأت "جامعة بيرديو" (Purdue University) اتفاقية لمشاركة الدخل، تربط بين سداد القروض الطلابية ودخل الخريجين، وذلك لجعل الدورات المنظَّمة في الحرم الجامعي في متناول عدد أكبر من الناس. ولكن ربما تركز معظم الكليات والجامعات بشكل مفرط على نقاط الضعف الموجودة اليوم في التعليم عبر الإنترنت فلا تعطِ اهتماماً كافياً للتهديد الخطير الذي قد يشكله ذلك في المستقبل.
والدرس الذي يستفيد منه شاغلو الوظائف في جميع الصناعات هو أن المنافسين الضعفاء أو الذين يبدون غير مهمين في البداية قد يمنحونهم هدوءاً مؤقتاً وشعوراً زائفاً بالأمان.
اختبار تفكيرك بتحليل "سوات" الجديد
ليس من الصعب دمج الإطار الجديد في تخطيطك الاستراتيجي. إليك ممارسة يمكن لأي مؤسسة، كبيرة أو صغيرة، القيام بها للتحقق من افتراضاتها فيما يتعلق بفكرة نقاط الضعف في الشركات:
شكّل فريقين. اجعل الفريق (أ) يسرد جميع نقاط القوة التي يراها في مؤسستك، في حين يسرد الفريق (ب) جميع نقاط الضعف فيها. ثم اطلب من الفريقين تبادل القائمتين. اطلب من الفريق (ب) أن يبرهن على أن نقاط القوة المذكورة تشكل تهديدات لمستقبل هذه المؤسسة، ومن الفريق (أ) أن يبرهن على أن نقاط الضعف المذكورة تشكل فرصاً لها. بعد ذلك، أجرِ تحليلاً خارجياً مماثلاً: اطلب من الفريق (أ) إدراج جميع نقاط القوة التي يراها في أحد منافسيك، ومن الفريق (ب) أن يعدد جميع نقاط الضعف فيه. ثم اطلب من الفريقين تبادل القائمتين مجدداً. اطلب أيضاً من الفريق (ب) أن يبرهن على أن نقاط القوة المذكورة لدى المنافس هي فرص لمؤسستك، ومن الفريق (أ) أن يبرهن على أن نقاط الضعف عند هذا المنافس تشكل لك تهديدات.
سيفتح هذا التمرين عينيك على العديد من الاحتمالات التي قد لا تصادفها أبداً. ومع ذلك، من الضروري ألا ننسى أن التفكير الصائب المستقيم حول الاستراتيجية أحياناً يكون هو المطلوب تماماً. فقد تكون نقاط القوة في المؤسسة هي بالفعل كذلك ويجب حمايتها وتعزيزها، وقد تكون نقاط الضعف هي بالفعل مواطن ضعف.
يأخذ الاستراتيجيون المميَّزون في حسبانهم احتمالية أن تكون الأمور على ما تبدو عليه عند دراسة نقاط الضعف في المشروع، أو أن تكون في حقيقتها عكس ذلك بحسب الموقف. ويحلل المؤرخ والأستاذ بجامعة "ييل" (Yale) جون لويس غاديس، في كتابه "عن الاستراتيجية الكبرى" (On Grand Strategy)، الاستراتيجيين العسكريين والسياسيين على مر القرون. حيث وجد أن أفضلهم هم أولئك الذين يظهرون (على حد تعبير فرانسيس سكوت فيتزجيرالد الشهير) "القدرة على الاحتفاظ ذهنياً بفكرتين متعارضتين في الوقت نفسه، وما زالوا يحتفظون بالقدرة على العمل".
وفي نهاية الحديث عن نقاط الضعف في الشركات، عليك أن تفكر بمرونة. وإن كان هذا لا يعني التفكير بتهور. كما يجب اتباع استراتيجية بطريقة منظمة. باستخدام مخطط "سوات" الجديد، يمكنك طرح أسئلة مهمة بشكل منهجي حول ما إذا كانت الديناميكيات المقلوبة رأساً على عقب قد تنجح في عملك بدلاً من الديناميكيات المستقيمة التي قد تكون من نقاط الضعف في الشركات.
اقرأ أيضاً: اكتشف نقاط القوة والضعف لديك