لا يتوقف الحديث في عالم الأعمال عن بيئات العمل المتكاملة. ووفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2019، يتزايد الشغف بشأن بيئات العمل المتكاملة الممكّنة رقمياً. بينما ينصب معظم التركيز على مآلات الاقتصاد الشامل (على سبيل المثال، توصل بحث أُجري بواسطة مؤسسة ماكنزي إلى أن أكثر من 30% من النشاط الاقتصادي العالمي سيتم عبر المنصات الرقمية بحلول عام 2025)، يُوجّه قدر ضئيل من الاهتمام إلى ما تعنيه هذه الحقبة من بيئات العمل المتكاملة في الممارسات الإدارية.
وبصورة أكثر تعقيداً بكثير من سلاسل التوريد المعتادة، فإن بيئات العمل المتكاملة عبارة عن مجموعات من الشركات وغيرها من الجهات الفاعلة (كأصحاب المنصات، والوكالات الحكومية، والموظّفين المستقلين، والعملاء المشاركين في الصناعة، إلخ) تتضافر مساهمتهم معاً لإنتاج قيمة ملموسة. والفكرة هي أن كل من هذه الأطراف يمكنه الاستفادة إذا تمكن من تبني رؤية أشمل لكافة الجهود الجماعية.
وعلى الرغم من كثرة تبني مختلف مقار العمل لمفردات وتشبيهات بيئة العمل المتكاملة، إلا أنه لا تتوافر المعلومات المطلوبة عن كيفية تطوير طرق وأساليب الإدارة استجابة لهذا المفهوم. ما هي أساليب الإدارة الأكثر فاعلية في دفع الآخرين للتماشي مع النظام وتطويره ليعمل بصورة أفضل؟ ما هي الهياكل والأدوات والعمليات الجديدة التي يحتاج إليها المديرون لتنسيق الجهود على نطاق أوسع دون الخروج عن المسار الصحيح؟
تبين لنا بالبحث والممارسة وجود دليل على أن المدراء الذين يكيفون أساليبهم بما يناسب بيئات العمل المتكاملة أكثر قدرة من غيرهم على النجاح فيها. خذ مثالاً على ذلك جان رومين الذي يقف وراء الصعود الهائل لشركة "هاير" المتخصصة في صناعة الأجهزة المنزلية. في نسخة العام الماضي من منتدى بيتر دراكر الدولي، وصف الرجل تحول الشركة إلى بيئة عمل متكاملة على صعيدين. خارجياً، ومع اكتساب الشركة خبرة في "إنترنت الأشياء"، بدأت تشهد تغيراً هائلاً في الفرص والمسؤوليات بفضل الاتصال المباشر مع العملاء. أما على المستوى الداخلي، فقد أعيدت بشكل كبير هيكلة الشركة إلى مئات من خلايا ريادة الأعمال - بيئة عمل متكاملة من الوحدات المكثفة، تستفيد كلها من البنية التحتية المشتركة. الفكرة هنا أن هذه المسألة لم تعد مجرد حديث مجازي: لأن تطبيق بيئات العمل المتكاملة أصبح ضرورياً في كل تفاصيل العمليات التشغيلية بالشركة - عمليات التصنيع، وإدارة الأداء، والحسابات، حيث أكد زانغ في لقاء صحفي أجري معه عام 2018، قائلاً: "هذه خطوة مهمة في القرن الحادي والعشرين، بيئة عمل متكاملة هو سبيلنا للوصول إلى القمة".
ومع اكتساب شركة "هاير" وغيرها خبرة في إدارة بيئة العمل المتكاملة، بدأ الخبراء الاستشاريون وأساتذة الإدارة في إيجاد أنماط فاعلة لتطبيقها. فمثلاً، أكد بحث من مجموعة بوسطن للاستشارات على ضرورة تحول القادة من مفوضين من المستويات العليا إلى "منسقين" مؤثرين. فالبيئات التي لا يتاح فيها للقادة إمكانية ممارسة سلطة رسمية، حيث تطغى المكاسب الجماعية على الإنجازات الفردية، يجب أن يكون القادة أكثر قدرة على بناء المجتمعات وغرس روح الالتزام بأهدافها المشتركة.
وكما هو الحال مع كل المسميات الإدارية المجازية، فإن الحديث عن بيئات العمل المتكاملة دفع بعض المعلقين للتساؤل: هل هذا نظام جديد بحق؟ ألم تكن الشركات دوماً جزءاً من أنظمة أوسع، ومكوّنة كذلك من شبكات داخلية أصغر؟ لطالما كانت نظرية النظم في الإدارة جزءاً من مناهج كليات الأعمال، والتي توصل إليها كل من هانز أولريخ، بيتر جوميز، فريدموند ماليك في جامعة "سانت غالين" (وفي أميريكا، غاي فوريستر، راسل أكوف، بيتر سينغي). بل إن بيتر دراكر، نفسه، وقبل عقود من الآن، ابتكر مصطلح "المنظومة الاجتماعية" ليصف به طبيعة عمله حين كان يدرس أعمال المؤسسات وتأثيراتها واندماجها في المجتمع.
ما تغير من يومها أن التكنولوجيا جعلتنا أكثر ارتباطاً واستغراقاً في البيانات من أي وقت مضى. في أيامنا هذه حيث البرمجيات الشبكية والتشاركية والبيانات الكبيرة وما إلى ذلك لا يمكن للمدراء ببساطة أن يواصلوا تبني نموذجاً مخصصاً للشركة لمجرد أنه يتلاءم مع أسلوب إدارتهم لها. الآن وقد صارت أنشطة الشركات شديدة التداخل وصار نجاحها يعتمد بشدة على بعضها بعضاً، فإن الأدوات والأساليب القديمة لم تعد صالحة.
وبات على المدراء أن يغيروا ممارساتهم على مختلف الأصعدة إذا ما أرادوا تحقيق النجاح في عصر المنصات والشراكات. ومع دخول الممارسات الجديدة للإدارة وفق نظام بيئات العمل المتكاملة صار لزاماً وضع نظرية جديدة للإدارة، يعاد توجيهها كذلك نحو رؤية أوسع وعلى مستوى النظام بأكمله. وبإمكان كل من الممارسين والمنظرين البدء بالاستغناء عن نماذج المدخلات وآليات العمل والمخرجات ميكانيكية الطابع قديمة العهد. سيكون عليهم اتباع رؤية أكثر ديناميكية، أكثر عضوية وثورية لكيفية تطوير قدرات المؤسسات وتعزيزها.
اقرأ أيضاً: استعادة الشغف
وحيث إننا نعمل جميعاً لاكتشاف الفرص في هذا الواقع الجديد، فسوف يتعين علينا كذلك توقع مثالبه والتعامل معها. إن بيئات العمل المتكاملة مصطلح له دلالات جيدة - مثل حديقة غنّاء تزدهر في ظل آليات اكتفاء ذاتي طبيعية - لكن الواقع ليس وردياً على هذا النحو. فالشبكات شديدة الارتباط جاءت بديناميات جديدة ونتائج غير مقصودة - مثل الهزات الخاطفة التي تتعرض لها أسواق المال بعد أن صارت رقمية بالكامل والأسواق التي تسير وفق مبدأ "من يفوز يظفر بكل شيء" والتي ظهرت كآثار للشبكات وزيادة العوائد التي أدت لظهور أشكال احتكارية حديثة.
حين تلتف عدة كيانات حول معيار، أو منصة، أو رؤية معينة للمستقبل، دون أن يتمتع كل كيان على المستوى الفردي بما يكفي من القوة لتغيير ذلك المستقبل، فسنحصل في النهاية على نظام مختل بشدة يستعصي على التغيير. ولك أن تتأمل مقاومة سوق الأسهم للمكافأة على خلق القيمة بعيدة المدى في مقابل القيمة قصيرة الأجل. لو أن صاحب رؤية مستقبلية داخل نظام ما لم يستطع الانطلاق في اتجاه غير متوقع وتحقيق النجاة، فإن فرص الإبداع ذات الأثر الكبير تصير أكثر ندرة.
اقرأ أيضاً: طلب المساعدة من الآخرين
إن الاقتصاد، وخصوصاً الاقتصاد الرأسمالي، لا يزدهر فقط حين يمتلك الأدوات المناسبة بل يزدهر كذلك حين تتوافر له القواعد المناسبة. ولا بد من إعطاء الأولوية لإعادة صياغة تلك القواعد بحيث تناسب عصر بيئات العمل المتكاملة لدى مجموعة تشكل بحد ذاتها بيئة عمل متكاملة - العلماء والاستشاريون والمشرّعون والمدراء الذين يشكل عملهم مشروع الإدارة. يجب علينا جميعاً أن نضع أيدينا في أيدي بعض لإيجاد سبل لمواجهة الجانب المظلم لهذه التشابكية الشديدة، ونجد ما فيها من إمكانات إبداع وخلق قيمة مشتركة. وبذلك سيكون مستقبل بيئات العمل المتكاملة صنيعة عملنا المشترك.