ملخص: يؤول 78% من مبادرات إدارة التغيير والتحول المؤسسي إلى الفشل، لذلك فهي مهمة صعبة تتطلب قيادة ناجعة وموظفين واعين بأهمية المبادرة. يسلّط هذا المقال الضوء على المسار الذي اتبعته الهيئة العامة للغذاء والدواء في السعودية في سبيل تحقيق التغيّر المنشود، والذي تميّز بـ 3 ركائز يمكن أن تُصبح منارة لكل مؤسسة تفكر في إجراء تحول مؤسسي: 1. الرؤية الواضحة وربط الجميع بها، 2. وضع الموظفين في قلب عملية التحوّل المؤسسي، 3. تطوير ثقافة تُساعد على تقبُل التغيير.
دخل القادة والمدراء في الهيئة العامة للغذاء والدواء بالمملكة العربية السعودية إلى قاعة الاجتماعات لحضور اجتماعهم السنوي الذي تعلن خلاله الأهداف الجديدة، ليفاجئوا بهدف يعلنه الرئيس التنفيذي: "لدينا هدف جديد: رفع بلاغات الأعراض الجانبية 10 أضعاف خلال هذا العام". خرج الجميع مندهشاً، إذ يبدو هدفاً صعباً للغاية خلال هذه الفترة القصيرة. ولكن مع خطة محكمة على مدار العام، دخل القادة أنفسهم اجتماعهم السنوي التالي ليحتفلوا بإنجازهم الهدف الذي رأوه منذ عام مستحيلاً. إذ تضاعف عدد بلاغات الأعراض الجانبية للأدوية الواردة إلى الهيئة العامة للغذاء والدواء عشرة أضعاف.
إن تحقيق الهيئة هدفاً رآه الجميع مستحيلاً، كان مقصوداً، إذ ساعدت هذه الآلية على بناء الثقة بين القيادة وبين الفريق، وهي ركيزة أساسية في رحلة التحوّل المؤسسي الذي خاضته الهيئة بنجاح خلال السنوات الأخيرة.
واجهت الهيئة العامة للغذاء والدواء بعض التحديات، الأمر الذي استلزم تعزيز الكفاءة في استخدام الموارد المالية المتاحة، وأدى إلى تبنّي رؤية جديدة لخمس سنوات تهدف إلى أن تصبح الهيئة ضمن أفضل 5 جهات رقابية. لم تكن رحلة التغيير يسيرة قط، إذ إنّ 78% من محاولات التحول المؤسسي مصيرها الفشل، ولكن الهيئة اتبعت مساراً قائماً على 3 ركائز يمكن أن يصبح منارة لكل مؤسسة تفكر في إجراء تحول مؤسسي، إلى جانب التحلي بالسمات القيادية لتنفيذ التحوّل بنجاح.
1. الرؤية الواضحة وربط الجميع بها
في جميع جهود التغيير الناجحة، كانت القيادة قادرة على رسم صورة للمستقبل يسهل الحديث عنها نسبياً، إذ توضح الرؤية الاتجاه الذي تريد المؤسسة أن تسلكه. يقول المؤلف جون كوتر: "إن القاعدة الذهبية في وضع رؤية ناجحة هي أن يكون القادة قادرين على إيصالها إلى شخص ما خلال 5 دقائق أو أقل".
ودون وجود رؤية واضحة، يمكن أن تصبح جهود التحوّل قائمة من المشاريع المتنافرة التي قد تسير بالمؤسسة في الاتجاه الخاطئ. ولا تعني الرؤية الخطط والتوجيهات والبرامج، بل الغرض المؤثر الذي يشير إلى الوجهة التي ستُفضي إليها كل هذه الجهود.
كانت الرؤية واضحة منذ اليوم الأول لإطلاق الخطة الاستراتيجية: "الهدف أن تكون الهيئة من أفضل خمس جهات رقابية في المملكة"، وبعدها وضعت خططاً لتحقيق هذه الرؤية مثل رفع عدد الجولات التفتيشية على سبيل المثال، وزيادة بلاغات الأعراض الجانبية للأدوية، وتقليص زمن بقاء الأغذية في المنافذ، وغيرها.
بعد وضع رؤية واضحة، تأتي خطوة مهمة للغاية وهي كيفية ربط الموظفين بها. ومن الأخطاء التي ترتكبها الشركات هنا هي إبلاغ الناس بهذه الرؤية عبر عقد اجتماع وحيد أو إرسال بيان واحد فقط، أو إلقاء الرئيس خطابات أمام مجموعات مختلفة من الموظفين دون أن يفهموا ما يُلقى على مسامعهم.
يعمل الرؤساء التنفيذيون الناجحون على إدماج الرسائل المتعلقة بالتغيير ضمن نشاطاتهم المختلفة طوال اليوم، وهو ما حدث في جهود التحوّل بالهيئة، فتُذكر الرؤية في كل اجتماع رسمي، فعلى سبيل المثال، يتحدث القادة خلال نقاشهم حول مشكلة ما في الهيئة عن مدى تناسب الحلول المقترحة مع الرؤية، ويناقشون في أثناء عملية تقييم الأداء دور سلوك الموظفين في دعم الرؤية الجديدة أو تقويضها. وقد أطلقت الهيئة العامة للغذاء والدواء جهوداً لنشر الوعي والمعرفة برؤية الهيئة ورسالتها مثل:
- إنشاء صفحة خاصة للخطة الاستراتيجية في موقع الهيئة الداخلي لإشراك جميع موظفي الهيئة، وتوثيق كل ما يتعلق بالخطة من تحديثات، وأهم الإنجازات والمخرجات، والتقارير.
- نشر رسائل توعوية مستمرة متنوعة موجهة لموظفي الهيئة لرفع المعرفة والوعي بالاستراتيجية ومكوناتها.
- تنفيذ مجسم للاستراتيجية ووضعه في بهو الهيئة وتوزيع الخريطة الاستراتيجية ووضعها في مكاتب القادة لتذكيرهم باستمرار بالرؤية والرسالة العظيمة للهيئة ودورهم في تنفيذها.
- تنفيذ مهام التواصل الاستراتيجي والأنشطة تنفيذاً متواصلاً على مدار السنة عبر عدة قنوات مثل اللقاءات وورش العمل، ونشرات عبر البريد الإلكتروني والإعلان الداخلي، وشاشات التوقف، وتوزيعات على مكاتب القادة والموظفين.
2. الموظفون هم قلب عملية التحوّل المؤسسي
تتمتع الشركات والجهات الحكومية بفرصة أفضل للنجاح إذا ركزت على موظفيها في أثناء عملية التحول، وذلك وفقاً لنتائج دراسات متعددة. وفي التحوّل الذي أجرته الهيئة، كان العنصر البشري في قلب العملية، إذ بدأ التحول بإعادة هيكلة لأدوار الموظفين، والتي تم خلالها التعاون مع مستشارين خارجيين لتقييم المدراء وإجراء اختبارات دقيقة لهم، ومن ثم إعادة توزيعهم في المكان الصحيح، خاصة بعد دمج القطاعات المتشابهة تحت إدارة واحدة، إذ نُقل نحو 300 مدير بعد هذه العملية، ومن هذه العوامل:
- التواصل: يسهم التواصل الفعال في فهم التحول المؤسسي وأثره، ويساعد في إبقاء جهود التغيير على المسار الصحيح. فوفقاً لاستطلاع للرأي أجرته مؤسسة روبرت هاف (Robert Half)، أكدّ 65% من المدراء أن التواصل والشفافية بينهم وبين فِرقهم كانا من أهم جوانب القيادة خلال فترات التحول المؤسسي.
وقد تعززت ثقافة التحوّل ورأس المال البشري داخل الهيئة من خلال زيادة وتيرة التواصل، ليكون أسبوعياً وشهرياً وسنوياً، لمتابعة المؤشرات، فعلى سبيل المثال، يجتمع القيادات ومدراء المشاريع وبعض الموظفين لمراجعة الأداء فيما يخص الاستراتيجية وإبداء الملاحظات والتأكد من أن المؤشرات تقود إلى تحقيق الأهداف المحددة.
- الاهتمام بالإدارة المتوسطة: يحمل مدراء الإدارة الوسطى شعلة النجاح في المؤسسات، سواء من ناحية الأداء التنظيمي، أو الأداء المالي، أو استبقاء الموظفين وزيادة إنتاجيتهم ورضاهم عن العمل.
تنظر الهيئة العامة للغذاء والدواء إلى الإدارة المتوسطة باعتبارهم محركاً مهماً للتحوّل ومفتاحاً رئيسياً للتواصل مع كل الموظفين وتحريكهم، إذ يجتمع 100 قائد من مدراء الإدارة المتوسطة مع الرئيس التنفيذي للهيئة مرتين سنويين لمتابعة الأداء وتلقي أي ملحوظات أو تعليقات، إضافة إلى التواصل المستمر معهم طوال العام من خلال الاجتماعات والتقارير والبريد الإلكتروني، إلى جانب فرص التدريب والتعلم.
3. تطوير الثقافة
تعد القيم والرسائل أساس ثقافة الهيئة العامة للغذاء والدواء التي حرصت بدورها على تطوير الثقافة لتحسين الأداء وتحقيق المستهدفات، حيث تم تفعيل العديد من أنشطة التواصل الاستراتيجي لنشر القيم لدى الموظفين وتعزيزها عبر عدة قنوات، وتعريفها بوضوح ليصل إلى جميع الموظفين المفهوم الصحيح لهذه القيم التي تشكل ثقافة الهيئة. ومن الجهود التي بذلتها الهيئة لتعزيز القيم:
- دراسة آراء موظفي الهيئة بمدى فعالية القيم السابقة مع توجهها وتوجه الاستراتيجية الرابعة.
- عقد العديد من اللقاءات وورش العمل لتحديد وتعريف القيم للخطة الاستراتيجية الرابعة بمشاركة جميع موظفي الهيئة من خلال الأنشطة المتنوعة.
- ربط القيم بالرؤية والرسالة للهيئة مثل قيمة نسعى للريادة والتميز ونستمر بالتعلم والتطور.
- نشر استبيان لجميع منسوبي الهيئة يهدف إلى زيادة إشراكهم بالاستراتيجية الرابعة وأخذ المقترحات والملاحظات والاستفسارات.
ما السمات القيادية التي تساعد في نجاح عملية التحوّل المؤسسي؟
لم يكن الطريق يسيراً قط بالنسبة لرحلة التحوّل في الهيئة، فكان هناك العديد من التحديات سواء الداخلية مثل مقاومة الموظفين للتغيير أو الخارجية مثل الأحداث غير المتوقعة محلياً وعالمياً على غرار جائحة كوفيد-19، أو حتى التحديات المتعلقة بالتعاون مع الجهات الحكومية الأخرى، وهنا يأتي دور القيادة الفعّالة في تذليل العقبات أمام تحقيق المستهدفات:
القيادة بالقدوة
لا تنجح محاولات التغيير بالأقوال وحدها، فلا شيء يقوّض التغيير أكثر من رؤية القادة يتصرفون بطريقة لا تتناسب مع كلامهم، لذلك، فإن الأفعال هي الأسلوب الأقوى غالباً، وهذا هو الأسلوب الذي اتبعته القيادة في الهيئة:
القيادة المفتوحة
يحتاج قادة التغيير إلى الانتقال من نموذج قائم على التركيز على الهرمية والتراتبية المؤسسية إلى مرحلة تعتمد على تجميع الطاقات الجماعية وتوجيهها، وهو ما يطلق عليه المؤلف دان بونتفراكت في مقاله بعنوان "القيادة في زمن التحولات الكبرى" اسم "القيادة المفتوحة". وعمدت الهيئة إلى كسر البيروقراطية وتسليم المزيد من الصلاحيات إلى القادة المباشرين والقادة المتوسطين.
تحدي محاولات التثبيط
لن ينجح التحول في مؤسسة مثل الهيئة العامة للغذاء والدواء دون التعاون مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص، غير أن هذه النقطة نفسها تمثل تحدياً أمام التحوّل، فإيجاد الصيغة المناسبة للتعاون التي تضمن لجميع الجهات تحقيق مصالحها في فترة معقولة يعدّ مسألة معقدة، لا سيما في ظل اختلاف نماذج العمل والعقليات السائدة من مؤسسة لأخرى.
بادرت الهيئة من خلال رؤيتها الجديدة إلى حل هذه الإشكالية، فسعت القيادة إلى تشجيع الجهات الأخرى على التعاون، وحل المشكلات. ولنأخذ قضية بقايا المبيدات على الخضروات والفاكهة مثالاً، إذ كانت النسبة تتعدى 8%، فاجتمع الرئيس التنفيذي مع ممثلي وزارتي البيئة والمياه والزراعة والبلديات والإسكان معلناً أن الهدف هو الوصول إلى نسبة 2%، ثم أكد أن تحقيق الهدف لن يحدث دون التعاون مع الجهتين، وعلى الرغم من صعوبته، وصلت نسبة بقايا المبيدات إلى أقل من 2% بعد العديد من الجهود المكثفة في المبيدات على مدى سبع سنوات.
الجرأة في وضع الأهداف
تحتاج الرؤى الطموحة إلى أهداف كبيرة، وهذه كانت طبيعة الأهداف التي وضعهتها الخطة الاستراتيجية الجديدة، كما ذُكر في بداية المقال فيما يتعلق برفع بلاغات الأعراض الجانبية 10 أضعاف خلال عام، ووضعت خطة فعالة بدءاً بمخاطبة الجهات ذات العلاقة، وعقد ورش العمل، والاجتماع مع الصيدليات الأهلية والمستشفيات الحكومية والأهلية والشركات الدوائية، والإعلان عن أكثر الجهات الصحية والصيدليات الأهلية التي تبلغ عن الأعراض الجانبية للأدوية وغيرها.
هناك أهداف كبيرة أخرى استهدفتها الهيئة مثل رفع عدد جولات التفتيش من 5 آلاف جولة إلى 120 ألف جولة تفتيشية بعدد الموظفين نفسه، وتقليص زمن بقاء الأغذية في المنافذ من أسبوعين إلى 35 دقيقة عبر تسهيل الموافقة في الميناء. إذ تعد الأهداف الكبيرة، على الرغم من رفض الموظفين لها في البداية، حافزاً نحو تحفيز الموظفين، وزيادة مستوى رضاهم عن العمل، فيشير أحد الأبحاث الذي نشرت نتيجته في مقال بعنوان "لماذا يجب عليك التوقف عن وضع الأهداف السهلة؟" إلى أن الموظفين يرون الأهداف الصعبة أكثر جاذبية، وفي بعض الأحيان يصبح تحقيق الأهداف الأعلى قيمة أسهل من تحقيق الأهداف الأقل قيمة.
لم يكن طريق التحوّل وردياً، بل بحاجة إلى خطة واضحة تُتبع خلالها الركائز الأساسية للتحوّل وهي وضوح الرؤية، ووضع الموظفين في قلب عملية التحوّل، وتطوير الثقافة، وأن يتحلى القادة بالصبر والحكمة لبناء ثقة الموظفين بهم، وقد استطاعت القيادة في الهيئة العامة للغذاء والدواء بناء هذه الثقة عبر القيادة بالقدوة أولاً.