ملخص: ازدادت أهمية تطوير المهارات الشخصية للموظفين، مثل حل النزاعات والعمل الجماعي والقدرات القيادية، حتى غدت أهم من أي وقت مضى، ولكن قد يجد الموظفون صعوبة في تطويرها، خاصة وأن الكثير من برامج التدريب التقليدية بات غير مقبول في ظل انتشار منهجية العمل عن بُعد. فما الذي تستطيع الشركات فعله لمساعدة أفرادها على تطوير هذه المهارات الحيوية في ظل عدم القدرة على توفير التعليم وجهاً لوجه؟ ترى المؤلفة أن الواقع الافتراضي يمكن أن يقدم حلاً ناجعاً. إذ يتيح الواقع الافتراضي إمكانية خوض تجارب تفاعلية غامرة يتفاعل فيها الموظفون مع شخصية رمزية "أفاتار" لتقمص الأدوار في المحادثات الصعبة وتطوير مهارات التواصل. وتناقش المؤلفة استناداً إلى استقصاء لآراء أكثر من 300 شخصية من رواد التعلم والتطوير كيفية استخدام هذه البرامج في الشركات الكبيرة والصغيرة لدعم التدريب على خدمة العملاء وتنمية مهارات إلقاء العروض التقديمية وتقييم الموظفين. وقد خلصت المؤلفة في النهاية إلى أن الواقع الافتراضي يشكل عنصراً حاسماً في تمكين جيل المستقبل من العاملين من تنمية المهارات الشخصية التي سيحتاجون إليها للنجاح في أي مؤسسة.
تواجه الشركات اليوم فجوة متزايدة في المهارات الشخصية. فقد توصلت الدراسات التي أُجريت مؤخراً إلى أن 59% من مدراء التعيين و89% من المسؤولين التنفيذيين الذين شملهم الاستقصاء أفادوا بصعوبة توظيف مرشحين يمتلكون المهارات الشخصية المطلوبة، مثل إجادة التواصل والعمل الجماعي والقدرات القيادية. وغدت هذه المهارات الشخصية أكثر أهمية (وبات اكتسابها أكثر صعوبة) بسبب الجائحة التي اضطرت الكثيرين إلى العمل عن بُعد بصورة مؤقتة، أو دائمة في كثير من الحالات. فما الذي يمكن أن تفعله الشركات لمساعدة موظفيها على تطوير هذه المهارات الحيوية في ظل عدم القدرة على توفير التعليم وجهاً لوجه؟
فجوة متزايدة في المهارات الشخصية
يمثل الواقع الافتراضي أحد الحلول الواعدة، حيث توفر أدوات الواقع الافتراضي للمتعلمين تجربة غامرة بكل معنى الكلمة، على عكس حلول التعلم الإلكتروني التقليدية، ويمكن تشغيل هذه البرامج التفاعلية عبر نظارات الواقع الافتراضي، وهي أول ما يطرأ على أذهان الكثيرين لدى سماعهم مصطلح "الواقع الافتراضي"، أو عبر الأجهزة المحمولة أو أجهزة سطح المكتب الاعتيادية، وتتيح للموظفين القدرة على التفاعل وتقمص الأدوار مع الشخصيات الرمزية "أفاتار" المصممة لمحاكاة العملاء أو غيرهم من أصحاب المصلحة الرئيسيين. يقول كريستوفر ديدي، الأستاذ في "كلية هارفارد للتعليم" والذي تركز أعماله على تطبيقات الواقع الافتراضي في حقل التعليم: "ينخرط مستقبل الواقع الافتراضي في بيئة تمزج بين العالمين المادي والرقمي، يتفاعل فيها المستخدمون عبر النظارات أو أجهزة الكمبيوتر أو الأجهزة المحمولة لتقمص الأدوار مع الشخصيات الرمزية أو لتعلم مهارة جديدة".
وفي حين أن الأدوات التعليمية التقليدية قد تبدو مملة أو مصطنعة في بعض الأحيان، فإن التدريب عبر الواقع الافتراضي الغامر يخلق تجارب مؤثرة لا تُنسى، دون التعرض لمخاطر التداعيات التي قد تحدث في العالم الحقيقي. ويستعرض هذا الفيديو نموذجاً لمحاكاة التدريب عبر الواقع الافتراضي، وفيه يتفاعل الموظف مع شخصية رمزية "أفاتار" للتمرن على مهارات تطوير القدرات القيادية وحل النزاعات.
لا يعتبر الواقع الافتراضي فاعلاً للغاية فحسب، بل ويمتلك أدوات يمكن أن تقلل أيضاً من التكاليف المالية والعقبات اللوجستية المرتبطة بالتدريب التقليدي الذي يتم بصورة شخصية وجهاً لوجه، حيث تتوافر الأجهزة المحمولة أو أجهزة سطح المكتب فعلياً لدى الكثير من الموظفين في مكاتبهم المنزلية، وغالباً ما تكون برامج الواقع الافتراضي أكثر تشويقاً وبالتالي يجري إنهاؤها بصورة أسرع (وأرخص) من البرامج البديلة. وقد خلُصت دراسة أُجريت من قبل شركة "بي دبليو سي" (PwC) عام 2020 إلى أن تكلفة الواقع الافتراضي تعتبر بصفة عامة أقل بكثير من تكلفة الخيارات التقليدية للتدريب على المهارات الشخصية، ووُجد أن الموظفين يكملون برامج الواقع الافتراضي أسرع 4 مرات من التدريبات التقليدية، وأسرع 1.5 مرة من برامج التعليم الإلكتروني، وذلك لأن التجربة الغامرة سهّلت على المتعلمين مواصلة التركيز. وخلُصت الدراسة أيضاً إلى أن الموظفين الذين أكملوا تدريبات الواقع الافتراضي شعروا بأنهم أكثر ارتباطاً وجدانياً بالمحتوى بصورة تفوق مَنْ تلقوا تعليمهم في الفصول الدراسية التقليدية بمقدار 4 مرات، وتفوق مَنْ تلقوا تعليمهم إلكترونياً بمقدار الضعف، ما يوضح الأثر الهائل الذي يمكن أن يحدثه الواقع الافتراضي.
أرادت شركتي (شركة "فيوتشر وورك بليس" (Future Workplace) لاستشارات الموارد البشرية) التعرف على كيفية استخدام الشركات الرائدة للواقع الافتراضي في التدريب على المهارات الشخصية اليوم، فما كان منها إلا أن دخلت في شراكة مع منصة "مورسيون" (Mursion) المتخصصة في التدريب عبر الواقع الافتراضي، وشركة أبحاث مستقلة تابعة لجهة خارجية لإجراء استقصاء لأكثر من 300 شخصية من قادة التعلم والتطوير في عدد من القطاعات المتنوعة. توصلنا من خلال بحثنا إلى أن أكثر من ثلثي المشاركين قد نفذوا بالفعل برنامجاً تدريبياً على المهارات الشخصية عبر الواقع الافتراضي، أو خططوا لتنفيذ أحدها خلال العامين المقبلين.
مجالات تطوير المهارات الشخصية من خلال الواقع الافتراضي
حيث درسنا المعدلات الكمية لاعتماد هذه البرامج، بالإضافة إلى ذلك فقد أجرينا أيضاً تحليلاً نوعياً لكيفية استخدام هذه البرامج فعلياً في الممارسة العملية. وفي حين أن الاستقصاء كشف عن استخدام تطبيقات الواقع الافتراضي في مختلف أشكال التدريبات، فقد لا حظنا أن هناك 3 مجالات مشتركة يركز عليها الكثير من الشركات وبدأت فعلياً تسخير الواقع الافتراضي لدعم تطوير المهارات الشخصية من خلاله:
1. محاكاة الواقع الافتراضي للتدريب على خدمة العملاء
يمكن أن توفر محاكاة الواقع الافتراضي مبدئياً وسيلة خالية من الضغوط للتمرن على المحادثات المحفوفة بالمخاطر. فقد شاركت شركة "آتش آند آر بلوك" (H&R Block)، على سبيل المثال، في الاستقصاء الذي أجريناه، وهي شركة عالمية متخصصة في إعداد الضرائب وتعيّن 5,000 مندوب جديد لمراكز الاتصال سنوياً، منهم 1,600 شخص ينضمون في النصف الثاني من موسم الضرائب المعروف بازدحامه. ويُتوقع من هؤلاء الموظفين المبتدئين إجراء مكالمات معقدة ومشحونة عاطفياً مع مجموعة متنوعة من العملاء (غالباً ما يعتريهم الغضب) خلال أيام قليلة من بدء العمل في الشركة.
يجب على هؤلاء الموظفين لكي ينجحوا في هذه المهمة أن يتقنوا مهارات التعامل مع الآخرين، مثل الاستماع الفعال والتحلي بالهدوء مهما كانت الضغوط التي يتعرضون لها، بالإضافة إلى القدرة على تلخيص المشكلات وحلها. وأوضح كيم إيورنز، مدير التعلم والتطوير في الشركة: "كان موظفونا يفعلون كل ما نريد في الأساس، ولكن كانت هناك حلقة مفقودة في تفاعلاتنا مع العملاء. إذ لم يكن هناك ما يكفي من التواصل البشري، لذا وجهنا تركيز تدريباتنا على إبداء التعاطف باعتباره أحد أهم أولوياتنا".
ولمساعدة موظفيها الجدد على تطوير هذه المهارات الشخصية الأساسية وضمان تجربة عملاء إيجابية باستمرار، بدأت شركة "آتش آند آر بلوك" استخدام محاكاة الواقع الافتراضي في عملية إعداد الموظفين الجدد، حيث يستخدم الموظفون إما جهاز كمبيوتر محمول أو نظارة الواقع الافتراضي للتمرن على محادثة صعبة مع عملاء جرى تجسيدهم بشخصيات رمزية رقمية، وهو ما منحهم الفرصة للتمرن على هذه المحادثات وتلقي ردود الفعل في الوقت الحقيقي (دون المخاطرة بتدمير العلاقة مع عميل حقيقي).
وقد وجدت الشركة بعد تنفيذ التدريب عبر الواقع الافتراضي أن 70% من ممثلي خدمة العملاء لديهم يفضلون برنامج الواقع الافتراضي الجديد على أدوات التعلم التقليدية، وأن هؤلاء الممثلين أفادوا دائماً بأن محاكاة الواقع الافتراضي ساعدتهم على تحسين مهاراتهم في التعامل مع المحادثات الصعبة. كما شهدت الشركة انخفاضاً بنسبة 50% في عدد العملاء غير الراضين، وانخفاضاً بنسبة 9.9% في أوقات التعامل مع العملاء، وحل المشكلات بصورة أسرع بين الممثلين الذين أكملوا البرنامج.
2. محاكاة الواقع الافتراضي لتطوير مهارات العرض التقديمي
قد يكون الواقع الافتراضي أيضاً أداة فاعلة لتحسين مهارات إلقاء العروض التقديمية. خذ على سبيل المثال شركة "كوغنيزنت" (Cognizant) متعددة الجنسيات والمتخصصة في التقنيات التكنولوجية والخدمات الاحترافية، حيث تحاول الشركة الاستفادة من محاكاة الواقع الافتراضي في تدريب الموظفين الجدد على عرض قيمتهم المقترحة بشكل أكثر وضوحاً عند مخاطبة العملاء المحتملين. فيجري تكليف هؤلاء الموظفين الجدد بالاستفادة من مختلف أنواع البيانات لشرح منتج معقد ورواية قصة مقنعة، وإلا خاطروا بفقدان عملاء مهمين.
طورت شركة "كوغنيزنت" برنامجاً تدريبياً متعدد المراحل يقوم على الواقع الافتراضي، وذلك لمساعدة هؤلاء الموظفين على صقل مهاراتهم في إلقاء العروض التقديمية. ويكمل الموظفون الجدد في البداية دورة رقمية تفاعلية حول أسلوب رواية قصص مستندة إلى البيانات، ثم يتدربون على إلقاء عرض تقديمي أمام عميل افتراضي من خلال استخدام تقنية الشخصيات الرمزية المعززة بالواقع الافتراضي لتجسيد دور العميل. وأخيراً، يقوم محرك الذكاء الاصطناعي المبني على تقنية "جوجل لمعالجة اللغة الطبيعية" (Google NLP) و"واجهة برمجة التطبيقات للنقاط المتوازية" (Parallel Dots API) بتحليل العرض التقديمي من حيث الكلمات الرئيسية والمشاعر والنبرة ولغة الجسد المستخدمة، ويحوّل هذا التحليل إلى تقييم عملي يقدمه للمستخدم.
ويوضح كشيتيج نيروركار، رئيس الأكاديمية التعليمية التابعة لشركة "كوغنيزنت" في أميركا الشمالية: "يعد التمرن على إلقاء العروض التقديمية أمام العملاء مجرد تطبيق واحد من بين الكثير من تطبيقات المهارات الشخصية للواقع الافتراضي، وهو ما يمكّن الموظفين الجدد من التمرن على إلقاء العروض التقديمية دون الحاجة إلى الحضور بأنفسهم إلى الفصول الدراسية، ثم تلقي تقييمات فورية لتحسين مهاراتهم في التواصل ورواية القصص المستندة إلى البيانات". تعد هذه القدرة في الحصول على تقييمات فورية وجولات غير محدودة من الممارسة الافتراضية (دون الاعتماد على موارد التدريب البشرية باهظة الثمن) ميزة أساسية لأدوات التعلم القائمة على الواقع الافتراضي.
3. محاكاة الواقع الافتراضي لتقييم الموظف
وأخيراً، يمكن أن يسهم الواقع الافتراضي في مساعدة المدراء على تقييم مستويات المهارات الحالية للموظفين مقارنة بمختلف الكفاءات الرئيسية، ما يمكّنهم من تخصيص موارد التدريب بشكل أكثر فاعلية ومطابقة الملفات التعريفية للمهارات بالاختصاصات الوظيفية. فقد أراد كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة "آتش بي إي للخدمات المالية" (HPEFS)، على سبيل المثال، إيجاد طريقة لتحسين التدريبات المقدمة لمندوبي المبيعات، قبل أن يضطر مندوبو المبيعات إلى الوقوف أمام عملائهم المهمين ورفيعي المستوى. فقرروا تجربة حلول الواقع الافتراضي مع 340 مندوب مبيعات، حيث أجرى كلٌ منهم تمريناً بتقمص الأدوار لمدة 30 دقيقة من خلال التعامل مع شخصيات رمزية "أفاتار" مصممة لمحاكاة عميل من مستوى مسؤولي الإدارة التنفيذية العليا. تم تسجيل هذه التمارين ومشاركتها مع مدراء هؤلاء المندوبين الذين استخدموها لتحديد ما إذا كان الموظف بحاجة إلى مزيد من التدريب على المستوى الأساسي أو المتوسط أو المتقدم.
وأوضحت روندا بومان، مسؤولة التعلم والتطوير العالمي بشركة "آتش بي إي للخدمات المالية": "كانت تدريبات المبيعات بتقنية الواقع الافتراضي مفيدة للغاية، حيث مكّنت مندوبينا من معايشة سيناريو يحاكي الواقع والتعرف على كيفية تفاعل العميل مع أساليب المبيعات المختلفة. فإذا لم يطرح مندوب المبيعات، على سبيل المثال، أسئلة استقصائية كافية على الشخصية الرمزية للعميل "أفاتار"، فستتوقف هذه الشخصية عن التعامل مع مندوب المبيعات وتبدأ في الرد على رسائل البريد الإلكتروني على هاتفها تماماً كما يفعل الإنسان العادي. ويمكن للمدراء بعد ذلك مراجعة المحادثات التي جرت خلال التمرين والعمل مع كل موظف على حدة للوقوف على نقاط الضعف وسبل تحسينها، بدلاً من الانتظار لسماع تقييمات سلبية من العملاء الحقيقيين غير الراضين". لم يوفر برنامج الواقع الافتراضي لموظفي شركة "آتش بي إي للخدمات المالية" تدريباً مُحسناً فحسب، بل وقدم أيضاً للمدراء وفرق الموارد البشرية رؤية محسنة لمهارات مندوبي المبيعات الحالية وفرص النمو الممكنة.
اقرأ أيضاً: أفضل أنواع الشركات
وما هذا إلا غيض من فيض، فقد أشار الاستقصاء الذي أجريناه إلى إمكانية استخدام الواقع الافتراضي بالكثير من الطرق لتضييق فجوة المهارات الشخصية. ونظراً لشيوع العمل عن بُعد في الفترات الأخيرة، فمن المتوقع أن يصبح الواقع الافتراضي منصة مفضلة للكثير من برامج التدريب على المهارات الشخصية، بداية من تطوير القدرات القيادية في المناصب العليا وصولاً إلى إعداد الموظفين الجدد. وقد أشرت في حقيقة الأمر أنا وزميلي روبرت براون في مقالتي الأخيرة بمجلة "هارفارد بزنس ريفيو"، والتي جاءت تحت عنوان "21 وظيفة مستقبلية في مجال الموارد البشرية" (21 HR Jobs of the Future)، إلى إمكانية استحداث منصب جديد تماماً للموارد البشرية يتم تخصيصه للواقع الافتراضي، وهو: استشاري الانخراط في الواقع الافتراضي، بحيث يركز هذا المنصب على إنشاء الواقع الافتراضي للتطوير المهني وتطوير المهارات الشخصية للموظفين وتسهيله وتخصيصه وتعميمه على أوسع نطاق. وهكذا، يستعد التعليم القائم على الواقع الافتراضي لمساعدة جيل المستقبل من العاملين على تنمية المهارات الشخصية الأساسية التي سيحتاجون إليها ليكونوا ذوي قيمة في أي مؤسسة تقبل بتوظيفهم.
اقرأ أيضاً: نقاط الضعف في المشروع.