لست بحاجة إلى الكاريزما لتكون قائداً مُلهِماً للآخرين

5 دقيقة
كاريزما القائد الملهم

يتمنى كل قائد تقريباً لو أنه يمتلك كاريزما القائد الملهم، أو كانت لديه القدرة على إلهام الناس للتغيير. ويعود السبب في ذلك إلى أن كل قائد قائد قد مر في السابق بتجارب ماضية حدد فيها أمراً معيناً يحتاج إلى تغيير، ووضع استراتيجية عظيمة لإحداث ذلك التغيير، لكنه كابد معاناة كبيرة في دفع الناس إلى التحرك في الاتجاه الجديد.

كاريزما القائد الملهم

لكن المشكلة تكمن في أن معظم القادة يؤمنون بأنه من أجل أن يتمكّنوا من إلهام الأشخاص الآخرين، يجب عليهم إظهار كاريزما لا مثيل لها كتلك التي كان يتمتع بها ستيف جوبز أو مارتن لوثر كينغ أو جون كينيدي. وهذه الأمثلة عن أشخاص مُلهِمين لا تبدو مفيدة أو قابلة للتقليد بالنسبة للقادة الذين لا يحاولون صنع أول جهاز آيفون، أو إنهاء نظام الفصل العنصري، أو إرسال رائد فضاء إلى سطح القمر. ولكن ماذا لو كنت لا تحاول أكثر من تغيير الطريقة التي يتعامل بها موظفوك مع القروض، أو الأسلوب الذي يديرون به سلسلة التوريد والمشتريات، أو الطريقة التي يتفاعلون بها مع الزبائن؟

هناك طريقة أبسط لإلهام الناس للتغيير. في السنوات القليلة الماضية، حاول مجموعة من علماء الاجتماع بقيادة تود ثراش دراسة ظاهرة الإلهام وفك طلاسمها. فإذا ما نظرنا إلى جوهر الإلهام، فإنه الشيء الذي يحصل عندما يشعر شخص ما بأن لديه الحافز والدافع لبعث الحياة في فكرة جديدة بعد أن يدرك بطريقة عفوية وجود احتمالات جديدة. ولا شك في أن طرح الرؤى الجريئة والعظيمة وإلقاء الخطابات الكاريزماتية هي إحدى الطرق التي تحفّز هذا الشعور. ولكن قبل بضع سنوات، كنّا قد عثرنا على طريقة أخرى.

ففي سلسلة من التجارب الميدانية، اقترحنا أنا وزملائي في شركة "ديسيجين بالس" على مجموعة من المدراء يعملون لدى 4 شركات مختلفة، أن يقدموا لنا التغييرات التي قرروا إحداثها استجابة لمبادرة أوسع تهدف إلى التغيير، واشترطنا عليهم عدم ذكر أسمائهم على الاستمارات. ثم طلبنا من المدراء في كل مجموعة مراجعة قائمة القرارات التي اتخذها زملاؤهم والتصويت على القرار الذي ترك أكبر أثر على شركاتهم. وبعد تجربتنا اكتشفنا وجود قاسم مشترك واضح بين القرارات الفائزة. وندعوكم هنا لتروا إذا كان بوسعكم تحديد الفائز في هذه المجموعة من الخيارات التي قدّمها مدراء يعملون في شركة للتأمين الصحي.

القرار (أ): "تعاملت مع قضية تخص العلاقة التي تجمع بين أحد الموظفين والزبائن من خلال الإشراف المباشر واتباع منهجية إدارة الأداء عوضاً عن ترك هذا المدير المسؤول عن العلاقات مع الزبائن يتجاهل القضية".

القرار (ب): "قللت من عدد القيود الأمنية التي كانت موجودة على الصفحة المخصصة للتواصل مع الزبائن على الإنترنت، لأن وجود تلك القيود كان سيبطئ الصفحة ويعوق دخول الزبائن إليها".

القرار (ج): "اخترت تسويق الشركة بوصفها الشركة الرائدة في مجال الرعاية الصحية، ليس فقط بالنسبة للأعضاء الحاليين، وإنما للجميع".

كل هذه القرارات الثلاثة تعتبر أمثلة عن قرارات إدارية سليمة وهي تعكس تفكيراً منطقياً. لكن القرار (ب) حظي بأكبر عدد من الأصوات من المدراء الآخرين وبأغلبية ساحقة. في الواقع، لم يصوت أي من الزملاء الذين بلغ عددهم 19 مديراً في هذه التجربة لصالح القرار (أ) أو القرار (ج). فما الذي أضفى هذه الخصوصية والتميّز على القرار (ب)؟

القرار (ب) كان يحتوي على ما أسمّيه أنا "القطعة المفقودة من اللوحة". من أجل فهم العالم من حولنا، تتعامل أدمغتنا مع كل وضع نجد أنفسنا فيه بوصفه لوحة مجزأة إلى قطع صغيرة تحتاج إلى إعادة تجميعها على شكل لوحة كاملة. وعندما نجمّع اللوحة الخاصة بـ "طريقة عمل جهاز الميكروويف" أو "ما الذي يفعله مهندس المعلوماتية"، فإن أدمغتنا تخزن تلك اللوحات المجمّعة في ذاكرتنا البعيدة المدى. لكن هذه اللوحات تكون هشّة. وعندما يحصل شيء غير متوقع، كأن يقوم الميكروويف فجأة بتبريد الطعام عوضاً عن تسخينه، أو عندما يقوم مهندس المعلوماتية وعن عمد بإزالة طبقات تشكّل حماية للبيانات لمجرد تحسين تجربة الزبائن مع الشركة، فإن دماغنا يشعر بأن هناك شيئاً ما ليس على ما يرام. وبالتالي فإن لوحة الميكروويف تلك أو لوحة مهندس المعلوماتية تصبح فجأة لوحة ناقصة تفتقر إلى إحدى قطعها الأساسية.

لكن ما يحصل بعد ذلك هو الجزء الملفت للانتباه، حيث إن هناك منطقة من دماغنا تدعى "القشرة الحزامية الأمامية" تبلغنا بالخطأ. ومن غير المفاجئ أن يصيبنا هذا الخطأ بحالة من عدم الارتياح. وحتى تحمينا أدمغتنا من ذلك الشعور المقيت الملازم لنا بأن جزءاً من عالمنا لم يعد منطقياً، فقد طوّرت آلية دفاعية غريزية. فعوضاً عن محاولة استبدال القطعة المفقودة في اللوحة، فإن أدمغتنا تعوّض من خلال إعادة تجميع لوحات جديدة غير مترابطة.

وكان الباحثان ترافيس برولكس وستيفين هايني قد أظهرا مراراً وتكراراً بأن أي خلل مهما كان صغيراً يمكن أن يصيب لوحة غير مهمة نسبياً في دماغنا مثل "كيف يعمل الميكروويف"، يمكن أن يحفز القدرة لدى دماغنا لاكتشاف أنماط جديدة ورؤية احتمالات جديدة في مناطق أخرى. فعلى سبيل المثال، عندما يقوم جهاز الميكروويف لديك وبشكل غير متوقع بتجميد الطعام عوضاً عن تسخينه، فإن ذلك قد يكون مصدر إلهام بالنسبة لك ويلهمك فكرة حول زواجك أو وظيفتك أو حتى آرائك السياسية.

لقد اكتشف برولكس وهايني بأن الجزء المفقود من اللوحة لا يجعلنا "متحفّزين" لرؤية احتمالات جديدة فحسب، وإنما يجعلنا أكثر "مهارة" في رؤية الارتباطات والاحتمالات الجديدة. (ولعل هذا ما يفسر بأن فترات الإبداع المكثّف تحصل غالباً خلال أكثر الأوقات صعوبة في حياة الفنان).

التأثير في آراء الآخرين

وهذه بالضبط هي الظاهرة التي لمسناها في دراساتنا الميدانية. فقبيل الجولة الأولى من تصويت المدراء على قرارات نظرائهم، قال العديد منهم أشياء من قبيل: "لا أرى فعلياً أي شيء يمكنني تغييره. فأنا أعمل في قسم المحاسبة فقط". أو "أنا أعمل في الميدان، والتغييرات الحاصلة تخصّ عمل الشركة من الداخل أكثر". بعبارة أخرى "أنا سأستمر في فعل ما اعتدت على فعله من قبل".

ولكن بعد رؤية مهندس المعلوماتية يقلل من أمن البيانات أو اكتشاف أن مدير أحد المعامل قد خفّض من أولوية إدخال التحسينات على إنتاجية المعمل فقط ليزيد من كفاءة سلسلة التوريد، فإن المدراء الآخرين في المجموعة أدركوا فجأة وجود إمكانيات جديدة للتغيير في المجالات التي يعملون فيها هم شخصياً.

وفي الجولتين التاليتين من التجارب، بدأ جميع المدراء الآخرين تقريباً وفي كل مجموعة باتخاذ قرارات مشروعة ومُبدعة. فقد بدؤوا يرون إمكانيات جديدة وأخذوا يتصرّفون بناءً عليها. ببساطة، هم شعروا بالإلهام كي يتغيّروا.

لكن ذلك الإلهام لم يأتِ من أهداف كبيرة وضخمة وجريئة، أو من رؤى سامية بخصوص المستقبل، أو من خطابات كاريزماتية، أو من تجليات للعبقرية الفطرية أو الشغف لدى قادتهم. بل كل ما كان مطلوباً هو إدراك قرار غير متوقع من شخص آخر للتراجع عن عادة قديمة من أجل فعل شيء جديد. وهذا شيء يمكن لكل مدير في كل وضع من الأوضاع فعله.

فعلى سبيل المثال، لجأ مدير إحدى المدارس في بلدة في ولاية تكساس إلى اتخاذ قرار بإلغاء ممارسة لعبة كرة القدم لمدة عام واحد من أجل حث سكان البلدة على التفكير بطريقة خلاقة لإنقاذ مدرسة البلدة. كما أن قرار إزالة شطائر الإفطار مؤقتاً من متاجر "ستاربكس" هو الطريقة التي استعملها هوارد شولتز لإلهام الموظفين ليعاودوا التركيز على القهوة. وكان اتخاذ قرار عام 1996 بقتل جهاز "نيوتن" الذي كان واحداً من أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا من أجهزة حاسوبية صغيرة هو الطريقة التي جعلت ستيف جوبز يلهم المهندسين في شركة "آبل" لبدء التفكير بطريقة مختلفة قادتهم إلى رحلة في مجال تطوير المنتجات تعتبر من أكثر الرحلات إبداعاً في تاريخ الإنسان.

كل ما سبق يعني بأن الأشخاص الذين يسهمون في حصول التغيير لا يجب أن يكونوا بالضرورة عباقرة أو يتمتعون بكاريزما كبيرة من أجل أن يكونوا مُلهمين لإحداث التغيير. إذا كنت قادراً على اتخاذ قرار، فأنت قادر على إلهام الناس للتغيير، ولا ينحصر هذا بامتلاكك كاريزما القائد الملهم.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي