“الذكاء العاطفي” ودوره في رفع التحفيز والإنجاز

5 دقائق
أهمية الذكاء الاصطناعي

خلق مفهوم الذكاء العاطفي الذي وضعه عالما النفس جون ماير وبيتر سالوفي منذ تسعينيات القرن الماضي نوعاً من الموضة الفكرية تبنتها وسائل الإعلام والجامعات ومكاتب الخبرة، والتي تم بموجبها إرجاع النجاح في الحياة والعمل والعديد من الإنجازات الممكنة أو المرغوب فيها إلى هذا النوع من "النضج الانفعالي" المفترض. غير أنّ "الذكاء العاطفي" يبقى أمراً دقيقاً لا يؤدي حتماً إلى النجاح، ولكنه يملك دوراً في مساعدة أي شخص في حياته العادية على توسيع فهمه لعواطفه وأحاسيسه، وقراءة أحاسيس الآخرين، وبناء علاقات أكثر توازناً، والتنبؤ بسلوكيات معينة. فما أهمية الذكاء العاطفي؟

أهمية الذكاء العاطفي لدى رواد الأعمال

على مستوى ريادة الأعمال، فإنّ ذكاء رائد الأعمال العاطفي يجعله يفهم سلوكياته الانفعالية أكثر، ويحاول التحكم فيها وتوجيهها نحو علاقات أكثر إيجابية ومبنية على دعم الأفراد المتعاونين؛ كما أنّ قدرته على قراءة أحاسيس الآخرين تمكنه من التأثير فيها وصقلها وتوجيهها. هذه الكفاءات (إن لم نقل الملكات) قد تكون موجودة بشكل شبه طبيعي لدى رائد الأعمال (حسب تجربته وتكوينه وشخصيته)، ولكنها أيضاً قابلة للاكتساب خصوصاً إذا عمل رائد الأعمال على فهم نفسه فهماً دقيقاً وحاول تغيير وتكييف وتنمية أحاسيسه وأحاسيس الآخرين.

إنّ الهدف من اكتساب وتنمية الذكاء العاطفي ليس "تطهير" مكان العمل من مظاهر الغضب والإحباط والتذمر (لدى رواد الأعمال والعاملين على حد سواء)، بل يتمثل الهدف في تطوير القدرة على فهم متى تحصل هذه الأحاسيس لدى الأشخاص، والقدرة على قراءتها على وجوه الآخرين وفي تصرفاتهم؛ إنّ اكتساب الذكاء العاطفي يساعد رائد الأعمال على تأسيس علاقات في العمل أكثر إيجابية، وخلق ظروف عمل أفضل.

لا يتفق علماء النفس على مفهوم الذكاء العاطفي ولا على علاقته بالسعادة أو الإنجاز. تقول سوزان كراوس ويتبورن، أستاذة  علوم النفس والدماغ بجامعة ماساتشوسيتس بأمهيرست في الولايات المتحدة الأميركية: "حتى من يقرون بوجود علاقة بين الذكاء العاطفي والإنجاز في الحياة والعمل، أمثال عالم النفس البريطاني غراهام جونز، لا يكتفون فقط بعامل الذكاء، بل يربطون وجود المهارات الذهنية بمدى القدرة على استعمالها. لهذا يتكلم علماء مثل عالم النفس والأستاذ بجامعة ييل، روبيرت ستيرنبيرغ، عن الذكاء الناجح". والذكاء الناجح هو مفهوم يصف كيف نستعمل ذكاءنا للتعامل مع القضايا الحياتية اليومية والطارئة بشكل يحقق لنا وللآخرين نوعاً من الإحساس بأنّ أموراً إيجابية تتحقق في حياتنا وفي محيطنا الاجتماعي.

تعريف الذكاء العاطفي

يمكن تعريف "الذكاء العاطفي" بأنه القدرة على استعمال القدرات الذهنية لقراءة أحاسيسنا وقراءة أحاسيس الآخرين. وقراءة أحاسيسنا لا تعني أن تشعر بأنك غاضب أو مصدوم أو حزين أو محبط أو خائب الأمل فقط؛ بل تشمل هذه القراءة كذلك القدرة على تدبير هذا الإحساس والتحكم فيه، وامتلاك الوسائل لتجاوزه أو توجيهه أو التعايش معه لفترة معينة. وتعني قراءة أحاسيس الآخرين فهم ما يحس به هؤلاء والتعامل معهم بطريقة تجعل التواصل والتفاعل الإيجابي معهم أمراً ممكناً.

يذهب جون ماير، أستاذ بجامعة نيو هامبشير، ومؤسس نظرية "الذكاء العاطفي" رفقة بيتر سالوفي (رئيس جامعة ييل حالياً) إلى حد اعتبار الذكاء العاطفي لا يقتصر على القراءة والتدبير، بل يتجاوز ذلك إلى حد أنّ الأذكياء عاطفياً "يستعملون فترات عاطفية لصقل وتطوير نوع معين من التفكير". هكذا هم يحبذون التحليل المتأني حين تصيبهم نوبة من الحزن (بحسب ماير)، أو يقومون بالتمرين الرياضي حين يكونون متوترين. ويضيف ماير أنّ هؤلاء "يفهمون المعاني التي تعبّر عن أحاسيس معينة" عند الآخرين. فهم يدركون أنّ الغضب يترتب عنه أمور غير محمودة والسعادة تعني "الرغبة في الانضمام للآخرين".

إنّ ما نسميه بالكفايات الحياتية مثل القدرة على الصمود في وجه الصدمات، وضبط النفس وانفعالاتها، والقدرة على فض النزاعات بطرق سلمية، والتواصل الناجع، واحترام الرأي المخالف، كل هذه الأمور لها علاقة وطيدة بالذكاء العاطفي. تستعمل ريبيكا دافيس، مؤسسة منظمة مايندليبس الرقص لتطوير الكفايات الذهنية والعاطفية لدى أطفال الشوارع والشباب الذين تأثروا نفسياً بصدمات كبرى مثل الإبادة في رواندا والبوسنة والهرسك. لقد طورت دايفيس والعاملون بمنظمتها مجموعة برامج دقيقة تعتمد على ترجمة كفايات معينة إلى حركات مدروسة بعناية فائقة تجعل "المتعلم" يتعلم الصبر وتدبير المعاناة وفهم إحساسه وكيفية التعامل مع أحاسيس الآخرين. إنّ هذه القدرات الحياتية هي نوع من النضج الانفعالي، أي عبارة عن ذكاء عاطفي مكتسب يعطي طفل الشارع أو الشاب المهمش والمنغمس في مظاهر العنف والمخدرات، القدرة على مواجهة الحياة (أو ما سماه دانيال كولمان بالتركيز) بدل الهروب نحو أعمال منافية للقانون أو للأعراف المجتمعية.

اقرأ أيضاً: للذكاء العاطفي اثنا عشر عنصراً... أيهم تحتاج لتطويره؟

ما علاقة "الذكاء العاطفي" بالريادة بشكل عام وريادة الأعمال بشكل خاص؟ الريادة في الحقيقة هي القدرة على التعبير عما يختلج النفس وإيصاله للآخرين بطريقة تنال إعجابهم وتؤثر فيهم للقيام بعمل ما. والتعبير هذا لا يتأتى دون فهم للذات، وأحاسيسها، وردود فعلها، ومؤثراتها. والريادة تقتضي القدرة على فهم جيد ودقيق للأنواع الشخصية لدى المتعاونين (كما بينت ذلك في مقال حول الأنماط السيكولوجية) وما يحفزهم والقدرة على قراءة ردود أفعالهم لحثهم على الانخراط والإنجاز.

تستشهد ويثبورن بأعمال فلافيا كافازوتي وفالتير مورينو وماتيوس هيكمان (وكلهم أساتذة باحثون في ميادين إدارة الأعمال والعلوم الكمية بجامعات ومراكز البحث في ريو دي جانيرو) وتقول: "إنّ رواد ما يسميه هؤلاء الباحثون بالقيادة التحويلية يتميزون بامتلاكهم للكاريزما، والقدرة على تطوير الإبداع والتجديد، وخلق محيط يحس فيه العمال أنهم يتلقون الدعم والمساعدة، وهؤلاء القادة لهم القدرة على تسطير أهداف طموحة يصبو إلى تحقيقها العاملون معهم". ويُعتبر هذا التحول شاملاً لأن الإنجاز يعطي الإحساس للكل بأنه دخل مرحلة جديدة على المستوى النفسي والعملي.

أهمية الذكاء العاطفي لدى القادة

إنّ القائد المحنك هو الذي يطور ذكاءه العاطفي ويستعمله لتحفيز العاملين ويحثهم على الإبداع والإنجاز. والمؤسسات الأكثر إنجازاً هي التي يعتبر فيها كل عامل نفسه قائداً. إنّ مفهوم "القيادة الموسعة" (وهو مفهوم أشرت إليه في مقالي السابق حول المؤسسات المتعلمة) يعني أنّ الذكاء العاطفي مطلوب على كل المستويات وعلى القائد ألا يحاول فهم طبيعة نفسية المتعاونين فقط، بل وينمي لديهم القدرة على فهم أحاسيسهم هم أنفسهم وتدبيرها التدبير الجيد، وقراءة أحاسيس الآخرين قراءة حسنة.

إنّ الدراسة التي قام بها كل من شي (سام) وونغ وكينيث لاو من جامعة هونغ كونغ الصينية (والتي أشارت إليها ويثبورن بتفصيل في مقالها) مكنتهما من وضع سلم لقياس الذكاء العاطفي يمكن تلخيصه فيما يلي: مدى القدرة على فهم لماذا نحس بما نحس به، ومعنى هذا الإحساس، ومتى نكون سعداء؛ والقدرة على ملاحظة ومعرفة وفهم أحاسيس الآخرين انطلاقاً من سلوكهم والتعامل الجيد معهم؛ ومدى التحكم في الأحاسيس الذاتية والقدرة على تطويرها وجعلها أكثر إيجابية ووضع أهداف لصقلها وتوجيهها وربطها بالإنجاز. لقد خلصت الدراسة إلى أنّ من يحصلون على أعلى نقطة في الاختبار هم العاملون الراضون على عملهم، وهم ليسوا فقط أذكياء من الناحية العاطفية، إلا أنهم يحتلون مراكز مهمة ويقومون بمهام تقتضي التوفر على مهارات "الذكاء العاطفي" (كما أشارت إلى ذلك ويثبورن). لا يقتصر الأمر فقط على توفر قدرات الذكاء العاطفي، ولكن يقتضي الأمر القيام بأعمال تشجع على استعمال هذا الذكاء. القادة الأذكياء (عاطفياً) هم الذين يستعملون كفاياتهم لكسب رضا المتعاونين معهم ولتشجيعهم على استعمال ذكائهم لخلق بيئة مناسبة للعمل والإنجاز.

أما عربياً، فقد انصب الاهتمام بالذكاء العاطفي في الدول العربية على علاقته بقضية إدارة المواهب (كما نرى ذلك في عمل محمود عبد الفتاح رضوان الخبير الدولى في التدريب والتنمية الإدارية وعضو جمعية التدريب والتنمية بمصر) أو قضية نمو المراهقين آو ما سماه عماد عبيد حسين المرشدي٬ أستاذ علم النفس التربوي بكلية التربية الاساسية بجامعة بابل بالعراق٬ "الذكاء الوجداني". لم يتطور بعد الاهتمام في العالم العربي بقضية "الذكاء العاطفي" كوسيلة لكسب رضا المتعاونين وتطوير الكفايات القيادية وتحفيز الكل على الإنجاز داخل المؤسسة. وهذا يتطلب من الجامعات ومراكز البحث في الدول العربية ورواد الأعمال القيام بدراسات لفهم مدى الحاجة لتطوير هذه القدرات وما هي العوامل السوسيولوحية والنفسية والثقافية المؤثرة إيجاباً وسلباً على تنميتها. كما يتطلب وضع رزنامة من النصائح والتكوينات وعمليات التدريب المركزة لتوجيه القادة ورواد الأعمال للعمل بها.

اقرأ أيضاً: عزز ذكاءك العاطفي من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة

الذكاء العاطفي ليس وصفة سحرية للنجاح والتفوق ولا وسيلة لخلق ريادة الأعمال المثالية أو المجتمع الفاضل. إنها مجموعة من السلوكيات المحمودة المبنية على فهم الذات، وشعورها، وأحاسيسها، وردودها وما يؤثر فيها، وتملك هذه السلوكيات القدرة على الفعل، والتحكم في الذات، وتوجيهها التوجيه الحسن. كما تعني أيضاً القدرة على قراءة أحاسيس المتعاونين، وفهمها، والتعامل معها من أجل تحفيز الأفراد على العمل، وكسب رضا الأشخاص الآخرين، وخلق الجودة للحياة في العمل ما يرفع من الإنتاج والإبداع وروح المبادرة، وهي كلها أمور مهمة لإدارة الأعمال في الوقت الحاضر وفي المستقبل القريب.

في عالم سمته البارزة هي المنافسة، يتوجب على رائد الأعمال أن ينمي ويستعمل ذكاءه العاطفي من أجل تأهيل موارده البشرية لكي تصبح مؤهلة لكسب هذا الرهان، والذكاء العاطفي وسيلة من وسائل بناء المؤسسة القوية والمتنافسة في زمن العولمة والثورة التكنولوجية العارمة.

اقرأ أيضاً: 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي