لماذا يجب أن ندوُن التحولات الكبرى؟ أمثلة من السعودية

3 دقائق
التدوين

تعتبر المعارف الإنسانية المتوارثة منتجاً وصلنا بفضل تدوين من سبقنا لتجاربهم ومواقفهم ومعارفهم وتطورات أبحاثهم ودراساتهم. وبحجم جودة ما دوُن سابقاً، نحصل على إمكانية بناء معرفي مميز في الحاضر، ومنه وبه نمتلك القدرة على التنبؤ للقادم من الأيام والأحداث. والتدوين هنا يقصد به الكتابة التأريخية للأحداث والتدوين للوقائع بطابع إنساني ومقبول لدى الرأي العام. فأنسنة ما يتم تدوينه يرفع قابليته وبالتالي تأثيره الجمعي، والتدوين المؤنسن يعني الوصل بين الحدث والمكان والإنسان برباط السرديات والحكايات.

يعد التدوين أداة فعّالة لنتعامل مع الحاضر والخيط الوثيق الذي يربطنا بالمستقبل، فالأمم تحفظ ذاكرتها من خلال التفّكر في تاريخها، وهذا التاريخ لا يُصنع خارج عمليات التدوين المختلفة، بل يربط الأشياء ويعكس قصة التغيير عبر الزمن ويبيّن لنا أنه رغم اختلاف الظروف لا زال البشر يسعون إلى الأمن والقوة والسعادة والثروة.

التدوين هو تسجيل حياة الناس والخطوة الأولى الضرورية في التاريخ المكتوب لأي ثقافة أو حضارة، لذا تدوين رحلة أي حضارة أو دولة يساعد على التفكير في نقاط قوتها وضعفها وتوظيف جهودها ومواردها في الاتجاه الصحيح نحو مستقبل أفضل.

وعند التفكير في رؤية المملكة 2030، تبرز أهمية تدوين التحوّلات الكبرى التي مرت بها السعودية والتغييرات التي تعمل عليها للسنوات المقبلة، كي لا تتحول مع الزمن إلى حكاية تتناقلها الأجيال فحسب؛ وإنما رحلة تحمل معها الكثير من الدروس والعِبر التي يمكن الاستفادة منها.

ويمكن الإضاءة على ضرورة التدوين وأثره في حماية سرديات الأوطان والمنظمات الكبرى، وحكايا التنمية من خلال ثلاث نقاط:

أولاً: إن معرفتنا بالماضي تعود إلى ما كتبه أهله عنه، أو ما كُتب عنه من غير أهله. في الحالة الأولى من يدوُن يقود المعلومة ويقارب الموضوعية أكثر؛ أما في الحالة الثانية فتُصاغ المعلومة لأجندة معينة ليس بالضرورة من بينها ما يدعم القضية المدوَن عنها، وهو ما يسمى بالانحياز السردي؛ أي تفسير الحدث وفق معلومات لا ترتبط به أو تدعمه.

ويوجد العديد من الأمثلة السعودية على الحالة الأولى، أبرزها:

  • دارة الملك عبدالعزيز وحراسة ذاكرة الوطن

تقوم الدارة بجهود لخدمة تاريخ السعودية وجغرافيتها وآدابها الفكرية والعمرانية خاصة، والجزيرة العربية وبلاد العرب والإسلام عامة، ولجمع المصادر التاريخية المتعددة من وثائق وغيرها مما له علاقة بالمملكة العربية السعودية وتصنيفها.

مثل هذا الجهد العلمي، يجعلك في مكان آمن في التاريخ، فمن يمتلك المبادرة للتدوين والمصداقية في التأريخ والمهنية في العمل، يجعل ذاكرة ما يعمل له صلبة ومحكمة.

  • أرامكو السعودية تحمي ذاكرتها بمدونات مميزة

في عامها التسعون، تقدم أرامكو سردية تاريخية تمتد من لحظة توقيع اتفاق امتياز النفط عام 1933، وصولاً إلى عام 2022، وبأسلوب بصري شيق وتحريري مقتضب؛ يمكن لمتصفح هذا المسرد الفني التاريخي أن يأخذ تصوراً عاماً دقيقاً سريعاً تاريخياً، ومن المصدر الأكثر اطلاعاً على الأحداث والوقائع، وهو الشركة نفسها.

مثل هذا التدوين، يجعل من معرفتك، مصدراً لمن يريد أن ينطلق للحديث عنك، فالتاريخ إما ترويه أو يُروى عنك؛ في الخيار الأول أنت من يدير المعلومة، وفي الثاني أنت من يتلقاها.

  • قصة البحرية الملكية السعودية: في سرديات الأوطان، كل الحكايات مهمة

في بادرة ومبادرة حضارية مهنية، تقدم البحرية الملكية السعودية قصتها المليئة بالطموحات والعزم من خلال كتاب يحفظ حكايتها للأجيال الحالية والمقبلة، ويستعرض الكتاب القفزات الحضارية الكبيرة للقوات البحرية منذ بدايتها في مدرسة صغيرة في مدينة الدمام إلى حاضرها اليوم، وأن ما تملكه من رجال وعتاد وأنظمة وقواعد في شرق المملكة وغربها، جعلها من أقوى القوات البحرية في المنطقة.

ثانياً: يتسم الأفراد بالانحياز للوضع السائد، فيُشغلهم الحديث عن التجارب أكثر من تدوينها، ما يقلل من أهمية التدوين لأجل مستقبلنا ومستقبل من بعدنا.

في قطاعي المال والأعمال، يتم التركيز على كتابة دراسة الجدوى وصياغة استراتيجيات المستقبل، لكن يجب ألَا نقلل من أهمية تدوين ما حصل ويحصل. نحن والحاضر ومدوناتنا مصدر تعبئة غير مباشرة لمن سيفكر بعدنا، شريطة أن ندوُن بشكل جيد.

ثالثاً: يقول غابرييل غارسيا ماركيز في مقدمة كتاب سيرته: "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه".

وعليه، فإن أغلب من يعتقدون أن لديهم ما يستحق أن يُروى ويحفظه التاريخ، يبدؤون الكتابة في مراحل متقدمة من حياتهم يتوقفون فيها عن الانهماك اليومي في الأعمال والمهام، ولهذا تعتبر بعض هذه السِير مجمعاً للجهود الإنسانية والتجارب الحياتية المهمة والمضيئة لمن يأتي خلفهم من ممارسي الأعمال في حياتهم.

وهذا بالضبط ما يجعل السِير عالماً معرفياً قائماً بذاته ومؤثراً في التجربة الإنسانية ككل وفي العمل والمهن بشكل خاص.

تدوين الأيام المعتادة مهم، وكتابة التجارب ضرورة، وفي كتابة الأيام والتجارب المرتبطة بالتحولات الكبرى شيء يرقى لواجب مهني وتاريخي ومعرفي، إذ يعتبر التاريخ المدوُن أكثر ضبطاً من التاريخ الشفاهي أو تناقل الأحداث بطريقة غير موضوعية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي