هل تساءلتم يوماً لماذا تتذكرون شريطاً إعلانياً خاصاً بمنتج معين دون غيره من الإعلانات؟ هل شعرتم يوماً بالراحة بمجرد انتمائكم لمجموعة اجتماعية معينة؟ هل تذكرتم يوماً خياراتكم السابقة على نحو أفضل مما هي عليه بالفعل؟ إذا كانت الإجابة نعم، فلا بد من أنكم وقعتم ضحية لانحياز سلوكي شاب تفكيركم خلال فترة معينة.
تُعرّف الانحيازات السلوكية أو المعرفية (Cognitive Biases) على أنها عيوب تشوب التفكير الإنساني خلال مواقف معينة تؤدي إلى استخلاص استنتاجات غير دقيقة، ويمكن أن تؤدي إلى اتخاذ قرارات غير سليمة لأنها توجه الدماغ البشري نحو التركيز على نحو مفرط على بعض المعلومات دون غيرها من المعلومات المتاحة.
لقد اهتم علماء النفس منذ أمد بعيد بدراسة دوافع السلوك البشري، واستفاضوا في ذلك مع تطوّر وسائل البحث العلمي والتكنولوجيا المتاحة، واستطاعوا فك بعض شفرات الدماغ البشري الذي يُعدّ أعقد جهاز في الكون، وتوصلوا لمجموعة من التفسيرات لبعض القرارات غير العقلانية التي يتخذها الإنسان، على الرغم من سعيه الدائم لتحقيق أكبر منفعة ممكنة من كل وضعية أو موقف يواجهه.
في مجال القيادة والأعمال، تعدّ الانحيازات السلوكية أرضية خصبة يجب الاستثمار فيها، إذ تمكّن من فهم القرارات اللاعقلانية التي يتخذها المدراء والمسؤولون وتجنبها مستقبلاً أو على الأقل تحسينها، وما يمكن أن ينجر عنها من عواقب كارثية مثل غرق سفينة تايتنك، والحادث النووي في تشيرنوبل، وفقدان مكوك الفضاء تشالنجر، والأزمة المالية الكبرى عام 2008؛ كما تمكّن من فهم سلوك العميل وتوقّع ردات فعله تجاه مختلف الاستراتيجيات التسويقية وتكييفها وفقاً لحاجاته وتوقعاته.
يناقش مقال "10 طرق للتقليل من الانحياز في عملية اتخاذ القرارات ضمن شركتك" التمييز الموجود في مكان العمل بمختلف مظاهره، مثل التمييز بين الجنسين أو التمييز على أساس العرق، وقد يكون الحل لمعالجة أوجه التفاوت هذه من مصدر مستبعد، ألا وهو البحث في دوافع القرارات المتحيزة بناء على كيفية عمل دماغ الإنسان. من أشهر الانحيازات السلوكية التي تؤدي بالمدراء لاتخاذ قرارات في هذا السياق "الارتساء" (Anchoring)، وهو انحياز يظهر عندما يُعتمد أساساً على معلومة واحدة أو عدد محدود جداً من المعلومات لاتخاذ القرار، و"الانحياز التأكيدي" (Confirmation Bias)، ويُقصد به تفسير البيانات أو المعلومات بطريقة تدعم المعتقدات والافتراضات والتوقعات الموجودة لدى الفرد مسبقاً.
يوجد نوع آخر من التحيزات ظهرت أكثر مع انتشار العمل عن بعد، وهو ما يناقشه مقال "5 تحيزات سلوكية تسبب تعثر المدراء العاملين عن بُعد"، إذ يتطرق لبعض التحيزات التي يجب أن يحترس القادة منها عند إدارة الفرق عن بُعد إلى جانب بعض الأساليب المثبتة علمياً لتصحيح هذه التحيزات. من أشهرها "انحياز الانتماء إلى المجموعة" (In-group Bias) الذي يصف طبع البشر الذين يشعرون براحة أكبر عندما ينتمون إلى مجموعة اجتماعية معينة، و"تأثير العربة" (Bandwagon Effect)، الذي يظهر عندما يكون الدافع الأساسي وراء القيام بعمل ما هو قيام أشخاص آخرين به.
بصفة عامة، لخّص الباحثان "دانيال كانيمان" و"ريتشارد ثالر" في مقالهم "الأخطاء الأربعة الأكثر شيوعاُ في اتخاذ القرارات" 117 نوعاً من الانحيازات التي تحدّ من جودة القرارات في 4 مجموعات رئيسية من المخاطر السلوكية كالآتي:
1- خطورة الغرور
تظهر خطورة الغرور في السلوكيات التي تفضل تلبية حاجتنا إلى الإحساس بكفاءتنا الشخصية على حساب اتخاذ القرار بنباهة. من أمثلة انحيازات هذه المجموعة: "أثر النتائج العكسية" و"أثر أيكيا" و"انحياز الثقة المفرطة"، و"تأثير الهِبة"، و"تأثير سيملفيس"، و"وهم التحكم".
2- خطورة العاطفة
تنبع خطورة العاطفة من حقيقة أن تصوراتنا للمخاطر تتأثر بحالاتنا العاطفية العابرة ونزعتنا الفردية تجاه التفكير الإيجابي أو السلبي. من أمثلة انحيازات هذه المجموعة: "انحياز التفاؤل"، و"تأثير النعامة"و"فجوة التعاطف" و"تحيز السلبية".
3- خطورة الانتباه
تتولد خطورة الانتباه من نزعتنا لتقييم المعلومات من الناحية النسبية، والسماح للأهمية بالتفوق على الاحتمال عند اتخاذ القرارات. من أمثلة هذه المجموعة: "أثر التعرض المجرد" و"التوافر الإرشادي"، و"الانحياز الانتباهي"، و"أثر التركيز"، و"تأثير التأطير".
4- خطورة الاستبقاء
تنتج خطورة الاستبقاء عن تفضيل الربح على الخسارة والوضع الراهن على التغيير بصورة غير متوازنة. من أمثلة انحيازات هذه المجموعة: "الانحياز للوضع الراهن" و"انحياز الخطورة الصفرية" و"انحياز تجنب الخسارة"، و"مغالطة التكلفة الغارقة".
يقول بيتر دراكر: "كلما رأيت شركة ناجة، تأكد بأن شخصاً ما قد اتخذ قراراً شجاعاً"، ويُضيف "اتخاذ قرارات صحيحة هو مهارة حاسمة على كل المستويات". لقد أدرك "أب الإدارة الحديثة" أهمية عملية صنع القرار والآثار المترتبة عنها سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي، فحياتنا ببساطة هي عبارة عن عدد لا نهائي من القرارات التي نتخذها يومياً وفي كل الأوقات، لذلك نجد الشركات الناجحة اليوم تولي اهتماماً بالغاً لكيفية صناعة القرار، وتوظف خبراء متخصصين لتدريب القادة والتنفيذيين على المفاضلة بين الخيارات المتاحة والتغلب على الانحيازات السلوكية المذكورة، وصقل مواهب المدراء الحدسية على مختلف الظروف الطارئة التي يمكن أن تواجه شركاتهم، كما تستعين بأحدث التكنولوجيات لتعزيز جودة القرارات، لا سيما التطبيقات المستندة للبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.