يذكر رجل الأعمال الإماراتي محمد عبد الجليل الفهيم في كتابه "من المحل إلى الغنى"، أن فترة نهاية السبعينيات من القرن العشرين حينما بدأت الوفرة النفطية، وبدأت الدولة في تعويض الناس عن بعض الأراضي التي احتاجت إلى استملاكها لضرورات العمل، كما بدأت تقدم برامج المساعدات المالية للمواطنين، عندها انتقل الناس فجأة من نموذج حياة معتمد على الصيد والتجارة البسيطة إلى توفر أموال لم يعرف كثيرون كيف يتصرفون بها، وهنا ولدت الفرص وظهرت الشركات العائلية التي استثمرت الفرص في تلك الفترة، كما ظهر من خسر الفرصة.
لقد كانت البنوك محدودة والناس يتجنبونها لاعتقادهم أن وضع الأموال في البنوك مخالف للشريعة الإسلامية، وكان بعض الناس يحملون أموالهم في صناديق فوق رؤوسهم ولا يعرفون كيف يتصرفون بها. وقد جرب بعضهم الاستثمار في مشروعات لم يكونوا على علم بإدارتها، ففشلت وخسر أصحابها أموالهم بسرعة كما اكتسبوها بسرعة. كما أن بعضهم استهلك أمواله مع الزمن عبر شراء سلع فاخرة لا يحتاج إليها ولا يستخدمها، في حين انتبه آخرون لتأسيس شركات عائلية ناجحة كالتي تسمعون عنها ولا تزال إلى اليوم تدير مشروعات عملاقة على مستوى المنطقة والعالم، وتتطور من جيل إلى جيل، مثل الفطيم والمسعود والغرير والحبتور وغيرها.
استغلال الشركات العائلية للفرص المناسبة
انظر إلى تجربة عائلة الفهيم، مثلاً، في هذا المقال الذي نشرناه في "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان "مجموعة الفهيم وتأسيس أول دستور لشركة عائلية في الإمارات"، لتتعرف على الفرق بين من يستغل الفرصة لتلك اللحظات التاريخية من التحولات الكبرى، ويدير عمليات الانتقال والتحديث بين أجيال الشركات ونماذج عملها ومنتجاتها، وبين من جاءته الفرصة، فبذّر أمواله ولم يعرف كيف يستثمر الفرصة. واقرأ هنا تجربة الغرير في مقال "عائلة الغرير تتوارث جرأة المشروع الأول"، لتتعرف على الجرأة المدروسة التي جعلت هذه العائلة تتنوع في محفظتها الاستثمارية، وتصبح السباقة في قطاعات جديدة لم تألفها المنطقة، وهو ماساعدها على الاستدامة والنجاة من الأزمات.
ولم يقتصر استثمار فرصة الوفرة والانفتاح على تأسيس الشركات العائلية الناجحة، بل كان نجاح بعض الأسر الأخرى عبر استثمار هذه الأموال في تعليم أبنائهم، حيث تجد في كتاب "من المحل إلى الغنى"، صوراً لأول دفعة طلاب إماراتيين تغادر من أبوظبي إلى إنجلترا للدراسة، وبعدها استثمر الكثيرون في أبنائهم وفي مشروعات ناجحة وفي المقابل لم يحسن آخرون استغلال الفرصة.
اللحظات المفصلية في حياتنا
هناك لحظات تحول تاريخي يسميها عالم الأنثروبولوجيا البلجيكي آرنولد جينيب "أزمنة العتبات"، تحدث هذه اللحظات التاريخية على مستوى العالم عبر مراحل بارزة، مثل اختراع السكك الحديدية والكهرباء والكمبيوتر والإنترنت والذكاء الاصطناعي، كما تحدث على مستوى الدول عندما تحصل فيها تحولات كبرى تخلق فرصاً لم تكن قائمة من قبل. وكالعادة، قد لا يشعر الكثيرون بالفرص التي توفرها هذه التحولات، لأنهم يعيشون حالة المتفرج والمتأثر أكثر من المؤثر، ولا يحرز السبق إلاّ قلة ينتبهون إلى الفرص ويستغلونها.
تحدثت في مقال آخر عن التحول الذي تمر به السعودية خلال الفترة الحالية، في مقال جديد بعنوان "استغلال الفرصة التاريخية للتميز والريادة في السعودية"، حيث تشبه هذه اللحظة التاريخية التي تحدث الآن في السعودية، ما حدث في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين عندما تبين أن النفط الذي ظهر في المملكة هو ثورة ستغير حياة الجميع، عندها بقي الكثيرون يتفرجون أو يستمتعون بالوفرة، وغرقوا في نوم عميق، في حين انتبه أشخاص، وقرروا استغلال اللحظة التاريخية، فظهرت الشركات العائلية الكبرى، مثل عبد اللطيف جميل والعليان والراشد والمهيدب والجفالي والزاهد والفوزان وغيرها ولا تزال راسخة حتى الآن.
تنطبق حالة "أزمنة العتبات" على كل فرد في كل مكان، فالفرصة قد لا تأتي مرتين، وليس عيباً ألا تعرف، لكن العيب هو ألا تتعلم وتطور مهاراتك، وهذا ما تحدثت أيضاً عن معناه في الحلقة الجديدة من بودكاست مرصد الأفكار، وهي بعنوان "انتهاء عصر الوصف الوظيفي"، حيث تتسارع معطيات التكنولوجيا والتحول الرقمي في الشركات لدرجة تتطلب تغيير الوصف الوظيفي وتطويره كل عام تقريباً، وبحسب دراسة ذكرتها في البودكاست لشركة "غارتنر"، فإن الموظف بحاجة إلى تطوير 10 مهارات جديدة وإضافتها إلى خبراته كل 18 شهراً، ومن لا يتمكن من مواكبة التغيير والاستفادة من فرصه، فسيصبح مفلساً من العلم والعمل.
وفي نهاية الحديث عن استغلال الشركات العائلية للفرص المناسبة تحديداً، إذا كنت تجلس اليوم وتلوم جدك ووالدك على عدم استغلالهما الفرص التي مروا بها عبر التحولات التي حصلت في حياتهم، فاحذر من لوم ولدك لك، وأنت تعيش في زمن تمر فيه الفرص من أمام عينيك، وقد لا تشعر.