السرد القصصي الاستراتيجي مهم للغاية، إذ أصبحت اللازمة المتكررة في أحاديث المسؤولين التنفيذيين هذه الأيام: "نحتاج إلى سرد قصة استراتيجية جديدة".
السرد القصصي الاستراتيجي
لم يعد قول "نصنع نماذج مصغرة" كافياً بعد الآن. ومع التغيرات التي تحدث بسرعة كبيرة من نواح كثيرة للغاية، على صعيد التنافس والقواعد التنظيمية والتقنيات والمواهب وسلوك العملاء، من السهل أن تتحول القصة الاستراتيجية إلى مجرد قصة عامة أو قديمة.
ينبغي أن تُلهم القصة الاستراتيجية الموظفين، وأن تُثير حماس الشركاء وتجذب العملاء وتتيح مشاركة أصحاب التأثير العام. فيجب أن تكون موجزة، ولكن متكاملة وشاملة في الوقت نفسه، كما يجب أن تكون محددة، ولكن مع إتاحة الفرصة للنمو. ودورها هو التعريف برؤية الشركة، وتوضيح استراتيجيتها وتجسيد ثقافتها.
اقرأ أيضاً: التوازن الدقيق في إنجاح استراتيجية المنظومة البيئية المتكاملة
تتمثل الخطوة التي عادة ما يتم اتخاذها في تكليف إحدى المؤسسات المتخصصة بإعداد سرد القصة الاستراتيجية، حيث ستجد أن معظم الشركات المتخصصة في ترويج العلامة التجارية تضع شعاراً وعبارة الصورة الذهنية لتمييزها عن منافسيها. ومعظم شركات الإعلانات تخرج بحلول خلاقة وتنظم حملات تسويقية. وشركات العلاقات العامة تركز على وضع الخطط المتعلقة بالمراسلات والتواصل. جميعها تكتيكات مفيدة ولكنها لا تقدم نوع السرد القصصي الاستراتيجي الذي تبحث عنه.
السرد الاستراتيجي هو نوع خاص من القصص؛ فهي توضح هوية الشركة، وكذلك أين كانت، وما هي مكانتها الآن، وماذا ترغب أن تكون عليه في المستقبل. وأيضاً كيف يتم خلق القيمة من وجهة نظر الشركة، وما الذي ترى الشركة أنه له قيمة فيما يتعلق بالعلاقات. كما أنها توضح سبب وجود الشركة، وما الذي يجعلها فريدة ومميزة.
وهو ما لا يمكن أن يعكسه المشهد التنافسي المعتاد ولا إجراء مقابلات مع العملاء ولا عقد اجتماعات تفاعلية. بل يحتاج إلى اتباع نهج مختلف وتحول في التفكير بقيادة الفريق الإداري.
السياق الإنساني
تتمثل الخطوة الأولى في فهم سياق السرد القصصي. أوضحتْ الأبحاث أن أدمغتنا تفكر في الشركات ليس باعتبارها أشياء بل باعتبارها أشخاصاً. ففي كل مرة يتعامل العملاء مع شركتك، تخيل أنهم يطلبون منك أن تحدثهم عن نفسك.
أي فكر في الأمر وكأنك في مقابلة عمل. لديك بالفعل السيرة الذاتية للمرشح، ولكن ما يهم حقاً لا يُدوَّن على الورق! ينبغي أن تتعرف على ما يُلهم الموظفين وما هم عليه لتتمكن من العمل معهم، وما إذا كان يمكنك الاعتماد عليهم. يجب أن تُشعرهم بإنسانيتك.
قد يبدو الأمر غريباً في البداية، ولكن ما سبق ينطبق على شركتك أيضاً. فيجب أن يكون سياق السرد القصصي ذا طابع إنساني وليس مؤسسي. ويجب أن ينظر العملاء إلى شركتك على أنها شخص. والعلاقات البشرية تتطلب التحلي بالمصداقية والمعاملة بالمثل. لذا يجب أن تُبيّن السردية القصصية مَن أنت وليس ما الذي تفعله فحسب.
الهدف المشترك مهم في السرد القصصي الاستراتيجي
تُعد الركيزة الأساسية لأي سردية استراتيجية هي وجود هدف مشترك. فهذا الهدف المشترك هو النتيجة التي تعمل أنت وعميلك معاً للوصول إليها. إنه أكثر من مجرد عرض قيمة ما تقدمه لهم. أو رسالتك التي توضح ما تقدمه للعالم. فالهدف المشترك هو الرحلة التي تخوضها بصحبتهم. وبامتلاك هدف مشترك، سوف تتحول العلاقة بينك وبين العميل إلى علاقة بين شركة وأحد المشاركين في تأسيسها.
اقرأ أيضاً: التركيز على ما يعتقده الموظفون، هو ما يسدّ الفجوة بين الاستراتيجية والتنفيذ
إحدى المهام التي تضطلع بها السردية القصصية الاستراتيجية هي توضيح كيف سيتم تحقيق الهدف. كمثال على ذلك، ما بين عامي 2008 و2015، نظمت شركة "آي بي إم" (IBM) حملتها التسويقية وفقاً للهدف المشترك المتمثل في "نحو عالم أكثر ذكاء". ومن خلال مجموعة من الأوراق البحثية والمناقشات، عرض الرئيس التنفيذي للشركة، سام بالميسانو، توضيحاً مفصلاً لكيف أصبحت الأشياء أكثر "تجهيزاً وترابطاً وذكاءً". فبإدماج الذكاء داخل النُظم والعمليات، سيصبح العالم أكثر ذكاء.
المهمة الثانية للسردية القصصية الاستراتيجية هي توضيح الأدوار اللازمة لتحقيق الهدف المشترك. من باب القياس، تخيل أن هناك حفلة طعام مشتركة، وعلى كل شخص من الضيوف إحضار صنف مختلف من الطعام. فمثلاً عليّ أن أحضر الطبق الرئيس، وعليك إحضار السلطات، وسيكون على شخص آخر إحضار الحلوى. وبالمثل، فالهدف المشترك هو مثل وجبة الطعام المشتركة هذه، ومهمة السردية الاستراتيجية هي توضيح مَن سوف يُحضر أياً من الأطباق إلى الحلفة.
على سبيل المثال، رسالة شركة "نايكي" هي "أن نكون مصدراً للإلهام والابتكار لكل رياضي في العالم". وما يجعل هذه الرسالة هدفاً مشتركاً هو أن "نايكي" تشجع الأشخاص بقوة على إلهام بعضهم. يُعد شعار شركة "نايكي" "فقط افعلها" هو الجزء الأساسي من سرديتها الاستراتيجية. فإضافة إلى كونها مصدراً للإلهام، وفقاً لرسالتها، فهي أيضاً تساعد على تحديد الأدوار المنوطة بكل فرد. في الواقع، صرحت "نايكي" قائلة "سنزودك بالحذاء والمعدات والملابس، وعليك استحضار دوافعك والالتزام بتمارينك والتحلي بروح تنافسية". وهذه هي السردية الاستراتيجية التي تتجاوز بكثير المنتجات التي تبيعها شركة "نايكي".
الحمض النووي للعلامة التجارية
لا يتغير الأشخاص جذرياً، وكذلك الشركات. فبمجرد أن يتم تأسيس الشركة، يتكون ما يشبه الحمض النووي ويدوم ما دامت الشركة قائمة. ومن ثَم ينبغي أن تتواءم السردية الاستراتيجية مع هذا الحمض النووي للعلامة التجارية وإلا سوف يُنظر إليها على أنها غير أصلية.
ليس من قبيل المصادفة أن يكون شعار مؤسس شركة "آي بي إم" توم واتسون هو "فكّر"، وأن تكون استراتيجية التسويق الأخيرة للشركة قائمة على فكرة أن يكون العالم أكثر ذكاءً، وأن تكون استراتيجيتها الحالية قائمة على فكرة الأعمال التجارية الإدراكية. فالتفكير هو الحمض النووي لعلامة "آي بي إم" التجارية.
اقرأ أيضاً: 5 خرافات حول الاستراتيجية
وكي تعثر على الحمض النووي لعلامتك التجارية، ارجع إلى النسخة الأصلية والأخلاقيات التي حددها المؤسس (المؤسسون). فمثلاً عرض القيمة لشركة "وول مارت" (Walmart) هو "أسعار منخفضة بصفة يومية". وهو شعار غير مميز على الإطلاق بين شركات البيع بالتجزئة. إلا أنَّ الهدف المشترك لشركة "وول مارت" لا يتعلق بخفض الأسعار، بل بتحسين نوعية الحياة. فقد قال سام والتون، عندما أسس الشركة "إذا عملنا معاً سنخفض تكاليف المعيشة لكل فرد". وبذلك يمكن لشركات البيع بالتجزئة الأخرى مضاهاة استراتيجية شركة "وول مارت"، ولكن لن تستطيع فعل الشيء نفسه مع سرديتها الاستراتيجية.
فقدان السردية القصصية الاستراتيجية
لا تمتلك معظم الشركات سردية قصصية استراتيجية مؤثرة. فقد ينقصها التواصل البشري أو الهدف المشترك أو قد تكون غير متوائمة مع الحمض النووي للعلامة التجارية. وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً. فقد يكون لدى بعض الشركات سردية قصصية استراتيجية مؤثرة ثم تفقدها. ولشركة "ستاربكس" حكاية ذات مغزى وعبرة في هذا السياق.
الأساس الذي تقوم عليه السريدة القصصية الاستراتيجية لشركة ستاربكس هو فكرة توفير "مكان ثالث". والسبب وراء ذلك هو أن الرئيس التنفيذي للشركة، هوارد شولتز، سافر عبر أوروبا، وأدرك خلال رحلته أن في كل دولة هناك مكاناً ثالثاً ما بين المنزل والعمل، حيثما يجتمع الأشخاص معاً لإجراء محادثات وتكوين مجتمعات أثناء احتسائهم مختلف المشروبات. ومن ثَم فقد تخيل ستاربكس باعتبارها مكاناً ثالثاً في أميركا. أسهمت هذه الفكرة في دفع النمو الهائل للشركة إلى أن ابتعد شولتز عن الإدارة المباشرة للشركة عام 2000. وقد كان الأداء المالي سيئاً حتى عودته إلى الإدارة عام 2008.
في كتاب شولتز بعنوان "تقدَّم" (Onward)، بيّن أن "ستاربكس" فقدت سرديتها القصصية الاستراتيجية عندما ابتعد عنها. حيث كتب "القهوة التي تقدمها ستاربكس استثنائية بالتأكيد، إلا أنّ الارتباط العاطفي هو مقترحنا الحقيقي ذو القيمة العالية. ستاربكس ليست شركة قهوة تخدم الأشخاص، بل هي شركة أشخاص تقدم القهوة".
لا عجب أن الشركات الرائدة في السوق، مثل "آي بي إم" و"نايكي" و"وول مارت" و"ستاربكس"، تمتلك سرديات قصصية استراتيجية مؤثرة. فمن خلال تهيئة بيئة تتسم بالتواصل الإنساني والتعاون لتحقيق هدف مشترك والارتباط بالحمض النووي للشركة، يمكن إعداد سردية قصصية استراتيجية تبث روح الحماس في المسؤولين التنفيذيين وتلهم الموظفين وتدهش الشركاء وتجذب العملاء.
اقرأ أيضاً: الأنشطة الجانبية الاستراتيجية