تعدّ المنظمات الاستراتيجية تلقائياً وكأنه أمر لا بد منه. حيث أصبح التخطيط الاستراتيجي من المهام الروتينية، فنلاحظ إنشاء وحدات عمل متخصصة بالتخطيط، وأُخرى لمتابعة تنفيذ استراتيجية المؤسسة بعد أن يتم إسقاطها على الموظفين في إداراتهم حسب التخصص. إذ يسير النضج التنظيمي في مؤسساتنا جنباً إلى جنب مع وضع أسس وقواعد وممارسات ثابتة للإدارة الاستراتيجية داخل المؤسسات، فنلاحظ تطوير سياسات وإجراءات ونماذج عمل خاصة بالتخطيط الاستراتيجي، واعتماد أدلة وإرشادات تفصّل كيفية أداء المهام المتعلقة بإدارة الاستراتيجية.
استراتيجية المؤسسة
تنجرف المؤسسات في خضم هذه الطفرة إلى ممارسات عفوية تثقل كاهلها، وتجعل الموظفين يشعرون بالاستراتيجية عبئاً أكثر من كونها وسيلة لرسم طريق النجاح، ومركباً لقيادة المؤسسة إلى وجهتها. حيث تناولت دراسات وأبحاث حديثة عدداً من هذه الممارسات، وبيّنت أثرها المحبط في عدة مواضع، ولربما يسمح مقالنا في تناول هذا الموضوع بشيء من التمحيص.
اقرأ أيضاً: 8 أسئلة صعبة لتطرحها حول استراتيجية شركتك
تتأثر الاستراتيجية مباشرة باختيار فريق العمل، وتترسخ القناعة في مؤسسات اليوم أن إعداد وتنفيذ الاستراتيجية ليست مهمة خاصة بإدارة الاستراتيجية، وإنما لا بد من إشراك مجموعة أوسع من الموظفين، بحيث يتم تكوين فريق عمل يملك القدرة على التأثير. حيث أشار بيتر بريغمان في مقال نُشر في "هارفارد بزنس ريفيو" سابقاً إلى ذلك عندما شدّد على وجوب اختيار الأشخاص الأكثر تأثيراً والعمل معهم. بالتالي، يجب على هؤلاء الأشخاص أن يكونوا متعاونين، ويتسمون بالروح الإيجابية، والأهم من ذلك، امتلاكهم للسلطة اللازمة من أجل نشر الاستراتيجية وتسويقها إلى باقي الموظفين معتمدين على قدرتهم الإقناعية.
ولحسن الحظ، تمتلك المؤسسات اليوم الكثير من الأدوات التي تسمح بتحديد الموظفين المؤثرين، ويجب التوضيح هنا أن الموظفين المؤثرين ليسوا بالضرورة أصحاب المناصب العليا، وإنما من يكون أداؤهم أساسياً في بيئة العمل. ومن الممارسات الجيدة لتحديد هذه الفئة رسم خرائط السلطة داخل المؤسسة، إذ تُبيّن خريطة السلطة علاقة التأثر والتأثير بين الموظفين، ويمكن من خلالها تحديد الموظفين الأكثر تأثيراً في المحصلة، وبالتالي الاعتماد عليهم ضمن فريق الاستراتيجية. والجدير بالذكر أن خريطة السلطة الخاصة بالاستراتيجية تختلف عن خرائط السلطة الأُخرى، فغرض الخريطة يؤثر في رسم العلاقات وتقديرها، وبالتالي في شكلها النهائي.
اقرأ أيضاً: الأنشطة الجانبية الاستراتيجية
إلى جانب ذلك، تخسر المؤسسات قدرتها على إبقاء استراتيجيتها حية نشطة إذا ما جعلت مشاركة الموظفين في تطويرها أمراً معقداً، ويؤدي هذا إلى فقدان الموظفين الارتباط مع الخطة الاستراتيجية. كما يمكن تفادي الوقوع في هذا المطب الاستراتيجي (إن صحت التسمية) باعتماد ما يسمى الإدارة باتجاهين أو من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، بحيث يتم إشراك الموظفين في اقتراح التعديلات وسوق المناسب منها صعوداً للوصول إلى استراتيجية المؤسسة الصحيحة، وكذلك الأمر بإعادة إسقاط الاستراتيجية المحدّثة على وحدات العمل. وهذا يشجع الموظفين على المشاركة، ويقوي إحساسهم بالمسؤولية اتجاه الاستراتيجية، كما يزيد من تحفيزهم ويدفعهم إلى تحقيق أعلى مستوى من الابتكار المؤسسي، مع العلم أن تطبيق هذا الأسلوب لا يتطلب خبرات كبيرة ومتخصصة لدى الإدارة العليا. وتطرّق ديفيد كوليس لهذا التحدي من خلال طرحه ما يسميه "الاستراتيجية الرشيقة" بهدف تمكين المؤسسات من اكتساب مرونة رواد الأعمال وكذلك ثبات الشركات الكبيرة.
ومن أبرز الأمثلة على شركات دفعت ثمن ضعف مرونتها الاستراتيجية، وعدم قدرتها على مواكبة التغيّرات المتسارعة "بلاك بيري" و"نوكيا". حيث فقدت كل شركة منهما قيمة كبيرة من حصتهما السوقية نتيجة فشل استراتيجيتهما في التعامل مع ثورة الهواتف الذكية، وعدم تمتعهما بالرشاقة الكافية لتلمّس هذه التغيّرات والتعامل معها بطريقة سليمة.
وعلى المؤسسة التي ترغب في ممارسة الإدارة الاستراتيجية بنجاح، أن تكتسب قدرتين أساسيتين: القدرة على التخطيط، والقدرة على التعلم. إذ تعجز المؤسسة عن ملاحقة التغيّرات المتسارعة في البيئة المحيطة، التي أصبحت من سمات عصرنا الحالي إذا ما اعتمدت الرسمية الزائدة في التخطيط الاستراتيجي. ومثل هذه الرسمية تتمثل في وضع الخطة الاستراتيجية ومراجعتها على فترات زمنية متباعدة، وفق إجراءات صارمة. فهذا يضعف قدرة المؤسسة على التعامل مع حالات عدم اليقين في بيئة الأعمال. كذلك فإن الاعتماد على معالجة مستجدات الأمور وانتظار ما سيحدث من تغيّرات والتعلم منها أمر لا جدوى منه، ولا يساعد المؤسسة في الوصول إلى موقع ريادي. وأطلق ريكاردو فيشياتو في بحث نشره عن هذه الحالة مسمى "عدم اليقين الحدودي" (Boundary Uncertainty). حيث نصح أن يتم التعامل مع هذا الوضع عبر محورين، الأول يعتمد على تعميق فهمنا لأهمية الاستشراف الاستراتيجي، والمحور الثاني الاعتماد على المرونة الاستراتيجية في التعامل مع بيئات الأعمال المضطربة. ومن الضروري في هذا الحالة، اكتساب أصحاب القرار فهماً سليماً للمكونات الرئيسية لمجال تخصص مؤسساتهم، وأن يعتمدوا على التخطيط وتقنيات الاستشراف لفهم دوافع التغيير وتأثيرها في أعمالهم.
كما أن إكساب المؤسسات الصلابة الاستراتيجية من شأنه المزاوجة بين التخطيط والتعلم، وهذا التوجه الجديد يتجاوز السلوك التقليدي الذي ناصرته العديد من الأبحاث السابقة في قطاعات الأعمال المختلفة، والقائم على التمسك بالتخطيط الاستراتيجي في مواجهة حالات عدم الاستقرار والتغيّرات المتسارعة.
اقرأ أيضاً: التركيز على ما يعتقده الموظفون، هو ما يسدّ الفجوة بين الاستراتيجية والتنفيذ
ولعل ما قامت به شركة "فيليبس" هو مثال جيد على هذا الاتجاه، حيث تنبهت إلى تغيّر ميول المستهلكين وتفضيلاتهم، وتوجههم نحو أجهزة التلفاز ذات الشاشات الأكبر حجماً، ومنصات الألعاب التي تحتاج إلى تلفاز بقدرات فائقة، كذلك مشاهدة الأفلام عند الطلب. وبعد مجموعة من الاستقصاءات والأبحاث، نجحت "فيليبس" في تطوير استراتيجية مبنية على مخرجات التعلم، وأنتجت هذه الاستراتيجية الكثير من التقنيات الثورية في هذا المجال كتطوير أجهزة قادرة على الارتباط فيما بينها لتشكيل بيئة منزلية ذكية، وكذلك تقديم تقنية الإضاءة المحيطية التي تكوّن شعوراً بأن الشاشة أكبر من حجمها الطبيعي.
يُعتبر التوازن هو كلمة السر في نجاح المؤسسات خلال عملية التخطيط الاستراتيجي، ونرى بعض المؤسسات تذهب بعيداً إلى اعتماد أساليب في التخطيط الاستراتيجي تُخالف الغالب المعمول به، كالتخطيط الاستراتيجي العضوي الذي هو أكثر تكيّفاً وشمولاً من نماذج التخطيط الاستراتيجية العادية، ويتم التركيز فيه على الأنشطة والأعمال التي أثبتت فعاليتها وليس على التحديات، حيث يقرر المدراء الأعمال التطويرية التي تتماشى مع رؤية المؤسسة ورسالتها وليس المستهدفات الموضوعة. وبالطبع نحن لا نُشجع على الذهاب كل هذه المسافة، ولكن بالحد الأدنى إيجاد التوازن المطلوب.
أخيراً، على المؤسسات اليقظة عندما يتعلق الأمر بموضوع استراتيجية المؤسسة والاعتماد على الأشخاص المؤثرين وتشكيل فريق عمل داخلي، وإشراك الموظفين بمختلف فئاتهم في تحديد التحديات والفرص التي يمكن الاستفادة منها من واقع خبرتهم واطّلاعهم، والحرص على إبقاء الاستراتيجية مرنة بحيث تسمح باستيعاب المستجدات في الوقت المناسب.
اقرأ أيضاً: التوازن الدقيق في إنجاح استراتيجية المنظومة البيئية المتكاملة