في عام 1948، وضع عالِم النفس الأميركي فريدريك سكنر (F. Skinner) حمامة جائعة داخل صندوق يحتوي على قرص ملوّن، وبما أن النقر عند الحمام سلوك لا إرادي، شرعت هذه الحمامة في النقر على أماكن مختلفة داخل الصندوق، غير أنّ نقرها في مكان القرص الملوّن بالصدفة يؤدي إلى نزول القمح بطريقة آلية في البداية، لذلك تستمر في النقر حتى تشبع، لكن سكنر غيّر آلية عمل الصندوق بجعل نزول حبات القمح عشوائياً، أي إنّ الحمامة لا تحصل على الطعام عقب كل نقرة في القرص الملّون، وإنما عقب عدد عشوائي من النقرات، وهو ما أدى إلى سلوك غريب تمثل في استمرار نقر الحمامة على القرص الملوّن دون توقف حتى ولو لم تكن جائعة. ينطبق هذا السلوك أيضاً على البشر، وماكينات القمار خير مثال على ذلك؛ فملخص التجربة هو تكرار السلوك الذي يؤدي إلى الحصول على مكافأة غير متوقعة من حيث التوقيت والحجم يؤدي إلى إدمانه.
عقب هذه التجربة وتجارب أخرى مشابهة، ظهر مصطلح صندوق سكنر (Skinner Box) الذي يصف النظرية المفسّرة لإحدى آليات عمل الدماغ البشري وكيفية اكتساب عادة معينة أو دوافع تكرار سلوك معين، وتُستخدم هذه النظرية من قبل بعض المختصين لتفسير إدمان الألعاب الإلكترونية.
يعرّف أستاذ كلية هارفارد للأعمال جون بيشرز (John Beshears) الاقتصاد السلوكي (Behavioral Economics) على أنه فرع اقتصادي حديث يجمع أفكاراً من مجالات علم النفس وعلم الاقتصاد وعملية صنع القرار لفهم كيفية اتخاذ الناس لقراراتهم، ثم العمل على ترشيدها حتى تكون أكثر عقلانية من القرارات التي تعتمد على مجال واحد فقط، أي إنّ الاقتصاد السلوكي يحمل في طياته معاني التآزر (1+1=3).
تعود جذور الاقتصاد السلوكي إلى أعمال الفيلسوف والاقتصادي آدم سميث (Adam Smith) حينما تطرق له في "نظرية العواطف الأخلاقية" (The Theory of Moral Sentiments)، ويُعدّ الباحث ريتشارد ثالر (Richard Thaler)، أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو والفائز بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2017 عن كتابه "الاقتصاد السلوكي"، من أهم روّاد هذا التخصص؛ أما على مستوى البلدان العربية، فيعدّ الأستاذ فادي مكي من أهم الشخصيات المعروفة بالإسهامات الكبيرة في هذا المجال.
الرشادة المحدودة
اتخاذ القرارات لا يكون دائماً عقلانياً، وتدريب الأفراد على اتخاذ قرارات صحيحة يتطلب موارد مالية ووقتاً طويلاً وجهداً معتبراً، لذلك يُتيح لنا الاقتصاد السلوكي توفير هذه الموارد القيّمة عن طريق دراسة متغيرات البيئة التي يُتخذ فيها القرار وتغييرها، ويمكن أن يشمل ذلك مختلف المجالات مثل الأعمال الربحية أو البورصات أو الرعاية الصحية أو التنمية الذاتية.
تُعزى عدم عقلانية القرار البشري أحياناً إلى الكثير من العوامل والانحيازات السلوكية التي تشوب التفكير الإنساني، غير إنّ ما أسماه هربرت سايمون (Herbert Simon) عام 1959 "الرشادة المحدودة" (Bounded Rationality) هو أحد أقدم هذه العوامل المعروفة، ومعناه أنّ الفرد ليس له القدرة على فهم المحيط بطريقة كاملة، حيث لا يمكنه الحصول على كل المعلومات الضرورية والكافية لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وبالتالي يكون قراره ضمن حالة من عدم التأكد، وغير مكتمل من النواحي كافة.
أهمية الاقتصاد السلوكي وكيفية تطبيقه
حسب خبيرة السلوك البشري فرانشيسكا جينو، فإن الاقتصاد السلوكي يهدف إلى تغيير البيئة أو السياق الذي يُتخذ فيه القرار، ويتطلب ذلك المرور بأربع مراحل هي: تحديد المشكلة، ثم تحديد الدوافع النفسية الكامنة وراء هذه المشكلة، ثم تصميم استراتيجية التغيير التي عادة ما تشتمل على الترغيب، ثم مراجعة النتائج والتأكد من مدى فعالية الاستراتيجية المتّبعة.
إلى جانب توفير نظرة مرجعية أعمق فيما يحفز السلوك البشري، فإن فهم الاقتصاد السلوكي يمكن أن يساعد الناس في ممارسة مراقبة ذاتية أكبر وتطوير عادات صحية (ممارسة المزيد من الرياضة مثلاً أو الإقلاع عن التدخين).
يبرز مصطلح الترغيب (Nudge) ضمن أهم مصطلحات الاقتصاد السلوكي، ويُقصد به الممارسات التي من شأنها تغيير سلوك الأفراد ومساعدتهم على اتخاذ القرارات، عبر اتّباع بعض التكتيكات ذات التكلفة المنخفضة، والتي تأتي استكمالاً للأنظمة والتشريعات الموجودة، وتقوم هذه التكتيكات عادة على التحفيز الذي يدفع السلوكيات الفردية إلى الانسجام مع المصلحة الاجتماعية الاقتصادية العامة.
يعود الفضل في اكتساب هذا المصطلح الشهرة والزخم إلى أستاذ الاقتصاد الأميركي ريتشارد ثالر، الذي أسهم في تأسيس ما يُعرف بـ "وحدات الترغيب"، والتي نجحت في خفض التكاليف وتحسين السياسات العامة لبعض الدول التي تبنّتها.
ظهر المصطلح قبل عام 1995، من قبل الأستاذ في جامعة أكسفورد جيمس ويلك، لكنه تبلور في عام 2008 عندما أصدر كلّ من ريتشارد ثالر وكاس سانستين كتابهما بعنوان "الترغيب: تحسين القرارات حول الصحة والثروة والسعادة" (Nudge: Improving Decisions about Health, Wealth, and Happiness).
تبنّت الحكومة البريطانية هذه النظرية، وأنشأت ما يعرف بـ "فريق الرؤى السلوكية" (Behavioral Insights Team.BIT) أو "وحدة الترغيب" (Nudge Unit) في عام 2010، وتعدّ هذه التجربة الأولى والأنجح في هذا المجال، وقد أدى نجاحها إلى دفع الولايات المتحدة إلى اعتماد النظرية نفسها في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، عن طريق تشكيل فريق متخصص بالعلوم السلوكية لدفع الناس وترغيبهم لاتخاذ قرارات أفضل، وقد حذت حذو الولايات المتحدة وبريطانيا كلّ من سنغافورة وأستراليا، ودول أخرى مثل قطر في عام 2016 ولبنان التي أنشأت الجمعية اللبنانية للاقتصاد السلوكي "نادج ليبانون" (Nudge Lebanon) عام 2017 بقيادة الخبير فادي مكي.
يوجد نحو 15 وحدة حكومية حول العالم متخصصة في هذا المجال (عام 2019)، وقوامها خبراء في مجال السياسات العامة والاقتصاد وعلم السلوك والنفس؛ وتعدّ "هندسة الاختيار" (Choice Architecture) مثالاً عن تطبيقات الترغيب، إذ تهدف لتغيير سلوك الأفراد دون تقييد خياراتهم.
الاقتصاد السلوكي والانحيازات السلوكية
يقوم الاقتصاد السلوكي على فهم السلوك البشري وكيفية تفكير الإنسان، لذلك عدّدت بعض المصادر عشرات الانحيازات السلوكية التي يجب الإحاطة بها من أجل تطبيق مراحل فرانشيسكا جينو الأربع المذكورة آنفاً، ويمكن الاطلاّع على 50 انحيازاً سلوكياً انحيازاً شائعاً من خلال هذا المقال من هارفارد بزنس ريفيو، لكن دانيال كانيمان، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2002، ركزّ على انحياز سلوكي محدد من خلال قوله "إنّ مفهوم تجنب الخسارة هو بالتأكيد أهم إسهام لعلم النفس في الاقتصاد السلوكي"، وفحوى هذا الانحياز هو أنّ حدّة المشاعر السلبية التي نشعر بها عقب خسارة شيء ما، وما يُحدثه ذلك من ألم هي تقريباً ضعف حدّة المشاعر الإيجابية الناتجة عن حيازة شيء جديد وما ينتج عنه من سعادة. وبعبارة أخرى، فإن فكرة فقدان شيء أو التخلي عنه يثير فينا ردة فعل أقوى مما نشعر به عند الحصول على شيء جديد. لذلك فإن تفادي الخسارة هو دافع قوي يمكن أن يدفعنا إلى التصرف بطرائق معينة، وأحياناً بطرائق غير عقلانية.