كيف تنفّذ النظام الهجين بالطريقة الصحيحة؟

15 دقيقة
نموذج العمل الهجين
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
عند تصميم ترتيبات العمل المرنة، ركّز  على الاعتبارات الإنسانية الفردية، وليس الاعتبارات المؤسسية فقط.

أدرك هيروكي هيراماتسو، مدير إدارة الموارد البشرية العالمية بشركة “فوجيتسو” (Fujitsu)، أن الشركة في حالة صدمة منذ أواخر فبراير/شباط مع اتضاح تداعيات جائحة “كوفيد-19”.

والحقيقة أن ترتيبات العمل المرنة ظلت مدرجة على جدول أعمال الشركة لسنوات، ولكن دون تغيير يُذكَر في واقع الأمر. ولا يزال معظم مدراء الشركة في اليابان ينظرون بعين التقدير إلى التفاعل المباشر وجهاً لوجه والعمل المكتبي لساعات طويلة، ووفقاً لاستقصاء داخلي أُجري قبل فترة قصيرة، فقد اعتبر أكثر من 74% من الموظفين أن المكتب هو أفضل مكان للعمل. لكن الجائحة قلبت الأمور رأساً على عقب، كما توقع هيراماتسو.

فبحلول منتصف مارس/آذار، كانت غالبية موظفي “فوجيتسو” المقيمين في اليابان والبالغ عددهم حوالي 80,000 موظف يعملون من المنزل. ولم يلبثوا أن أدركوا مزايا سياساتهم الجديدة المعزِّزة للمرونة، حتى أن استقصاء المتابعة الذي أُجري في شهر مايو/أيار أشار إلى أن 15% فقط من موظفي الشركة يعتبرون أن المكتب هو أفضل مكان للعمل. وقال حوالي 30% منهم إن منازلهم هي أفضل مكان للعمل، فيما فضل 55% الباقون مزيجاً يجمع بين المنزل والمكتب، أي نموذج العمل الهجين.

وعندما استقر الموظفون في روتينهم الجديد، أدرك هيراماتسو أن ثمة تحولاً جذرياً يحدث، حتى إنه قال لي في سبتمبر/أيلول الماضي: “لن نعود إلى المقرات المكتبية. لقد كان الكثير من الموظفين يهدرون ساعتين كاملتين من وقت العمل في المواصلات، ويمكننا استغلال هذا الوقت الضائع في التعليم والتدريب ومجالسة أفراد أسرنا. ولكننا بحاجة إلى العديد من الأفكار حول كيفية إنجاح تجربة العمل عن بُعد. إذ نوشك على إحداث تغيير جذري في العلاقة بين الحياة العملية والشخصية”.

منذ 10 سنوات وأنا أترأس اتحاد “فيوتشر أوف وورك كونسورتيم” (Future of Work Consortium) الذي تضم عضويته أكثر من 100 شركة من جميع أنحاء العالم لبحث الاتجاهات المستقبلية وتحديد المنهجيات الرشيدة المتبعة حالياً والتعلم من التجارب الجديدة. وقد ركزت أبحاثنا منذ تفشي الجائحة على الآثار الاستثنائية لتفشي فيروس “كوفيد-19” على ترتيبات العمل. وتحدثتُ في إطار هذه الجهود مع عدد كبير من المسؤولين التنفيذيين، وأفاد الكثيرون منهم، مثل هيراماتسو، بأنهم اكتشفوا جانباً إيجابياً في كفاحنا المشترك للتكيف مع تداعيات الجائحة. حيث أخبرني هؤلاء المسؤولون التنفيذيون بأن السرعة المذهلة التي تبنت بها الشركات تكنولوجيا العمل الافتراضي والرغبة العارمة لدى معظم الموظفين في عدم العودة إلى طرق العمل السابقة، فتحت أعينهم على فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر لإعادة هيكلة منظومة العمل باستخدام نموذج هجين، نموذج إذا تم تنفيذه بالطريقة الصحيحة، فسيجعل حياتنا العملية ذات مغزى أكبر وأكثر إنتاجية ومرونة.

يلمس المسؤولون التنفيذيون جانباً إيجابياً في خضم محاولاتهم الدؤوبة للتكيف مع تداعيات الجائحة، ذلك أنها تتيح فرصة ثمينة لجعل الحياة العملية ذات مغزى أكبر وأكثر إنتاجية ومرونة.

لكن إذا أراد القادة والمدراء تنفيذ هذه النقلة النوعية بنجاح، فعليهم أن يفعلوا شيئاً لم يعتادوا فعله من قبل، ألا وهو تصميم ترتيبات عمل هجينة تراعي الاعتبارات الإنسانية الفردية، وليس الاعتبارات المؤسسية فقط.

فكرة المقالة باختصار

الفرصة

تسببت الجائحة في لجوء الشركات إلى اعتماد تقنيات العمل الافتراضي بسرعة ملحوظة، وبات الموظفون يلمسون مزايا منحهم المزيد من المرونة في تحديد مكان وزمان عملهم. وحينما أدركت الشركات الإمكانات التي يتيحها الوضع الراهن، حرصت على اغتنام هذه الفرصة التي لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر لإعادة هيكلة منظومة العمل باستخدام نموذج العمل الهجين.

التحدي

لن ينجح الانتقال إلى نموذج هجين يتيح العمل في أي مكان وزمان إلا إذا تم تصميمه بطريقة تراعي الاعتبارات الإنسانية، وليس الاعتبارات المؤسسية فقط.

الطريق نحو المستقبل

يستلزم تحقيق هذه الغاية أن يتعاطى المدراء مع هذه المشكلة من أربع زوايا مختلفة: (1) الوظائف والمهمات، (2) تفضيلات الموظفين، (3) المشاريع وسير العمل، (4) الشمول والإنصاف.

عناصر النموذج العمل الهجين

لا يمكن الادعاء أن تنفيذ هذه الخطوة بالأمر السهل أو الهيّن. ويرجع هذا في الأساس إلى أن تصميم نموذج العمل الهجين بالشكل الصحيح يحتِّم عليك التفكير في الأمر على محورين: المكان والزمان.

والمكان هو المحور الذي يحظى بأكبر قدر من الاهتمام في الوقت الحالي. وقد تعرّض ملايين الموظفين حول العالم لتحوّل مفاجئ هذا العام من التقيّد بالمكان (العمل في المقرات المكتبية) إلى عدم التقيّد بالمكان (العمل من أي مكان)، على غرار موظفي شركة “فوجيتسو”. وربما لم نلاحظ التحول الذي تعرّض له الكثيرون أيضاً على محور الزمان من التقيّد بالزمان (العمل بالتزامن مع الآخرين) إلى عدم التقيّد بالزمان (العمل بشكل غير متزامن متى شاءوا).

ولمساعدة المدراء على استيعاب الطبيعة ثنائية الأبعاد لهذه المشكلة، استخدمت منذ فترة طويلة مصفوفة بسيطة مكونة من خانتين أفقيتين وخانتين رأسيتين (2×2) على هذين المحورين. (راجع الشكل التوضيحي “ترتيبات العمل على أساس المكان والزمان”). قبل تفشي جائحة “كوفيد-19″، أتاح معظم الشركات الحد الأدنى من المرونة في كلا المحورين. أدى هذا إلى وضع تلك الشركات في المربع السفلي الأيسر، حيث يعمل الموظفون في المقرات المكتبية خلال ساعات محددة. وبدأ بعض الشركات في المغامرة في المربع السفلي الأيمن من خلال السماح بساعات أكثر مرونة، فيما كانت الشركات الأخرى تجرّب حظوظها في المربع العلوي الأيسر من خلال منح الموظفين مزيداً من المرونة لاختيار مكان عملهم، وكانوا يختارون العمل من المنزل في أغلب الأحيان. لكن لم يتجرأ سوى قلة قليلة من الشركات على الانتقال مباشرة إلى المربع العلوي الأيمن الذي يمثل نموذجاً للعمل من أي مكان وفي أي زمان، أي النموذج الهجين.

لكن هذا الوضع آخذ في التغير. فقد وجّهت الكثير من الشركات أنظارها بقوة إلى ترتيبات العمل المرنة التي يمكن أن تعزز الإنتاجية ورضا الموظفين إلى حدٍّ كبير بالتزامن مع تعافينا من تداعيات الجائحة. وخلصت نتائج بحثي إلى أن تحقيق هذه الغاية يوجب على المدراء التعاطي مع التحدي من أربع زوايا مختلفة: (1) الوظائف والمهمات، (2) تفضيلات الموظفين، (3) المشاريع وسير العمل، (4) الشمول والإنصاف. والآن دعونا نلقِ نظرة على كل منها على حدة.

أولاً، الوظائف والمهمات

عند التفكير في الوظائف والمهمات، ابدأ بفهم أهم العوامل المؤثرة في الإنتاجية في كل منهما، كالطاقة والتركيز والتنسيق والتعاون. ثم حاول التعرّف على مدى تأثر هذه العوامل بتغيير ترتيبات العمل على محوري الزمان والمكان. ولتوضيح هذه النقطة، دعونا نلقِ نظرة فاحصة على بعض أنواع الوظائف والمهمات، وأهم العوامل المؤثرة فيها، واحتياجات الزمان والمكان التي ينطوي عليها كلٌ منها:

المخطِّط الاستراتيجي. يعتبر التركيز أحد أهم العوامل المؤثرة في إنتاجية مَنْ يضطلعون بهذا الدور. فغالباً ما يحتاج المخططون إلى العمل دون إزعاج لفترات لا تقل عن ثلاث ساعات من أجل جمع معلومات عن السوق، مثلاً، ووضع خطط العمل. وهكذا، فإن المحور الذي يتيح التركيز بشكل أفضل هو الزمان، ممثلاً على وجه التحديد في الوقت غير المتزامن. وإذا تم إعفاء المخططين من الواجبات المسندة إلى الآخرين، يصبح المكان أقل أهمية، لأنهم سيستطيعون حينذاك أداء عملهم إما في المنزل أو في المكتب.

مدير الفريق. يعتبر التنسيق أهم العوامل المؤثرة في الإنتاجية هنا. إذ يحتاج المدراء إلى إطلاع أعضاء الفريق على الملاحظات أولاً بأول وبصورة منتظمة. ويجب عليهم فتح باب الحوار والنقاش مع أعضاء فريقهم وإطلاعهم على أفضل المنهجيات وتوجيههم وتدريبهم. ويعتبر الزمان أيضاً هو المحور الأقدر على تشجيع هذا الجانب من الإنتاجية، ولكن يجب أن يكون الوقت متزامناً في هذه الحالة. وإذا أمكن ترتيب هذه المسألة بهذا الشكل، فسيصبح المكان أقل أهمية مرة أخرى: إذ يستطيع المدراء والموظفون تنسيق مهماتهم معاً في المقرات المكتبية أو من منازلهم على منصات، مثل “زووم” و”مايكروسوفت تيمز” (Microsoft Teams).

ترتيبات العمل على أساس المكان والزمان

لطالما كان العمل في المقرات المكتبية من السـاعة 9 صباحاً إلى السـاعة 5 مسـاء هو القاعدة الأساسـية، ولم تكن الشـركات تسـمح إلا بقدر محدود من المرونة فيما يخص مـكان وزمـان عمل الموظفين. وقد أدت الجائحة إلى قلب هذا النموذج رأسـاً على عقب بعـد أن أدرك المـدراء أن الكثير من الموظفين يمكنهم العمل بشـكل بنّاء في أي مكان وزمان.

مبتكِر المنتج. يعتبر التعاون أهم العوامل المؤثرة في هذا الدور. لكن المكان هو المحور المهم الآن. حيث يتم تحفيز الابتكار من خلال التواصل المباشر وجهاً لوجه مع الزملاء والشركاء والعملاء الذين يولدون الأفكار بشتى الطرق من خلال العصف الذهني في مجموعات صغيرة، والالتقاء ببعضهم في ممرات الشركة وإجراء المحادثات بين الاجتماعات وحضور الجلسات الجماعية. ويتم تعزيز هذا النوع من التعاون بشكل أكثر فاعلية في مواقع العمل المشتركة، كالمقرات المكتبية أو مراكز الإبداع التي تتاح فيها الفرصة أمام الموظفين للتعرف على بعضهم والتواصل فيما بينهم. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب أن تكون المهمات التعاونية متزامنة ويتم إجراؤها في حيّز مشترك.

وبإلقاء نظرة فاحصة على المستقبل، يمكننا أن نتوقع تراجع أهمية الحيز المادي المشترك بفعل تطور التكنولوجيا التعاونية الأكثر تعقيداً.

مدير التسويق. تعتبر الطاقة المستدامة مطلباً أساسياً للإنتاجية في هذا الدور، وفي معظم الأدوار في واقع الأمر. ويمكن أن يلعب كلٌ من الزمان والمكان دوراً مهماً هنا. وقد علمتنا الجائحة أن الكثير من الموظفين يجدون أن المكوث في المنزل يبعث فيهم الطاقة والحيوية لأنه يعفيهم من عبء التنقل لمسافات طويلة، ويتيح لهم الفرصة خلال النهار لممارسة الرياضة والمشي، ما يتيح لهم إمكانية تناول طعام صحي وقضاء المزيد من الوقت مع أفراد أُسرهم.

ولا تقتصر تحديات تصميم ترتيبات العمل الهجينة على استغلال المزايا فحسب، بل تشمل أيضاً تقليل الجوانب السلبية وفهم الخيارات المتاحة بين المزايا والعيوب. فقد يؤدي العمل من المنزل إلى تعزيز الطاقة والحيوية، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى زيادة الانعزالية بطريقة تعيق التعاون المشترك. وقد يؤدي العمل وفقاً لجدول مواعيد متزامن إلى تحسين التنسيق، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى تلقي الكثير من الاتصالات والتعرض للمقاطعات المستمرة بطريقة تزعزع التركيز.

وللتغلب على هذه الجوانب السلبية المحتملة، التزم هيراماتسو وفريقه في شركة “فوجيتسو” بإنشاء منظومة للحيّز المكاني تشكل معاً ما يسمونه المكتب الخالي من الحدود. ويمكن أن تتخذ هذه المساحات عدة أشكال اعتماداً على العوامل المؤثرة في الإنتاجية المحددة للموظفين أو الفرق، ممثلةً فيما يلي: المراكز التي تزيد من إمكانية التعاون، والمواقع التابعة التي تتيح سهولة التنسيق، والمكاتب المشتركة التي تتيح التركيز.

عند التفكير في الوظائف والمهمات، ضع نصب عينيك أهم العوامل المؤثرة في الإنتاجية، كالطاقة والتركيز والتنسيق والتعاون، واعرف كيف ستتأثر هذه العوامل بتغيير ترتيبات العمل.

وقد تم تصميم مراكز شركة “فوجيتسو” بطريقة تراعي التعاون المشترك بين مختلف التخصصات واللقاءات المتكررة بطريقة غير مخططة. تقع هذه المراكز في المدن الكبرى، وبالتالي فهي تتمتع بسبل الراحة وتتوافر بها المساحات المفتوحة، كما أنها مجهزة بالتقنيات التكنولوجية المتقدمة اللازمة لتوليد الأفكار وبناء فرق العمل والإبداع المشترك لابتكار منتجات جديدة. وعندما يرغب موظفو شركة “فوجيتسو” في العمل بشكل خلّاق مع العملاء أو الشركاء، فإنهم يدعونهم إلى أحد هذه المراكز.

وتشكل المواقع التابعة للشركة مساحات مصممة لتسهيل التنسيق في الفريق الواحد وبين الفرق التي تعمل على مشاريع مشتركة. فهي تحتوي على مساحات مُعدّة للاجتماعات تتيح للفرق إمكانية الالتقاء معاً على المستويين الشخصي والافتراضي، مدعومة بشبكات آمنة وأدوات متطورة لمؤتمرات الفيديو. تعمل هذه الفرص التنسيقية، خاصةً المقابلات المباشرة وجهاً لوجه، على معالجة بعض أشكال العزلة والوحدة التي قد يعانيها الموظفون عند العمل من المنزل.

تشكل المكاتب المشتركة القوام الرئيسي لمنظومة مساحات العمل بشركة “فوجيتسو” في مختلف أنحاء اليابان، وتقع في الغالب بالقرب من محطات القطار أو داخلها في المدن والضواحي. ويمكن استخدامها كمحطات للتوقف المؤقت عندما يسافر الموظفون لزيارة العملاء، أو كبدائل للعمل في المنزل. وهي مصممة للاستخدام كمساحات هادئة يستطيع الموظفون الوصول إليها بسهولة، وبالتالي تقليل وقت التنقل.

وهكذا يعتبر التركيز هدف الإنتاجية في هذا المقام. وتم تجهيز المكاتب المشتركة بالمناضد وأجهزة الاتصال بالإنترنت، بحيث تتيح للموظفين العمل بشكل مستقل ودون إزعاج أو حضور الاجتماعات عبر الإنترنت أو المشاركة في التعلم عن بُعد.

ثانياً، تفضيلات الموظفين

تختلف قدرتنا على العمل بأقصى إنتاجية وتقديم أفضل مستويات الأداء، وتتباين بصورة كبيرة وفقاً لتفضيلاتنا الشخصية. لذا لا بد من مراعاة تفضيلات موظفيك عند تصميم نموذج العمل الهجين، وتمكين الآخرين من فهم هذه التفضيلات والتكيف معها.

تخيل، على سبيل المثال، مخطِّطَين استراتيجيين يشغلان الوظيفة نفسها في الشركة نفسها، وأن التركيز من أهم العوامل المؤثرة في مستوى أدائهما. أحدهما يسمى خالد، ويبلغ من العمر 40 عاماً. يعيش خالد وأسرته على مسافة بعيدة بعض الشيء عن مكتبه، ما يضطره إلى تضييع ساعة كاملة من وقته يومياً في الذهاب إلى العمل والمجيء منه. لديه مكتب منزلي مجهز جيداً، وأطفاله في المدرسة خلال النهار، لذا ليس من المستغرب أن يشعر خالد بأنه سيصير أكثر إنتاجية وقدرة على التركيز عندما يتخلص من دواعي التنقل يومياً والبقاء في المنزل بمفرده لأداء العمل المكلف به. يفضل خالد أيضاً الذهاب إلى المكتب مرة أو مرتين في الأسبوع للقاء فريقه.

أما وضع ليلى فمختلف تماماً. تبلغ ليلى من العمر 28 عاماً. وتعيش في وسط المدينة في شقة صغيرة مشتركة مع ثلاث فتيات أخريات. ولا يمكنها العمل لفترات طويلة في المنزل دون إزعاج بسبب وضعها المعيشي. وتفضل أن تعمل من المكتب حتى تستطيع التركيز، علماً بأن المكتب ليس بعيداً عن المكان الذي تعيش فيه.

ثمة فارق آخر بين خالد وليلى، ألا وهو مدة العمل في الشركة. يؤثر هذا العامل أيضاً على تفضيلاتهما. فقد مضى على عمل خالد في الشركة أكثر من ثماني سنوات واستطاع إنشاء شبكة قوية من العلاقات، لذا فإن الوقت الذي يقضيه في المكتب لا يمثل عنصراً مهماً في مسيرة تعلمه أو تطوره. من ناحية أخرى، فإن ليلى لا تزال مستجدة في الشركة وتحرص على تلقي التوجيه والتدريب، وهي أنشطة تتطلب قضاء بعض الوقت مع زملائها في المكتب.

تبذل الشركات كل جهدها للتعرف على آراء وتصورات موظفيها خلال مساعيها لتطبيق نظام العمل الهجين. وكثيراً ما تعمل الشركات، مثل إحدى شركات التكنولوجيا العضو في اتحاد “فيوتشر أوف وورك كونسورتيم”، على تزويد مدرائها بأدوات بسيطة للاستقصاء التشخيصي التي تعينهم على فهم التفضيلات الشخصية لأعضاء فرقهم وسياقات العمل والمهمات الرئيسية بصورة أدق، وهي الأدوات التي تسمح لهم بالتعرف، مثلاً، على المكان الذي يشعر فيه أعضاء فريقهم بأنهم في قمة نشاطهم وحيويتهم وما إذا كان لديهم مكتب مجهز جيداً في المنزل، بالإضافة إلى التعرف على احتياجاتهم للتعاون والتنسيق والتركيز.

وقد اتبعت شركة “إكوينور” (Equinor) النرويجية المتخصصة في الطاقة مؤخراً نهجاً مبتكراً لفهم موظفيها، وذلك بأن حرصت على استقصاء آرائهم حول تفضيلاتهم، وطوّرت 9 “شخصيات تخيلية” مركبة، مع مبادئ توجيهية محددة لترتيبات العمل الهجينة المصممة لكل شخصية منها. حيث توصف إحدى الشخصيات على النحو التالي: “آنا” مديرة قطاع في أوسلو، تعمل مع الشركة منذ 20 عاماً. لديها ثلاثة أبناء في سن المراهقة وكانت تذهب إلى المكتب بالدراجة في رحلة تستغرق 40 دقيقة يومياً. قبل تفشي جائحة “كوفيد-19″، كانت تعمل أسبوعاً في المكتب وأسبوعاً من المنزل حتى تستطيع التركيز في المقام الأول. ولكن مع اضطرار أبنائها المراهقين الآن إلى تلقي دروسهم التعليمية عن بُعد في المنزل، فغالباً ما يتشتت انتباهها عند العمل من المنزل. وعندما تنقشع غمة الجائحة ويعود أطفالها إلى المدرسة، تأمل آنا أن تقضي يومين أسبوعياً في المنزل للتركيز في عملها، وثلاثة أيام في المكتب للتعاون مع فريقها.

حينما يسعى المدراء إلى تحديد أفضل الترتيبات الهجينة لفرقهم، فإنهم يفكرون مثلاً في كيفية الاستجابة لتطلعات موظفة مثل آنا، وذلك من خلال الإجابة عن السؤال التالي: كيف ستؤثر ظروفها وتفضيلاتها على قدرتها على التعاون مع الآخرين؟ ويراعي المدراء في السياقات العامة الآثار المترتبة على النظام المتبع في الفرق الافتراضية المؤلفة من شخصيات متباينة. ما المخاطر التي تهدد سلامة العمليات وأمنها وفاعليتها؟ وكيف ستؤثر التغييرات على الجوانب الماسة بالتعاون المشترك وآليات القيادة والثقافة المؤسسية؟ ما الآثار العامة التي قد تترتب على هذه الإجراءات فيما يخص الضرائب والامتثال وسمعة الشركة ككل؟

ثالثاً، المشاريع وسير العمل

إذا أردت النجاح في تنفيذ النظام الهجين، فعليك أن تفكّر جدياً في كيفية إنجاز العمل. ومن هنا يجب على المسؤول التنفيذي الذي يدير خالد وليلى، المخطِّطَين الاستراتيجيين الافتراضيين المذكورين أعلاه، ألّا يكتفي بمراعاة احتياجاتهما وتفضيلاتهما فحسب، بل يجب عليه أيضاً تنظيم العمل المكلفين بأدائه بالتنسيق مع زملائهما في الفريق ومع باقي التخصصات الأخرى وكافة الأطراف المتأثرة بعملهما. كان هذا النوع من التنسيق واضحاً نسبياً عندما كان أعضاء الفريق يعملون جميعاً في المكان نفسه وفي الزمان نفسه. لكن في عصر العمل الهجين، بات الأمر أكثر تعقيداً إلى حدٍّ كبير. وقد لاحظتُ أن المسؤولين التنفيذيين يتعاملون مع هذا الأمر بطريقتين.

تتمثل أولاهما في تعزيز استخدام التكنولوجيا بشكل كبير لتنسيق الأنشطة مع انتقال الموظفين إلى ترتيبات عمل أكثر مرونة. انظر على سبيل المثال إلى حالة جوناس، الموظف بشركة “إكوينور”. يعمل جوناس مهندس مراقبة في معمل “كولسنيس” (Kollsnes) لمعالجة الغاز المستخرج من حقول بحر الشمال. بعد تفشي الجائحة، سمح مدراء المعمل لجوناس وفريقه بتنفيذ بعض مهمات المراقبة من المنزل، من خلال تزويدهم بأحدث أدوات الفيديو والأدوات الرقمية. وتشمل هذه الأدوات، على سبيل المثال، الأجهزة الروبوتية التي تتحرك في مختلف جوانب المعمل وتسجل البيانات المرئية بكل تفاصيلها لحظة بلحظة، ثم يتم بثها إلى كل أعضاء الفريق لتحليلها. وهكذا بات جوناس وزملاؤه يستطيعون الآن إجراء عمليات المراقبة بدقة تامة وضمان السلامة الميدانية عن بُعد بفضل هذه التغييرات.

ومن جانبهم، يستخدم مدراء شركة “فوجيتسو” مجموعة من الأدوات الرقمية لتصنيف أنواع العمل الذي تؤديه فرقهم ويضعون لها تصورات محددة في أثناء تجربتهم لترتيبات جديدة على محوري الزمان والمكان. وقد مكّنهم هذا بدوره من تقييم عبء العمل الفردي والجماعي بشكل أدق وتحليل ظروف العمل عن بُعد وتأكيد توقعات العمل. ويستطيع قادة الفريق أيضاً فهم أنماط عمل الموظفين من خلال دراسة بيانات الحركة التفصيلية وفحص استخدام الحيّز المكاني وبيانات كثافة إشغال المساحات. يتيح ذلك لمدراء “فوجيتسو” تصميم الترتيبات المناسبة لسير العمل والمشاريع في شركتهم.

ويستغل عددٌ من الشركات الأخرى هذه اللحظة الفارقة كفرصة لوضع تصور جديد لسير العمل. ويجب ألا تكرِّر الترتيبات الهجينة الجديدة الممارسات السيئة المتبعة حالياً، كما كان الحال عندما بدأت الشركات في أتمتة إجراءات العمل خلال العقود الماضية. وبدلاً من إعادة تصميم سير العمل للاستفادة من الإمكانيات المتاحة من خلال التقنيات التكنولوجية الجديدة، لجأ الكثير من الشركات بكل بساطة إلى إدراجها ضمن الإجراءات الحالية، وتكرار عيوبها وخصوصياتها وحلولها عن غير قصد. ولم تكن الشركات تجني ثمار هذه التقنيات التكنولوجية الجديدة إلا بعد مضي سنوات وبعد الكثير من الجولات المؤلمة من إعادة الهيكلة.

يجب على الشركات التي تريد تصميم ترتيبات هجينة أن تعمل بجدية للحفاظ على سلامة سير العمل في المقام الأول. وقد حاول قادة بنك عضو في اتحاد “فيوتشر أوف وورك كونسورتيم” تحليل سير العمل ووضع تصور جديد له من خلال طرح ثلاثة أسئلة مهمة:

هل هناك مهمات جماعية يمكن الاستغناء عنها؟ عندما طرح المسؤولون التنفيذيون في البنك هذا السؤال على أنفسهم، أدركوا أنهم كانوا يحتفظون في نموذجهم الهجين الجديد بالكثير من الاجتماعات التقليدية. واستطاعوا تعزيز الإنتاجية من خلال التخلص من بعضها وعقد البعض الآخر (مثل تحديثات الحالة) بصورة غير متزامنة.

هل هناك مهمات يمكن أتمتتها أو إعادة توزيعها على أشخاص من خارج الفريق؟ أدرك المسؤولون التنفيذيون في البنك أن الإجابة البسيطة عن هذا السؤال هي “نعم” فيما يخص الكثير من الترتيبات الهجينة الجديدة. ولك أن تنظر مثلاً إلى عملية فتح حساب لعميل جديد من أصحاب الأرصدة الكبيرة. قبل تفشي جائحة “كوفيد-19″، كان الجميع يفترضون أن هذا الإجراء يتطلب عقد اجتماعات شخصية مع العميل والحصول على توقيعاته. ولكن بات مدراء البنك وعملاؤه على حد سواء يدركون الآن سهولة وأهمية استيفاء الإجراءات عن بُعد، بفضل إعادة تصميم العملية برمتها خلال الجائحة.

هل يمكننا وضع تصور جديد للغرض من مكان عملنا؟ تبيَّن هنا أيضاً أن الإجابة هي “نعم”. ولإنجاح نموذجهم الهجين، قرر المسؤولون التنفيذيون في البنك إعادة تصميم الحيز المكتبي الحالي بطرق من شأنها أن تشجع على التعاون والإبداع، واستثمروا كثيراً في الأدوات اللازمة لتمكين الموظفين من العمل بشكل فاعل وتعاوني في المنزل.

يجب ألا تكرِّر الترتيبات الهجينة الممارسات السيئة المتبعة حالياً، كما كان الحال عندما بدأت الشركات في أتمتة إجراءات العمل خلال العقود الماضية.

رابعاً، الشمول والإنصاف

عند إقدامك على تطوير ممارسات وعمليات هجينة جديدة، وجّه تركيزك إلى المسائل المرتبطة بالشمول والإنصاف. وهذا أمرٌ مهمٌ للغاية. فقد أثبتت الأبحاث أن الشعور بالظلم في مكان العمل يضر بالإنتاجية ويزيد من الإحساس بالاحتراق الوظيفي ويقلل من فرص التعاون ومعدلات استبقاء الموظفين.

عندما بدأت الشركات في الماضي خوض تجربة منهجيات العمل المرنة، كانت تسمح عادةً للمدراء بإدارة العملية حسب ظروف كل مدير على حدة. وتم منح الإدارات والفرق المختلفة نتيجة لذلك درجات متفاوتة من المرونة والحرية، ما أدى بالضرورة إلى تبادل الاتهامات بالظلم. وكان لدى الكثير من الموظفين بطبيعة الحال مهمات تعتمد على الوجود في زمان ومكان محددَين، وهو ما جعل الترتيبات الهجينة إما مستحيلة أو أبعد ما يكون عن المثالية. وكانوا يشعرون في الغالب بأنهم يلقون معاملة غير عادلة.

وقد أبلت شركة “بريت إنشورانس” (Brit Insurance) للتأمين بلاءً حسناً فيما يخص مسألتي الشمول والإنصاف. فحينما شرع الرئيس التنفيذي للشركة، ماثيو ويلسون، ومديرة الاندماج بها، لورين ديني، في تصميم طرق عمل جديدة وتنفيذها مطلع عام 2020، اتخذا خياراً جريئاً. وبدلاً من إشراك “المشتبه بهم المعتادين” في عملية التصميم، اختارا بشكل عشوائي موظفين من مقرات الشركة في الولايات المتحدة وبرمودا ولندن الذين يمثلون 10% من قوة العمل، بدايةً من موظفي الاستقبال إلى كبار مسؤولي المخاطر التأمينية.

وشكّلت الشركة خلال الأشهر الستة التالية فرقاً مكونة من 6 موظفين تم اختيارهم من مختلف الأقسام والمستويات والأجيال، وطلبت من أعضاء كل فريق العمل معاً عبر الوسائل الافتراضية. وبدأ أعضاء هذه الفرق بأدوات التشخيص التي ساعدتهم على تحديد قدراتهم وتفضيلاتهم في العمل ومشاركتها. ثم شرعوا في سلسلة من وحدات التعلم المصممة لوضع رؤى أعمق حول كيفية العمل معاً لتلبية احتياجات بعضهم واحتياجات الشركة ككل بشكل أفضل. وأخيراً، شاركوا في “هاكاثون” افتراضي لمدة نصف يوم، توصلوا خلاله إلى بعض الأفكار وعرضوها على الرئيس التنفيذي للشركة. وكانت النتيجة ما أطلقوا عليه “دليل بريت الإرشادي” الذي تناول بعض الطرق الجديدة التي سيعملون بها جميعاً معاً منذ هذه اللحظة.

واتخذت سيلينا ميلستام، نائبة الرئيس ورئيسة إدارة المواهب في شركة “إريكسون” السويدية متعددة الجنسيات، خطوات مماثلة مؤخراً على صعيد الشمول. حيث قررت هي والفريق التنفيذي أن كل ترتيبات العمل الجديدة يجب أن تتواءم مع ثقافة الشركة التي تتمثل أهم جوانبها في “بيئة تحث على التعبير عن الآراء بصراحة تامة” و”التعاطف” و”التعاون والتآزر”.

وللتأكد من الامتثال لهذه الجوانب الثقافية، حرصت ميلستام وفريقها العام الماضي على إشراك الموظفين في “جلسات جماعية” تم إجراؤها افتراضياً خلال فترة 72 ساعة وبدعم من فريق من الميسّرين الذين عملوا لاحقاً على تحليل سلاسل المحادثات. لعبت إحدى هذه الجلسات التي تم إطلاقها في أواخر أبريل/نيسان 2020 دوراً مهماً في منح موظفي شركة “إريكسون” منصة للحديث عن أثر الطرق الهجينة للعمل خلال الجائحة على ثقافة الشركة. وقد شارك أكثر من 17,000 موظف من 132 دولة في هذه المحادثة الافتراضية. وأدلى المشاركون بحوالي 28,000 تعليق تناولوا فيها التحديات الناجمة عن العمل إبان الجائحة (مثل الافتقار إلى التواصل الاجتماعي) ومزاياه (مثل زيادة الإنتاجية من خلال تقليل المشتتات).

ساعدت هذه الجلسة وأمثالها كبار مسؤولي شركة “إريكسون” على تطوير فهم أكثر دقة للقضايا والأولويات التي يتعين عليهم مراعاتها عند تصميم ترتيبات العمل الهجينة. وأدركوا حينذاك أن التغيير سيولّد حتماً مشاعر الظلم وعدم المساواة، وأن أفضل طريقة لحل هذه المشكلة هي ضمان مشاركة أكبر عدد ممكن من الموظفين في عملية التصميم. إذ يجب سماع أصواتهم، وأن يسمعوا أصوات الآخرين، وأن يعرفوا أن التغييرات التي يتم إجراؤها ليست نتاجاً لأهواء المدراء وأحاسيسهم فقط.

فكيف يمكنك إذاً دفع شركتك نحو تطبيق نموذج العمل في أي مكان وزمان؟ ابدأ بتحديد الوظائف والمهمات الرئيسية، وحدد العوامل المؤثرة في الإنتاجية ومستوى الأداء في كل منهما، وفكِّر في الترتيبات التي من شأنها أن تلبي هذه العوامل على أفضل ما يكون. واحرص على إشراك الموظفين في العملية باستخدام مزيج من الاستقصاءات والشخصيات التخيلية والمقابلات الشخصية لفهم ما يريدونه ويحتاجون إليه حقاً. واعلم أن هذا يختلف بشكل كبير من شركة إلى أخرى، لذا لا تحاول اتباع الطرق المختصرة. وسّع مداركك وفكّر بشكل إبداعي مع التركيز على التخلص من الازدواجية والعناصر غير البنّاءة في ترتيبات عملك الحالية. تواصل على أوسع نطاق ممكن بحيث يفهم الجميع في كل مراحل رحلتك أثر الترتيبات الهجينة في تعزيز إنتاجيتهم بدلاً من استنزافها. ودرّب القادة على وسائل إدارة الفرق الهجينة، واستثمر في أدوات التنسيق التي ستساعد فرقك على مواءمة جداول مواعيدهم.

وأخيراً، اسأل نفسك عما إذا كانت ترتيباتك الهجينة الجديدة، أياً كانت طبيعتها، تُبرز قيم شركتك وتدعم ثقافتها. وحاول أن تجيب عن السؤال التالي بعناية ودقة تامتين: هل كانت التغييرات التي أجريتها ترسي أساساً للمستقبل سيجده كل فرد في الشركة جذاباً وعادلاً وملهماً وذا معنى؟

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .