أثر تتبع السير الذاتية في تطوير مسارك المهني

4 دقائق
السير الذاتية
shutterstock.com/MR Gao
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ليست كتب السيرة الذاتية مجرد حكاية أو رواية تشدنا أحداثها وتثير فضولنا لما قد تكون نهايتها وكأنها رواية ألّفها أحد الكتّاب الأذكياء، بل هي نافذة نطل منها لنطَّلع على حياة أخرى غير تلك التي نعيشها، وفرصة لنتقمص دور روح أخرى عاشت في زمننا أو في زمن آخر، وننخرط في تجاربها ونسلك طرقاتها صعوداً وهبوطاً وانعطافاً، نظراً لأن السيرة الذاتية نوع أدبي يتضمن سرد المؤلف لتجارب حياته الشخصية، ومن هذا المنطلق يمكن أن يكون لقراءة هذا النوع من الأدب تأثير عميق في تكوين الذات وتطويرها، لا سيما على الصعيد المهني والمسار الوظيفي.

يقول الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب غابرييل غارسيا ماركيز في مقدمة كتاب سيرته: “الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”؛ وعليه فإن أغلب من يعتقدون أن لديهم ما يستحق أن يُروى ويحفظه التاريخ، يكتبون في مراحل متقدمة من حياتهم، لحظات يتوقفون فيها عن الانهماك اليومي في الأعمال والمهام، ويبدؤون في تدوين تجاربهم وذكراهم على مر الأيام، ولهذا تُعدّ بعض هذه السيَر مجمعاً للجهود الإنسانية، والتجارب الحياتية المهمة، وأضواء كاشفة لمن خلفهم من ممارسي مختلف الأعمال في حياتهم.

وهذا بالضبط هو ما يجعل السير الذاتية عالماً معرفياً قائماً بذاته ومؤثراً في التجربة الإنسانية ككل وفي العمل والمهن خصوصاً، وذلك من خلال عدة مستويات وهي:

  • إن قراءة السير الذاتية والاطلاع على تجارب الآخرين سواء كانت ناجحة أم فاشلة أو تلك المترعة بمواقف الكفاح وتجاوز العقبات، تساعد القارئ على فهم أفضل لتجربته الخاصة ورؤيتها من منظور جديد، ويمكن أن يكون هذا مفيداً جداً ويعطي شعوراً بالأمل والإلهام.
  • ثم إن القراءة عن حياة الآخرين تكسب القارئ فهماً أعمق لوجهات نظر وتجارب أولئك الذين يختلفون عنه، ويسمح له بترك هامش أكبر من التنوع، ويساعد على كسر جمود وجهة النظر الواحدة التي قد تكون مسيطرة عليه. هذا الجمود يسميه علماء النفس “الارتساء“، وهو ظاهرة بشرية شائعة تحدث عندما يُعتمد أساساً على معلومة واحدة أو عدد محدود جداً من المعلومات لاتخاذ القرار. اشتُقت هذه التسمية من مرساة السفينة التي تَعلق في مكان ما تحت الماء بهدف تثبيت السفينة، والشيء نفسه بالنسبة للعقل البشري الذي يعلق بمعلومة ما ويبني عليها مختلف القرارات.
  • يمكن أن تساعد قراءة السير الذاتية في تعزيز التفكير والوعي بالذات، عندما يتفاعل القارئ مع قصص الآخرين، قد يحفز ذلك التفكير في تجاربه الخاصة وكيفية تشكيلها، ويمكن أن يؤدي إلى فهم أكبر للذات ويساعد في تعزيز النمو والتطور الشخصي، وهو أمر مهم جداً على مستوى المسار الوظيفي، إذ يؤكد دانيال غولمان في مقاله الشهير “ما الذي يصنع القائد” أن الوعي الذاتي من الصفات الرئيسة التي تميّز أفضل القادة والمدراء.

علاوة على ذلك، يمكن أن تكون قراءة السير الذاتية أداة فعالة لتطوير الذات توفر المنظور والتعاطف والتأمل الذاتي، وتعزز النمو الشخصي والفهم وهي طريقة ممتازة لاكتساب المعرفة والتعلم من الآخرين وفهم أفضل للتجربة الإنسانية.

هل السيرة الذاتية المميزة خلفها شخصية ناجحة بالضرورة؟

يمكن أن تكون السيرة الذاتية انعكاساً لإنجازات الشخص وخبراته ووجهات نظره، ويمكن أن تتضمن معلومات حول تربيته وتعليمه فتنتج سيرة ذاتية مميزة وتقدم الكثير لمن يقرأها بناء على تميز صاحبها، وعلى اعتبار أنه شخص متميز أو مرموق في مجاله أو مجتمعه، ومع ذلك، فإن التميز في السير الذاتية لا يعني بالضرورة أن الشخص هو شخصية ناجحة.

إذ يمكن تعريف النجاح بعدة طرائق مختلفة ويمكن أن يختلف من شخص لآخر، فالثروة المالية والإنجازات المهنية والعلاقات الشخصية والمساهمات في المجتمع وغيرها كلها أوجه ومجالات للنجاح، وقد لا يكون الشخص المتميز في أحد مجالات حياته، مثل حياته المهنية، ناجحاً في مجالات أخرى، مثل حياته الشخصية.

بالإضافة إلى ذلك، لا يتعلق نجاح الشخصية بالإنجازات فحسب، بل يتعلق أيضاً بالقيم والمواقف والسلوكيات التي يحملها الشخص ويعرضها، على سبيل المثال، يمكن لأي شخص أن يكون ناجحًا في حياته المهنية ولكن لا يكون نموذجاً جيداً أو يكون له تأثير إيجابي على الآخرين.

لذلك، يمكن القول إن السيرة الذاتية المميزة لشخص ما قد تقدم نظرة وافية إلى حياته وخبراته، ولكن لا ينبغي استخدامها كمقياس وحيد، فالنجاح متعدد الأوجه ويمكن تعريفه بشكل مختلف من قبل أشخاص مختلفين.

ما الذي يجعل السيرة الذاتية تستحق القراءة؟

اتفقنا أن السيرة الذاتية يمكن أن تكون طريقة رائعة للتعرف إلى حياة شخص ما وإنجازاته ونضالاته وقيمه ورؤيته وتأثيره على العالم، ويمكن أن تزود القارئ بفهم أعمق للشخص الذي يقرأ سيرته من جهة ولفهم ذاته من جهة أخرى فتكون مصدراً للإلهام والتحفيز، ولكن السؤال الأهم هنا ترى هل كل السير الذاتية تستحق القراءة؟ أستطيع أن أجزم أن الجواب هو لا! فهي، كأي عمل مكتوب، يمكن ألا تقدم، كلها، صورة دقيقة ومفيدة للقارئ.

كيف نعرف إذن أن سيرة ذاتية ما تستحق القراءة؟

هناك العديد من المقومات التي يمكن أن تجعل سيرة ذاتية، من وجهة نظري على الأقل، تستحق القراءة بالتأكيد:

  • الصدق والصراحة: يقول الروائي البريطاني جورج أوريل: “لا تعتبر السيرة الذاتية للشخص إذا لم يذكر فيها ما يعيبه، أو يتردد في ذكره على الملأ” أي أن الكاتب الذي يقدم تفاصيل حياته، التي يريد ذكرها في سيرته، بين دفتي كتاب بكل صدق وصراحة وشفافية ودون تحوير أو مراوغة، يستحق القراءة لأن صدقه يوفر فهماً عميقاً وحقيقياً لتجربته الإنسانية وهذا سينعكس عل فهم القارئ أيضاً.
  • السرد الجذاب: يمكن للسرد المكتوب جيداً والجذاب أن يجعل السيرة الذاتية أكثر تشويقاً ومتعة للقراءة.
  • الحكايات والتجارب الشخصية: يمكن أن توفر الحكايات والتجارب الشخصية منظوراً فريداً للأحداث التاريخية أو الظواهر الثقافية أو التجربة الإنسانية وتجعل السيرة الذاتية أكثر ارتباطاً.
  • السياق التاريخي والثقافي: يمكن أن تساعد السيرة الذاتية التي توفر السياق التاريخي والثقافي القارئ على فهم تجارب المؤلف والعالم الذي عاش فيه.
  • توازن جيد بين الحقائق والمشاعر: يجب أن يكون للسيرة الذاتية توازن جيد بين الحقائق والمشاعر، ولا يجب أن تكون مجرد قائمة بالإنجازات أو جلسة شكوى، بل يجب أن تكون مزيجاً من الاثنين معاً فتكون انعكاساً للمؤلف وتتجلى من خلالها الدروس المستفادة والأخطاء المرتكبة وكيفية تجاوز العقبات والنجاح والنمو الذي نتج عن كل كل التجارب في السيرة.
  • منظور فريد: يجب أن تكون السيرة الذاتية فريدة من نوعها، ولا ينبغي أن تكون نسخة من الآخرين ولكن يجب أن تقدم منظوراً جديداً للقارئ.
  • من المهم أن تكون السيرة الذاتية أيضاً قد نالت إعجاب النقاد والقراء ورواد القراءة، وهذا مؤشر مهم في كون السيرة الذاتية تستحق القراءة من عدمه.

يمكن أن تكون كتب السيرة الذاتية مفيدة في تكوين الذات لأنها توفر نظرة ثاقبة لتجارب ووجهات نظر المؤلف وتساعد القراءة عن تحديات ونجاحات الآخرين الأفراد على اكتساب فهم أفضل لأنفسهم وتجاربهم الخاصة. يمكن أن تكون كتب السيرة الذاتية مصدر إلهام وتحفيز للنمو الشخصي والتطور. إنها أيضاً طريقة للتعلم من تجارب الآخرين وكيف تغلبوا عليها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .